نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَلَٰكِنَّآ أَنشَأۡنَا قُرُونٗا فَتَطَاوَلَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡعُمُرُۚ وَمَا كُنتَ ثَاوِيٗا فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ تَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِنَا وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرۡسِلِينَ} (45)

ولما كان التقدير : وما كنت من أهل ذلك الزمان الحاضرين لذلك الأمر ، وامتد عمرك إلى هذا الزمان حتى أخبرت بما كنت حاضره ، استدرك ضد ذلك فقال : { ولكنا } أي بما لنا من العظمة { أنشأنا } أي بعد ما أهلكنا أهل ذلك الزمان الذين علموا هذه الأمور بالمشاهدة والإخبار ، كلهم { قروناً } أي ما أخرنا أحداً من أهل ذلك الزمان ، ولكنا أهلكناهم كلهم وأنشأنا بعدهم أجيالاً كثيرة { فتطاول } بمروره وعلوه { عليهم العمر } جداً بتدرج من الزمان شيئاً فشيئاً فنسيت تلك الأخبار ، وحرفت ما بقي منها الرهبان والأحبار ، ولا سيما في زمان الفترة ، فوجب في حكمتنا إرسالك فأرسلناك لتقوم المحجة ، وتقوم بك الحجة ، فعلم أن إخبارك بهذا والحال أنك لم تشاهده ولا تعلمته من مخلوق إنما هو عنا وبوحينا .

ولما نفى العلم بذلك بطريق الشهود ، نفى سبب العلم بذلك فقال : { وما كنت ثاوياً } أي مقيماً إقامة طويلة مع الملازمة بمدين { في أهل مدين } أي قوم شعيب عليه السلام { تتلوا } أي تقرأ على سبيل القص للآثار والأخبار الحق { عليهم آياتنا } العظيمة ، لتكون ممن يهتم بأمور الوحي وتتعرف دقيق أخباره ، فيكون خبرهم وخبر موسى عليه الصلاة والسلام معهم وخبره بعد فراقه لهم من شأنك ، لتوفر داعيتك حينئذ على تعرفه { ولكنا كنا } أي كوناً أزلياً أبدياً نسبته إلى جميع الأزمنة بما لنا من العظمة ، على حد سواء { مرسلين* } أي لنا صفة القدرة على الإرسال ، فأرسلنا إلى كل نبي في وقته ثم أرسلنا إليك في هذا الزمان بأخبارهم وأخبار غيرهم لتنشرها في الناس ، واضحة البيان سالمة من الإلباس ، لأنا كنا شاهدين لذلك كله ، لم يغب عنا شيء منه ولا كان إلا بأمرنا .