البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ} (71)

الضحك معروف ، وكان ينبغي أن يذكر في سورة التوبة في قوله : { فليضحكوا قليلاً } ويقال : ضحك بفتح الحاء ، والضحكة الكثير الضحك ، والضحكة المضحوك منه ، ويقال : ضحكت الأرنب أي حاضت ، وأنكر أبو عبيدة والفراء وأبو عبيد : ضحك بمعنى حاض ، وعرف ذلك غيرهم .

وقال الشاعر أنشده اللغويون :

وضحك الأرانب فوق الصفا *** كمثل دم الجوف يوم اللقا

وقال الآخر :

وعهدي بسلمى ضاحكاً في لبانة *** ولم يعد حقاً ثديها أن يحلما

أي حائضاً في لبانة ، واللبانة والعلاقة والشوذر واحد .

ومنه ضحكت الكافورة إذا انشقت ، وضحكت الشجرة سال منها صمغها وهو شبه الدم ، وضحك الحوض امتلأ وفاض .

وامرأته قائمة جملة من ابتداء وخبر قال الحوفي وأبو البقاء : في موضع الحال ، قال أبو البقاء : من ضمير الفاعل في أرسلنا ، يعني المفعول الذي لم يسم فاعله ، والزمخشري يسميه فاعلاً لقيامه مقام الفاعل .

وقال الحوفي : والتقدير أرسلنا إلى قوم لوط في حال قيام امرأته ، يعني امرأة ابراهيم .

والظاهر أنه حال من ضمير قالوا أي : قالوا لا إبراهيم لا تخف في حال قيام امرأته وهي سارة بنت هاران بن ناخور وهي ابنة عمه ، قائمة أي : لخدمة الأضياف ، وكانت نساؤهم لا تحتجب كعادة الأعراب ، ونازلة البوادي والصحراء ، ولم يكن التبرج مكروهاً ، وكانت عجوزاً ، وخدمة الضيفان مما يعد من مكارم الأخلاق قاله : مجاهد .

وجاء في شريعتنا مثل هذا من حديث أبي أسيد الساعدي : وكانت امرأته عروساً ، فكانت خادمة الرسول ومن حضر معه من أصحابه .

وقال وهب : كانت قائمة وراء الستر تسمع محاورتهم .

وقال ابن إسحاق : قائمة تصلي .

وقال المبرد : قائمة عن الولد .

قال الزمخشري : وفي مصحف عبد الله وامرأته قائمة وهو قاعد .

وقال ابن عطية : وفي قراءة ابن مسعود : وهي قائمة وهو جالس .

ولم يتقدّم ذكر امرأة ابراهيم فيضمر ، لكنه يفسره سياق الكلام .

قال مجاهد وعكرمة : فضحكت حاضت .

قال الجمهور : هو الضحك المعروف .

فقيل : هو مجاز معبر به عن طلاقة الوجه وسروره بنجاة أخيها وهلاك قومه ، يقال : أتيت على روضة تضحك أي مشرقة .

وقيل : هو حقيقة .

فقال مقاتل : وروي عن ابن عباس ضحكت من شدّة خوف إبراهيم وهو في أهله وغلمانه .

والذين جاؤوه ثلاثة ، وهي تعهده يغلب الأربعين ، وقيل : المائة .

وقال قتادة : ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم .

وقال السدي : ضحكت من إمساك الأضياف عن الأكل وقالت : عجباً لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا ، وهم لا يأكلون طعامنا .

وقال وهب بن منبه : وروي عن ابن عباس : ضحكت من البشارة بإسحاق ، وقال : هذا مقدم بمعنى التأخير .

وذكر ابن الأنباري أنّ ضحكها كان سروراً بصدق ظنها ، لأنها كانت تقول لابراهيم : اضمم إليك ابن أخيك لوطاً وكان أخاها ، فإنه سينزل العذاب بقومه .

وقيل : ضحكت لما رأت من المعجز ، وهو أنّ الملائكة مسحت العجل الحنيذ فقام حياً يطفر ، والذي يظهر والله أعلم أنهم لما لم يأكلوا ، وأوجس في نفسه خيفة بعدما نكر حالهم ، لحق المرأة من ذلك أعظم ما لحق الرجل .

فلما قالوا : لا تخف ، وذكروا سبب مجيئهم زال عنه الخوف وسرّ ، فلحقها هي من السرور ان ضحكت ، إذ النساء في باب الفرح والسرور أطرب من الرجال وغالب عليهن ذلك .

وقد أشار الزمخشري إلى طرف من هذا فقال : فضحكت سروراً بزوال الخيفة .

وذكر محمد بن قيس سبباً لضحكها تركنا ذكره لفظاعته ، يوقف عليه في تفسير ابن عطية : وقرأ محمد بن زياد الأعرابي رجل من قراء مكة : فضحكت بفتح الحاء .

قال المهدوي : وفتح الحاء غير معروف ، فبشرناها هذا موافق لقوله تعالى : ولقد جاءت رسلنا ابراهيم بالبشرى ، والمعنى : فبشرناها على لسان رسلنا بشرتها الملائكة بإسحاق ، وبأن إسحاق سيلد يعقوب .

قال ابن عطية : أضاف فعل الملائكة إلى ضمير اسم الله تعالى ، إذ كان ذلك بأمره ووحيه .

وقال غيره : لما ولد لابراهيم اسماعيل عليهما السلام من هاجر تمنت سارة أن يكون لها ابن ، وأيست لكبر سنها ، فبشرت بولد يكون نبياً ويلد نبياً ، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها .

وإنما بشروها دونه ، لأنّ المرأة أعجل فرحاً بالولد ، ولأن إبراهيم قد بشروه وأمنوه من خوفه ، فأتبعوا بشارته ببشارتها .

وقيل : خصت بالبشارة حيث لم يكن لها ولد ، وكان لإبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل .

والظاهر أن وراء هنا ظرف استعمل اسماً غير ظرف بدخول من عليه كأنه قيل : ومن بعد إسحاق ، أو من خلف إسحاق ، وبمعنى بعد ، روي عن ابن عباس واختاره مقاتل وابن قتيبة ، وعن ابن عباس أيضاً : أن الوراء ولد الولد ، وبه قال الشعبي : واختاره أبو عبيدة .

وتسميته وراء هي قريبة من معنى وراء الظرف ، إذ هو ما يكون خلف الشيء وبعده .

فإن قيل : كيف يكون يعقوب وراء لإسحاق وهو ولده لصلبه ، وإنما الوراء ولد الولد ؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال : المعنى ومن الوراء المنسوب إلى إسحاق يعقوب ، لأنه قد كان الوراء لإبراهيم من جهة إسحاق ، فلو قال : ومن الوراء يعقوب ، لم يعلم أهذا الوراء منسوب إلى إسحاق أم إلى إسماعيل ، فأضيف إلى إسحاق لينكشف المعنى ويزول اللبس انتهى .

وبشرت من بين أولاد إسحاق بيعقوب ، لأنها رأته ولم تر غيره ، وهذه البشارة لسارة كانت وهي بنت تسع وتسعين سنة ، وابراهيم ابن مائة سنة .

وقيل : كان بينهما غير ذلك ، وهي أقوال متناقضة .

وهذه الآية تدل على أنّ إسماعيل هو الذبيح ، لأن سارة حين أخدمها الملك الجبار هاجر أم إسماعيل كانت شابة جميلة ، فاتخذ إبراهيم هاجر سرية ، فغارت منها سارة ، فخرج بها وبابنها إسماعيل من الشام على البراق ، وجاء من يومه مكة ، وانصرف إلى الشام من يومه ، ثم كانت البشارة بإسحاق وسارة عجوز محالة ، وسيأتي الدليل على ذلك أيضاً من سورة والصافات .

ويجوز أن يكون الله سماها حالة البشارة بهذين الاسمين ، ويجوز أن يكون الإسمان حدثا لها وقت الولادة ، وتكون البشارة بولد ذكر بعده ولد ذكر ، وحالة الإخبار عن البشارة ذكراً باسمها كما يقول المخبر : إذا بشر في النوم بولد ذكر فولد له ولد ذكر فسماه مثلاً عبد الله : بشرت بعبد الله .

وقرأ الحرميان ، والنحويان ، وأبو بكر يعقوب : بالرفع على الابتداء ومن وراء الخبر كأنه قيل : ومن وراء إسحاق يعقوب كائن ، وقدره الزمخشري مولود أو موجود .

قال النحاس : والجملة حال داخلة في البشارة أي : فبشرناها بإسحاق متصلاً به يعقوب .

وأجاز أبو علي أنْ يرتفع بالجار والمجرور ، كما أجازه الأخفش أي : واستقرّ لها من وراء إسحاق يعقوب .

وقالت فرقة : رفعه على القطع بمعنى ومن وراء إسحاق يحدث يعقوب .

وقال النحاس : ويجوز أن يكون فاعلاً بإضمار فعل تقديره : ويحدث من وراء إسحاق يعقوب .

قال ابن عطية : وعلى هذا لا تدخل البشارة انتهى .

ولا حاجة إلى تكلف القطع والعدول عن الظاهر المقتضى للدخول في البشارة .

وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص ، وزيد بن علي : يعقوب بالنصب .

قال الزمخشري : كأنه قيل ووهبنا له إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة قوله : ليسوا مصلحين عشيرة ، ولا ناعب ، انتهى .

يعني أنه عطف على التوهم ، والعطف على التوهم لا ينقاس ، والأظهر أن ينتصب يعقوب بإضمار فعل تقديره : ومن وراء إسحاق وهبنا يعقوب ، ودل عليه قوله : فبشرناها ، لأن البشارة في معنى الهبة ، ورجح هذا الوجه أبو علي ومن ذهب إلى أنه مجرور معطوف على لفظ بإسحاق ، أو على موضعه .

فقوله ضعيف ، لأنه لا يجوز الفصل بالظرف أو المجرور بين حرف العطف ومعطوفه المجرور ، لا يجوز مررت بزيد اليوم وأمس عمرو ، فإن جاء ففي شعر .

فإنْ كان المعطوف منصوباً أو مرفوعاً ، ففي جواز ذلك خلاف نحو : قام زيد واليوم عمرو ، وضربت زيداً واليوم عمراً