اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ} (71)

قوله : { وامرأته قَآئِمَةٌ } في محلِّ نصب على الحالِ من مرفوع : " أرْسِلْنَا " .

وقال أبو البقاءِ : من ضمير الفاعل في " أرْسِلْنَا " . وهي عبارةٌ غيرُ مشهورة ، إذ مفعول مَا لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ لا يطلقُ عليه فاعلٌ على المَشْهُورِ ، وعلى الجملةِ فجعلها حالاً غير واضح بل هي استئناف إخبار ، ويجوزُ جعلها حالاً من فاعل " قالُوا " أي : قالوا ذلك في حال قيام امرأته ، وهي ابنة عم إبراهيم .

وقوله : " وَهِي قَائمةٌ " أي تخدمُ الأضياف ؛ وإبراهيم جالس معهم ، يؤكد هذا التأويل قراءة ابن مسعود : " وامرأته قائمةٌ وهو قاعِدٌ " .

قوله : " فَضَحِكَتْ " العامَّةُ على كسر الحاء وقرأ محمد بن زياد الأعرابي - رجل من مكة{[18887]} - بفتحها وهي لغتان ، يقال : ضَحِكَ وضَحَكَ ، وقال المهدويُّ : " الفتح غير معروف " ، والجمهورُ على أنَّ الضَّحكَ على بابِهِ .

واختلف المفسِّرون في سببه فقال القاضي : إنَّ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لما خاف قالت الملائكة { لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ } فعظم سرورها بسبب سرورهِ ، وفي مثل هذه الحالة قد يضحك الإنسان ، فكان ضحكها بسبب قول الملائكة لإبراهيم " لا تَخَفْ " فكان كالبشارة فقيل لها : نجعل هذه البشارة أيضاً بحصول الولد الذي كنتم تطلبونه من أوَّلِ العُمر إلى هذا الزَّمان ، وقيل : لمَّا كانت عظيمة الإنكار على قوم لوط لكفرهم وعملهم الخبيث ، فلما أخبروا أنهم جاءوا لإهلاكهم ، لحقها السُّرور ، فضحكت .

وقيل : بشَّرُوها بحصول مطلق الولد فضَحِكَتْ إمَّا تعَجُّباً فإنَّهُ يقالُ : إنَّها كانت في ذلك الوقت بنت تسع وتسعين سنة وإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ابن مائة سنة ، وإمَّا على سبيل السُّرور ، ثم لمَّا ضحكت بشَّرها الله - تعالى - بأنَّ ذلك الولد هو إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب .

وقيل : إنَّها ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة نفر حال ما كان معه حشمه وخدمه .

وقيل : هذا على التقديم والتأخير تقديره : وامرأته قائمة فبشَّرناها بإسحاق ، فضحكت سروراً بتلك البشارة ، فقدَّم الضَّحكَ ، ومعناه التَّأخير ، يقالُ ضحكت الأرنب ، بمعنى : حَاضَتْ .

وقال مجاهدٌ وعكرمة : " ضَحِكَتْ " بمعنى : حَاضَتْ{[18888]} . وأنكره أبو عبيدة ، وأبو عبيد ، والفرَّاء .

قال ابنُ الأنباري : " هذه اللُّغة إن لم يَعْرِفها هؤلاء فقد عرفها غيرهم ، حكى اللُّيثُ - رحمه الله - في هذه الآية " فَضَحِكَتْ " طمثت ، وحكى الأزهريُّ - عن بعضهم - أنَّ أصلهُ : من ضحاك الطَّلعةِ ، يقال : ضَحِكَت الطلعة إذا انشقت ، وأنشدوا : [ المتقارب ]

وضِحْكُ الأرَانبِ فَوْقَ الصَّفَا *** كَمِثْلِ دَمِ الجَوْفِ يَوْمَ اللِّقَا{[18889]}

وقال آخر : [ الطويل ]

وعَهْدِي بِسَلْمَى ضَاحِكاً في لُبانةٍ *** ولَمْ يَعْدُ حقّاً ثَدْيُهَا أن تُحَلَّمَا{[18890]}

أي : حَائِضاً .

وضَحِكت الكافُورَةُ : تَشَقَّقَتْ . وضَحِكَت الشَّجَرةُ : سَالَ صَمْغُهَا ، وضَحِكَ الحَوْضُ : امتلأ وفاض وظاهرُ كلام أبي البقاءِ أن " ضَحَكَ " بالفتح مختصٌّ بالحيْضِ فإنَّه قال : " بِمَعْنَى حَاضَتْ يقال : ضَحَكَت الأرنب بفتح الحَاء " .

قوله : { وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } قرأ ابنُ عامر وحمزة وحفص عن عاصم بفتح الباء ، والباقون{[18891]} برفعها .

فأمَّا القراءةُ الأولى فاختلفوا فيها ، هل الفتحةُ علامةُ نصبٍ أو علامة جرٍّ ؟ والقائلون بأنَّها علامةُ نصب اختلفوا ، فقيل : هو منصوبٌ عطفاً على قوله : " إسْحَاق " . قال الزمخشريُّ : كأنَّهُ قيل : وَوَهَبْنَا لهُ إسحاقَ ، ومنْ وراءِ إسْحَاق يعقوب على طريقة قوله : [ الطويل ]

مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرَةً *** ولا نَاعبٍ . . . {[18892]}

يعنى أنَّهُ عطف على التَّوهم فنصب ، كما عطف الشَّاعرُ على توهُّم وجود الباء في خبر " ليس " فجرَّ ، ولكنه لا ينقاس .

وقيل : منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ ، أي : وَوَهَبْنَا يعقوب وهو على هذا غيرُ داخلٍ في البشارة ورجَّحه الفارسي .

وقيل : هو منصوبٌ عطفاً على محلِّ " بإسحاقَ " ؛ لأنَّ موضعهُ نصب كقوله : " وَأَرْجُلَكُمْ " بالنصب عطفاً على { بِرُؤُوسِكُمْ } [ المائدة : 6 ] .

والفرقُ بين هذا والوجه الأول : أنَّ الأول ضمَّن الفعل معنى : " وَهَبْنَا " توهُّماً ، وهنا باقٍ على مدلوله من غير توهُّم .

ومن قال بأنه مجرورٌ جعله عطفاً على " بإسحاقَ " والمعنى : أنَّها بُشِّرت بهما .

وفي هذا الوجه والذي قبله بحثٌ : وهو الفَضْلُ بالظَّرْفِ بين حرف العطف ، والمعطوف ، وقد تقدَّم ذلك مستوفى في النِّساءِ .

ونسب مكي الخفض للكسائي ثم قال : " وهو ضعيفٌ إلاَّ بإعادة الخافض ؛ لأنَّك فصلت بين الجار والمجرور بالظَّرف " . قوله : " بإعادة الخافض " ليس ذلك لازماً ، إذ لو قدِّم ولم يفصلْ لم يلتَزِم الإتيان به .

وأمَّا قراءةُ الرَّفْع ففيها أوجه :

أحدها : أنَّه مبتدأ وخبره الظَّرف السَّابق فقدره الزمخشريُّ " موجود أو مولود " وقدَّره غيره ب : كائن ولمَّا حكى النَّحاسُ هذا قال : " الجملة حالٌ داخلةٌ في البشارة أيك فبشَّرناها بإسحاق مُتَّصلاً به يعقُوبُ " .

والثاني : أنَّه مرفوعٌ على الفاعلية بالجارِّ قبله ، وهذا يجيء على رأي الأخفش .

والثالث : أن يرتفع بإضمارِ فعلٍ أي : ويحدث من وراء إسحاق يعقوب ، ولا مدخل له في البشارة .

والرابع : أنه مرفوعٌ على القَطْع يَعْنُونَ الاستئناف ، وهو راجعٌ لأحَدِ ما تقدَّم من كونه مبتدأ وخبراً ، أو فاعلاً بالجارِّ بعدهُ ، أو بفعل مقدر .

وفي لفظ " وَرَاء " قولان :

أظهرهما : وهو قولُ الأكثرين أنَّ معناه " بَعْد " أي : بعد إسحاق يعقوب ولا مدخل له في البشارة .

والثاني : أنَّ الوراء : ولد الولد .

فصل

ذكر المفسِّرون أنَّ " إسحاق " ولدَ ولأبيه مائة سنة بعد أخيه إسماعيل بأربع عشرة سنة وكان عمر أمه سارة حين بُشِّرَتْ به تسعين سنة . وذكر أهلُ الكتاب أنَّ إسحاق لمَّا تزوج ربقة بنت شاويل في حياة أبيه كان عمره أربعين سنة ، وأنَّها كانت عَاقِراً فدعا الله لها فحملتْ فولدت غلامين تَوْءَمَيْنِ ؛ أولهما سمَّوهُ عيصو ، وتسمية العرب " العِيصَ " وهو والدُ الرُّوم الثانية ، والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسمَّوهُ يعقوب ، وهو إسرائيل الذي ينسبُ إليه بنو إسرائيل .


[18887]:ينظر: الكشاف 2/411 والمحرر الوجيز 3/189 والبحر المحيط 5/243 والدر المصون 4/114.
[18888]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/72) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/616) عن عكرمة وعزاه إلى أبي الشيخ.
[18889]:ينظر البيت في المحتسب 1/323 واللسان "ضحك" وروح المعاني 12/98 والقرطبي 9/45 والدر المصون 4/114.
[18890]:ينظر البيت في البحر المحيط 5/237 وروح المعاني 12/98 والدر المصون 4/114
[18891]:ينظر: الحجة 4/364 وإعراب القراءات السبع 1/288 وحجة القراءات 347 والإتحاف 2/131 والمحرر الوجيز 3/189 وقرأ بها أيضا زيد بن علي ينظر: البحر المحيط 5/244 والدر المصون 4/114.
[18892]:تقدم.