السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَٰكِنَّآ أَنشَأۡنَا قُرُونٗا فَتَطَاوَلَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡعُمُرُۚ وَمَا كُنتَ ثَاوِيٗا فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ تَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِنَا وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرۡسِلِينَ} (45)

ولا شك أنّ معرفتك لذلك من قبيل الأخبار عن المغيَّبات التي لا تعرف إلا بالوحي ولذلك استدرك عنه بقوله تعالى : { ولكنا } أي : بما لنا من العظمة { أنشأنا } بعدما أهلكنا أهل ذلك الزمان الذين علموا هذه الأمور بالمشاهدة وهم السبعون المختارون للميقات أو بالإخبار كلهم { قروناً } أي : أمما كثيرة بعد موسى عليه السلام { فتطاول } أي : بمروره وعلوه { عليهم العمر } أي : ولكنا أوحينا إليك أنا أنشأنا قروناً مختلفة بعد موسى عليه السلام فتطاولت عليهم المدد فنسوا العهود واندرست العلوم وانقطع الوحي فحذف المستدرك وهو أوحينا وأقام سببه وهو الإنشاء مقامه على عادة الله تعالى في اختصاراته فهذا الاستدراك شبيه بالاستداركين بعده ، فإن قيل : ما الفائدة في إعادة قوله تعالى : { وما كنت من الشاهدين } بعد قوله : { وما كنت بجانب الغربي } لأنه ثبت بذلك أنه لم يكن شاهداً لأنّ الشاهد لا بدّ أن يكون حاضراً ؟ أجيب : بأنّ ابن عباس قال : التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت ما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى .

وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم ، وحمزة والكسائي بضمّ الهاء والميم ، وحمزة في الوقف بضمّ الهاء وسكون الميم ، والباقون في الوصل بكسر الهاء وضمّ الميم . ولما نفى العلم عن ذلك بطريق الشهود نفي سبب العلم بذلك بقوله تعالى : { وما كنت ثاوياً } أي : مقيماً إقامة طويلة مع الملازمة بمدين { في أهل مدين } أي : قوم شعيب عليه السلام كمقام موسى وشعيب فيهم { تتلوا } أي : تقرأ { عليهم } تعلماً منهم { آياتنا } العظيمة التي منها قصتهما لتكون ممن يهتم بأمور الوحي ويتعرّف دقيق أخباره فيكون خبرهم وخبر موسى عليه السلام معك { ولكنا كنا مرسلين } إياك رسولاً وأنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار تتلوها عليهم ولولا ذلك ما علمتها ولم تخبرهم بها .