معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ} (71)

قوله تعالى : { وامرأته } ، سارة بنت هاران بن أحور وهي ابنة عم إبراهيم . { قائمة } من وراء الستر تسمع كلامهم . وقيل : كانت قائمة تخدم الرسل ، وإبراهيم جالس معهم . { فضحكت } ، قال مجاهد وعكرمة : ضحكت أي : حاضت في الوقت ، تقول العرب : ضحكت الأرنب ، أي : حاضت والأكثرون على أن المراد منه الضحك المعروف . واختلفوا في سبب ضحكها ، قيل : ضحكت لزوال الخوف عنها وعن إبراهيم حين قالوا لا تخف . وقال السدي : لما قرب إبراهيم الطعام إليهم فلم يأكلوا خاف إبراهيم وظنهم لصوصا فقال لهم : ألا تأكلون ؟ قالوا : إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن ، قال إبراهيم : فإن له ثمنا ، قالوا وما ثمنه ؟ قال تذكرون اسم الله على أوله وتحمدونه على آخره ، فنظر جبريل إلى ميكائيل وقال : حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا . فلما رأى إبراهيم وسارة أيديهم لا تصل إليه ضحكت سارة ، وقالت : يا عجبا لأضيافنا إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا . وقال قتادة : ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم . وقال مقاتل و الكلبي : ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة في بيته وهو فيما بين خدمه وحشمه . وقيل : ضحكت سرورا بالبشارة . وقال ابن عباس ووهب : ضحكت تعجبا من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها . وعلى هذا القول تكون الآية على التقديم والتأخير ، تقديره : وأمرأته قائمة فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، فضحكت ، وقالت : يا ويلتي أألد وأنا عجوز ؟ . قوله تعالى : { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق } ، أي : من بعد إسحاق ، { يعقوب } ، أراد به والد الولد فبشرت أنها تعيش حتى ترى ولد ولدها قرأ ابن عامر وحمزة و حفص ويعقوب بنصب الباء ، أي : من وراء إسحاق يعقوب . وقيل : بإضمار فعل ، أي : ووهبنا له من وراء يعقوب . وقرأ الباقون بالرفع على حذف حرف الصفة . وقيل : ومن بعد إسحاق يحدث يعقوب ، فلما بشرت بالولد ضحكت فصكت وجهها ، أي : ضربت وجهها تعجبا .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ} (71)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } .

يقول تعالى ذكره : وَامْرأتُهُ سارّة بنت هاران بن ناحور بن ساروج بن راعو بن فالغ ، وهي ابنة عم إبراهيم . قائمَةٌ قيل : كانت قائمة من وراء الستر تستمع كلام الرسل وكلام إبراهيم عليه السلام . وقيل : كانت قائمة تخدم الرسل وإبراهيم جالس مع الرسل .

وقوله : فَضَحِكَتْ اختلف أهل التأويل في معنى قوله فَضَحِكَتْ وفي السبب الذي من أجله ضحكت ، فقال بعضهم : ضحكت الضحك المعروف تعجبا من أنها وزوجها إبراهيم يخدمان ضيفانهم بأنفسهما تكرمة لهم ، وهم عن طعامهم ممسكون لا يأكلون . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : بعث الله الملائكة لتهلك قوم لوط أقبلت تمشي في صورة رجال شباب ، حتى نزلوا على إبراهيم فتضيّفوه . فلما رآهم إبراهيم أجلّهم فراغَ إلى أهله ، فجاء بعجل سمين ، فذبحه ثم شواه في الرّضْف ، فهو الحنيذ حين شواه . وأتاهم فقعد معهم ، وقامت سارَة تخدمهم ، فذلك حين يقول : وَامْرأتُهُ قائمَةٌ وهو جالس . في قراءة ابن مسعود «فلما قرّبه إليهم قال ألا تأكلون » قالوا : يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن قال : فإن لهذا ثمنا . قالوا : وما ثمنه ؟ قال : تذكرون اسم الله على أوّله وتحمدونه على آخره . فنظر جبرئيل إلى ميكائيل فقال : حقّ لهذا أن يتخذه ربه خليلاً . فَلَمّا رَأى أيْدَيهُمْ لا تَصِلُ إلَيْهِ يقول : لا يأكلون ، فزع منهم وأوجس منهم خيفة فلما نظرت إليه سارّة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم ، ضحكت وقالت : عجبا لأضيافنا هؤلاء ، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا

وقال آخرون : بل ضحكت من أن قوم لوط في غفلة وقد جاءت رسل الله لهلاكهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : لما أوجس إبراهيم خيفة في نفسه حدّثوه عند ذلك بما جاءوا فيه ، فضحكت امرأته وعجِبت من أن قوما أتاهم العذاب وهم في غفلة ، فضحكت من ذلك وعجبت ، فبشرناها بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أنه قال : ضحكت تعجبا مما فيه قوم لوط من الغفلة ومما أتاهم من العذاب .

وقال آخرون : بل ضحكت ظنا منها بهم أنهم يريدون عمل قوم لوط . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن قيس ، في قوله : وامرأتهُ قائمَةٌ فَضَحكَتْ قال : لما جاءت الملائكة ظنت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط .

وقال آخرون : بل ضحكت لِمَا رأت بزوجها إبراهيم من الرّوع . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الكلبي : فضَحِكَتْ قال : ضحكت حينَ راعُوا إبراهيم مما رأت من الرّوع بإبراهيم .

وقال آخرون : بل ضحكت حين بشرت بإسحاق تعجبا من أن يكون لها ولد على كِبَر سنها وسنّ زوجها . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما أتى الملائكة إبراهيم عليه السلام فرآهم ، راعه هيئتهم وجمالهم ، فسلموا عليه ، وجلسوا إليه ، فقام فأمر بعجل سمين ، فحنذ له ، فقرّ إليهم الطعام . فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ، وسارَة وراء البيت تسمع قالوا : لا تخف إنا نبشرك بغلام حليم مبارك وبشّر به امرأته سارة ، فضحكت وعجبت كيف يكون لي ولد وأنا عجوز وهو شيخ كبير فقالوا : أتعجبين من أمر الله ؟ فإنه قادر على ما يشاء ، فقد وهبه الله لكم فأبشروا به .

وقد قال بعض من كان يتأوّل هذا التأويل : إن هذا من المقدّم الذي معناه التأخير ، وكأن معنى الكلام عنده : وامرأته قائمة ، فبشّرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، فضحكت وقالت : يا ويلتا أألد وأنا عجوز .

وقال آخرون : بل معنى قوله : «فضحكت » في هذا الموضع : فحاضت . ذكر من قال ذلك :

حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن عليّ بن هارون ، عن عمرو بن الأزهر ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : فَضَحِكَتْ قال : حاضت ، وكانت ابنة بضع وتسعين سنة . قال : وكان إبراهيم ابن مئة سنة .

وقال آخرون : بل ضحكت سرورا بالأمن منهم لما قالوا لإبراهيم : لا تخف ، وذلك أنه قد كان خافهم وخافتهم أيضا كما خافهم إبراهيم فلما أمنت ضحكت ، فأتبعوها البشارة بإسحاق . وقد كان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أنه لم يسمع ضحكت بمعنى حاضت من ثقة . وذكر بعض أهل العربية من البصريين أن بعض أهل الحجاز أخبره عن بعضهم أن العرب تقول ضحكت المرأة : حاضت ، قال : وقد قال : الضحك : الحيض ، وقد قال بعضهم : الضحك : العجب ، وذكر بيت أبي ذؤيب :

فجاءَ بِمَزْجٍ لَمْ يَرَ النّاسُ مِثْلَهُ *** هُوَ الضّحْكُ إلاّ أنّهُ عَمَلُ النّحْلِ

وذكر أن بعض أصحابه أنشده في الضحك بمعنى الحيض :

وَضَحْكُ الأرَانِبِ فَوْقَ الصّفا *** كمِثْلِ دَمِ الجَوْفِ يَوْمَ اللّقا

قال : وذكر له بعض أصحابه أنه سمع للكُمَيت :

فأضْحَكَتِ الضبّاعَ سيُوفُ سَعْدٍ *** بقَتْلَى ما دُفِنّ وَلا وُدِينا

وقال : يريد الحيض . قال : وبالحرث بن كعب يقولون : ضحكت النخلة : إذا أخرجت الطلع أو البسر . وقالوا : الضحك : الطلع . قال : وسمعنا من يحكي : أضحكت حوضا : أي ملأته حتى فاض . قال : وكأنّ المعنى قريب بعضه من بعض كله ، لأنه كأنه شيء يمتلىء فيفيض .

وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بالصواب قول من قال : معنى قوله : «فضحكت » : فعجبت من غفلة قوم لوط عما قد أحاط بهم من عذاب الله وغفلته عنه .

وإنما قُلْنا هذا القول أولى بالصواب لأنه ذكر عقيب قولهم لإبراهيم : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط . فإذْ كان ذلك كذلك ، وكان لا وجه للضحك والتعجب من قولهم لإبراهيم : لا تخف ، كان الضحك والتعجب إنما هو من أمر قوم لوط .

القول في تأويل قوله تعالى : فَبَشّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } .

يقول تعالى ذكره : فبشّرنا سارة امرأة إبراهيم ثوابا منا لها على نكيرها وعجبها من فعل قوم لوط بإسحاق ولدا لها . ومِنْ وَرَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ يقول : ومن خلف إسحاق يعقوب من ابنهاإسحاق . والوراء في كلام العرب : ولد الولد ، وكذلك تأوّله أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، قال : وَمِنْ وَرَاءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ قال : الوراء : ولد الولد .

حدثنا عمرو بن عليّ محمد بن المثنى ، قال كل واحد منهما : حدثني أبو اليسع إسماعيل بن حماد بن أبي المغيرة مولى الأشعري ، قال : كنت إلى جنب جدي أبي المغيرة بن مهران في مسجد عليّ بن زيد ، فمرّ بنا الحسن بن أبي الحسن ، فقال : يا أبا المغيرة من هذا الفتى ؟ قال : ابني من ورائي ، فقال الحسن : فَبَشّرناها بإسْحاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ .

حدثنا عمرو بن عليّ محمد بن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن أبي عديّ ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، في قوله : فَبَشّرْناها بإسْحاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ قال : ولد الولد هو الوراء .

حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد ، عن داود ، عن عامر ، في قوله : وَمِنْ وَرَاءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ قال : الوراء : ولد الولد .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبيّ ، مثله .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو عمرو الأزدي ، قال : سمعت الشعبيّ يقول : ولد الولد : هم الولد من الوراء .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس ومعه ابن ابنه ، فقال : من هذا معك ؟ قال : هذا ابني ، قال : هذا ولدك من الوراء . قال : فكأنه شقّ على ذلك الرجل ، فقال ابن عباس : إن الله يقول : فَبَشّرْناها بإسْحاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ فولد الولد : هم الوراء .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما ضحكت سارّة وقالت : عجبا لأضيافنا هؤلاء ، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا قال لها جبريل : أبشري بولد اسمه إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب . فضربت وجهها عجبا ، فذلك قوله : فَصكّتْ وَجْهَها وقالت : أألِدُ وأنا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلى شَيْخا إنّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أتَعْجَبينَ منْ أمْرِ اللّهِ رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أهْلَ البَيْتِ إنّهُ حَميدٌ مَجِيدٌ قالت سارّة : ما آية ذلك ؟ قال : فأخذ بيده عودا يابسا فلواه بين أصابعه ، فاهتزّ أخضر ، فقال إبراهيم : هو لله إذا ذبيحا .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فضحكت يعني سارّة لما عرفت من أمر الله جلّ ثناؤه ولما تعلم من قوم لوط فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يقعوب بابن وبابن ابن ، فقالت وصكّت وجهها يقال : ضربت على جبينها : يا وَيْلَتا ءألِدُ وأنا عَجُوز . . . . إلى قوله : إنّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء العراق والحجاز : «ومِنْ وَرَاءِ إسحاقَ يَعْقُوبُ » برفع «يعقوب » ، ويعيد ابتداء الكلام بقوله . وَمِنْ وَرَاءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ . وذلك وإن كان خبرا مبتدأ ، ففيه دلالة على معنى التبشير . وقرأه بعض قراء أهل الكوفة والشأم : وَمِنْ وَرَاءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ نصبا فأما الشامي منهما فذكر أنه كان ينحو بيعقوب نحو النصب بإضمار فعل آخر مشاكل للبشارة ، كأنه قال : ووهبنا له من وراء إسحاق يعقوب ، فلما لم يظهر «وهبنا » عمل فيه التبشير وعطف به على موضع «إسحاق » ، إذ كان إسحاق وإن كان مخفوضا فإنه بمعنى المنصوب بعمل «بشرنا » فيه ، كما قال الشاعر :

جِئْنِي بِمِثْلِ بني بَدْرٍ لقَومِهِمِ *** أوْ مِثْلَ أُسْرَةِ مَنْطُورِ بنِ سَيّارِ

أوْ عامِرِ بْنِ طُفَيْلٍ في مُرَكّبهِ *** أوْ حارِثا يَوْمَ نادَى القَوْمُ يا حارِ

وأما الكوفيّ منهما فإنه قرأه بتأويل الخفض فيما ذُكِر عنه ، غير أنه نصبه لأنه لا يُجْرَى . وقد أنكر ذلك أهل العلم بالعربية من أجل دخول الصفة بين حرف العطف والاسم ، وقالوا : خَطأ أن يقال : مررت بعمرو في الدار وفي الدار زيد ، وأنت عاطف بزيد على عمرو ، إلا بتكرير الباء وإعادتها ، فإن لم تعد كان وجه الكلام عندهم الرفع وجاز النصب ، فإن قدم الاسم على الصفة جاز حينئذ الخفض ، وذلك إذا قلت : مررت بعمرو في الدار وزيد في البيت . وقد أجاز الخفض والصفة معترضة بين حرف العطف والاسم بعض نحويي البصرة .

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه رفعا ، لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب ، والذي لا يتناكره أهل العلم بالعربية ، وما عليه قراءة الأمصار . فأما النصب فيه فإن له وجها ، غير أني لا أحبّ القراءة به ، لأن كتاب الله نزل بأفصح ألسن العرب ، والذي هو أولى بالعلم بالذي نزل به من الفصاحة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ} (71)

{ وامرأته قائمة } وراء الستر تسمع محاورتهم أو على رؤوسهم للخدمة . { فضحكت } سرورا بزوال الخيفة أو بهلاك أهل الفساد أو بإصابة رأيها فإنها كانت تقول لإبراهيم : اضمم إليك لوطا فإني أعلم أن العذاب ينزل بهؤلاء القوم . وقيل فضحكت فحاضت قال الشاعر :

وعهدي بسلمي ضاحكاً في لُبابةٍ *** ولم يعدُ حُقَا ثديُها أن تَحلّمَا

ومنه ضحكت السمرة إذا سال صمغها وقرئ بفتح الحاء . { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } نصبه ابن عامر وحمزة وحفص بفعل يفسره ما دل عليه الكلام وتقديره : ووهبناها من وراء إسحاق يعقوب . وقيل إنه معطوف على موضع { بإسحاق } أو على لفظ { إسحاق } ، وفتحته للجر فإنه غير مصروف ورد للفصل بينه وبين ما عطف عليه بالظرف . وقرأ الباقون بالرفع على أنه مبتدأ .

وخبره الظرف أي و{ يعقوب } مولود من بعده . وقيل الوراء ولد الولد ولعله سمي به لأنه بعد الولد وعلى هذا تكون إضافته إلى { إسحاق } ليس من حيث أن يعقوب عليه الصلاة والسلام وراءه ، بل من حيث إنه وراء إبراهيم من جهته وفيه نظر . والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة كيحيى ، ويحتمل وقوعهما في الحكاية بعد أن ولدا فسميا به ، وتوجيه البشارة إليها للدلالة على أن الولد المبشر به يكون منها لا من هاجر ولأنها كانت عقيمة حريصة على الولد .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ} (71)

جملة { وامرأته قائمة فضحكت } في موضع الحال من ضمير { أوجس } ، لأنّ امرأة إبراهيم عليه السّلام كانت حاضرة تقدّم الطّعام إليهم ، فإن عادتهم كعادة العرب من بعدهم أنّ ربة المنزل تكون خادمة القوم . وفي الحديث « والعروس خادمهم » وقال مرّة بن محكان التميمي :

يا ربّة البيت قومي غير صاغرة *** ضُمّي إليك رجال القوم والغربا

وقد اختصرت القصة هنا اختصاراً بديعاً لوقوعها في خلال الحوار بين الرسل وإبراهيم عليهم السّلام ، وحكاية ذلك الحوار اقتضت إتمامه بحكاية قولهم : { لا تخف إنّا أرسلنا إلى قوم لوط } .

وأمّا البشرى فقد حصلت قبل أن يخبروه بأنّهم أرسلوا إلى قوم لوط كما في آية سورة [ الذاريات : 28 ] { فأوجس منهم خيفةً قالوا لا تخَف وبشّروه بغلامٍ عليمٍ } . فلمّا اقتضى ترتيب المحاورة تقديم جملة { قالوا لا تخف } حكيت قصة البشرى وما تبعها من المحاورة بطريقة الحال ، لأنّ الحال تصلح للقبْليّة وللمقارنَة وللبعدية ، وهي الحال المقدّرة .

وإنّما ضحكت امرأة إبراهيم عليه السّلام من تبشير الملائكة إبراهيم عليه السّلام بغلام ، وكان ضحكها ضحك تعجّب واستبعاد . وقد وقع في التّوراة في الإصحاح الثامن عشر من سفر التكوين « وقالوا له : أين سارة امرأتك ؟ فقال : ها هي في الخيمة . فقالوا : يكون لسارة امرأتك ابن ، وكانت سارة سامعة في باب الخيمة فضحكت سارة في باطنها قائلة : أفبالحقيقة ألِدُ وأنا قد شِخت ؟ فقال الربّ : لماذا ضحكتْ سارة ؟ فأنكرت سارة قائلة لم أضحك ، لأنّها خافت ، قال : لا بل ضحكت » .

وتفريع { فبشّرناها بإسحاق } على جملة { ضحكت } باعتبار المعطوف وهو { ومن وراء إسحاق يعقوب } لأنّها ما ضحكت إلاّ بعد أن بشّرها الملائكة بابن ، فلمّا تعجبت من ذلك بشّروها بابن الابن زيادة في البشرى . والتّعجيب بأن يولد لها ابن ويعيش وتعيش هي حتّى يولد لابنها ابن . وذلك أدخل في العجب لأن شأن أبناء الشيوخ أن يكونوا مهزولين لا يعيشون غالباً إلاّ معلولين ، ولا يولد لهم في الأكثر ولأن شأن الشيوخ الذين يولد لهم أن لا يدركوا يفع أولادهم بله أولاد أولادهم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ} (71)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"وَامْرأتُهُ قائمَةٌ" قيل: كانت قائمة من وراء الستر تستمع كلام الرسل وكلام إبراهيم عليه السلام. وقيل: كانت قائمة تخدم الرسل وإبراهيم جالس مع الرسل.

"فَضَحِكَتْ "اختلف أهل التأويل في معنى قوله "فَضَحِكَتْ" وفي السبب الذي من أجله ضحكت؛

فقال بعضهم: ضحكت الضحك المعروف تعجبا من أنها وزوجها إبراهيم يخدمان ضيفانهم بأنفسهما تكرمة لهم، وهم عن طعامهم ممسكون لا يأكلون...

وقال آخرون: بل ضحكت من أن قوم لوط في غفلة وقد جاءت رسل الله لهلاكهم...

وقال آخرون: بل ضحكت لِمَا رأت بزوجها إبراهيم من الرّوع...

وقال آخرون: بل ضحكت حين بشرت بإسحاق تعجبا من أن يكون لها ولد على كِبَر سنها وسنّ زوجها...

وقد قال بعض من كان يتأوّل هذا التأويل: إن هذا من المقدّم الذي معناه التأخير، وكأن معنى الكلام عنده: وامرأته قائمة، فبشّرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، فضحكت وقالت: "يا ويلتا أألد وأنا عجوز"...

وقال آخرون: بل معنى قوله: «فضحكت» في هذا الموضع: فحاضت...

وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بالصواب قول من قال: معنى قوله: «فضحكت»: فعجبت من غفلة قوم لوط عما قد أحاط بهم من عذاب الله وغفلته عنه. وإنما قُلْنا هذا القول أولى بالصواب لأنه ذكر عقيب قولهم لإبراهيم: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط. فإذْ كان ذلك كذلك، وكان لا وجه للضحك والتعجب من قولهم لإبراهيم: لا تخف، كان الضحك والتعجب إنما هو من أمر قوم لوط...

"فَبَشّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ" يقول تعالى ذكره: فبشّرنا سارة امرأة إبراهيم ثوابا منا لها على نكيرها وعجبها من فعل قوم لوط بإسحاق ولدا لها. "ومِنْ وَرَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ" يقول: ومن خلف إسحاق يعقوب من ابنها إسحاق. والوراء في كلام العرب: ولد الولد، وكذلك تأوّله أهل التأويل...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

عجلوا لها البشرى بالولدين مظاهرة للنعمة ومبالغة في التعجب، فاحتمل أن يكون البشارة بهما باسميهما فيكون الله تعالى هو المسمي لهما، واحتمل أن تكون البشارة بهما وسماها أبوهما. فإن قيل: فلم خصت سارة بالبشرى من دون إبراهيم؟ قيل عن هذا ثلاثة أجوبة: أحدها: أنها لما اختصت بالضحك خصت بالبشرى. الثاني: أنهم كافؤوها بالبشرى مقابلة على استعظام خدمتها. الثالث: لأن النساء في البشرى بالولد أعظم سروراً وأكثر فرحاً...

لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :

{فضحكت} أصل الضحك انبساط الوجه من سرور يحصل للنفس ولظهور الأسنان عنده سميت مقدمات الأسنان الضواحك ويستعمل في السرور المجرد وفي التعجب المجرد أيضاً...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{وامرأته قائمة فضحكت} وكانت امرأة إبراهيم في تلك الحالة قائمة أي واقفة-ولعل قيامها كان للخدمة- فضحكت قيل تعجبا مما رأت وسمعت، وقيل سرورا بالأمن من الخوف أو بقرب عذاب قوم لوط لكراهتها لسيرتهم الخبيثة، وقيل تعجبا من البشارة بالولد وهذا يكون أولى إن كانت البشارة قبل الضحك، والظاهر أنها بعده لعطفها عليه بالفاء وهو {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} وزعم الفراء أن فيه تقديما أو تأخيرا، ولا مقتضى ولا مسوغ له، لضحكها أسبابا ذكرنا بعضها وزاد غيرنا عليها، على أن بشارتها كانت بالتبع لبشارة بعلها وهو المقصود بالذات وصرح به في سور الحجر والصافات والذاريات خاصا به، أي بشرناها بالتبع لتبشيره بإسحاق، ومن بعد إسحاق يعقوب يعني أنه سيكون لإسحاق ولد أيضا...