معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَٰكِنَّآ أَنشَأۡنَا قُرُونٗا فَتَطَاوَلَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡعُمُرُۚ وَمَا كُنتَ ثَاوِيٗا فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ تَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِنَا وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرۡسِلِينَ} (45)

قوله تعالى : { ولكنا أنشأنا قروناً } خلقنا أمماً من بعد موسى عليه السلام ، { فتطاول عليهم العمر } أي : طالت عليهم المهلة فنسوا عهد الله وميثاقه وتركوا أمره ، وذلك أن الله تعالى قد عهد إلى موسى وقومه يهوداً في محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به ، فلما طال عليهم العمر وخلفت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها . { وما كنت ثاوياً } مقيماً ، { في أهل مدين } كمقام موسى وشعيب فيهم ، { تتلو عليهم آياتنا } تذكرهم بالوعد والوعيد ، قال مقاتل : يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم ، { ولكنا كنا مرسلين } أي : أرسلناك رسولاً وأنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار ، فتتلوها عليهم ولولا ذلك لما علمتها ولم تخبرهم بها .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَٰكِنَّآ أَنشَأۡنَا قُرُونٗا فَتَطَاوَلَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡعُمُرُۚ وَمَا كُنتَ ثَاوِيٗا فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ تَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِنَا وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرۡسِلِينَ} (45)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَكِنّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيَ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : ( وَلَكِنّا أنْشأنا قُرُون )ا ولكنا خلقنا أمما فأحدثناها من بعد ذلك ( فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ العُمُرُ ) . وقوله : ( وَما كُنْتَ ثاوِيا فِي أهْلِ مَدْيَنَ ) يقول : وما كنت مقيما في أهل مدين ، يقال : ثويت بالمكان أثْوِي به ثَواء ، قال أعشي ثعلبة :

أثْوَى وَقَصّرَ لَيْلَهُ لِيُزَوّدا *** فَمَضَى وأخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدَا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما كُنْتَ ثاوِيا فِي أهْلِ مَدْيَنَ قال : الثاوي : المقيم تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا يقول : تقرأ عليهم كتابنا وَلَكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ يقول : لم تشهد شيئا من ذلك يا محمد ، ولكنا كنا نحن نفعل ذلك ونرسل الرسل .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَٰكِنَّآ أَنشَأۡنَا قُرُونٗا فَتَطَاوَلَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡعُمُرُۚ وَمَا كُنتَ ثَاوِيٗا فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ تَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِنَا وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرۡسِلِينَ} (45)

{ ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر }

خفي اتصال هذا الاستدراك بالكلام الذي قبله وكيف يكون استدراكاً وتعقيباً للكلام الأول برفع ما يتوهم ثبوته .

فبيانه أن قوله { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } [ القصص : 43 ] مسوق مساق إبطال تعجب المشركين من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حين لم يسبقها رسالة رسول إلى آبائهم الأولين ، كما علمت مما تقدم آنفاً ، فذكرهم بأن الله أرسل موسى كذلك بعد فترة عظيمة ، وأن الذين أرسل إليهم موسى أثاروا مثل هذه الشبهة فقالوا { ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } [ القصص : 36 ] فكما كانت رسالة موسى عليه السلام بعد فترة من الرسل كذلك كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى : فكان المشركون حقيقين بأن ينظروا رسالة محمد برسالة موسى ولكن الله أنشأ قروناً أي أمماً بين زمن موسى وزمنهم فتطاول الزمن فنسي المشركون رسالة موسى فقالوا { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة } [ ص : 7 ] . وحذف بقية الدليل وهو تقدير : فنسوا ، للإيجاز لظهوره من قوله { فتطاول عليهم العمر } كما قال تعالى عن اليهود حين صاروا يحرفون الكلم عن مواضعه { ونسوا حظاً مما ذكروا به } [ المائدة : 13 ] ، وقال عن النصارى { أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به } [ المائدة : 14 ] وقال لأمة محمد صلى الله عليه وسلم { ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم } [ الحديد : 16 ] ، فضمير الجمع في قوله { عليهم } عائد إلى المشركين لا إلى القرون .

فتبين أن الاستدراك متصل بقوله { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } [ القصص : 43 ] وأن ما بين ذلك وبين هذا استطراد . وهذا أحسن في بيان اتصال الاستدراك مما احتفل به صاحب « الكشاف » . ولله دره في استشعاره ، وشكر الله مبلغ جهده . وهو بهذا مخالف لموقع الاستدراكين الآتيين بعده من قوله { ولكنا كنا مرسلين } وقوله { ولكن رحمة من ربك } [ القصص : 46 ] . و { العمر } الأمد كقوله { فقد لبثت فيكم عمراً من قبله } [ يونس : 16 ] .

{ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا وَلَكِنَّا كنا مرسلين } .

هذا تكرير للدليل بمثل آخر مثل ما في قوله { وما كنت بجانب الغرب } [ القصص : 44 ] أي ما كنت مع موسى في وقت التكليم ولا كنت في أهل مدين إذ جاءهم موسى وحدث بينه وبين شعيب ما قصصنا عليك .

والثواء : الإقامة .

وضمير { عليهم } عائد إلى المشركين من أهل مكة لا إلى أهل مدْيَن لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتلو آيات الله على المشركين .

والمراد بالآيات ، الآيات المتضمنة قصة موسى في أهل مدين من قوله { ولما توجه تلقاء مدين } إلى قوله { فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله } [ القصص : 22 - 29 ] . وبمثل هذا المعنى قال مقاتل وهو الذي يستقيم به نظم الكلام ، ولو جعل الضمير عائداً إلى أهل مدين لكان أن يقال : تشهد فيهم آياتنا .

وجملة { تتلو عليهم آياتنا } على حسب تفسير مقاتل في موضع الحال من ضمير { كنت } وهي حال مقدرة لاختلاف زمنها مع زمن عاملها كما هو ظاهر . والمعنى : ما كنت مقيماً في أهل مدين كما يقيم المسافرون فإذا قفلوا من أسفارهم أخذوا يحدثون قومهم بما شاهدوا في البلاد الأخرى .

والاستدراك في قوله { ولكنا كنا مرسلين } ظاهر ، أي ما كنت حاضراً في أهل مدين فتعلم خبر موسى عن معاينة ولكنا كنا مرسلينك بوحينا فعلّمناك ما لم تكن تعلمه أنت ولا قومك من قبل هذا .

وعدل عن أن يقال : ولكنا أوحينا بذلك ، إلى قوله { ولكنا كنا مرسلين } لأن المقصد الأهم هو إثبات وقوع الرسالة من الله للرد على المشركين في قولهم وقول أمثالهم { ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } [ القصص : 36 ] وتعلم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة الالتزام مع ما يأتي من قوله { ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً } [ القصص : 46 ] الآية فالاحتجاج والتحدي في هذه الآية والآية التي قبلها تحد بما علمه النبي عليه الصلاة والسلام من خبر القصة الماضية .