القول في تأويل قوله تعالى : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىَ وَهُوَ مَكْظُومٌ * لّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رّبّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فاصبر يا محمد لقضاء ربك وحكمه فيك ، وفي هؤلاء المشركين بما أتيتهم به من هذا القرآن ، وهذا الدين ، وامض لما أمرك به ربك ، ولا يثنيك عن تبليغ ما أمرت بتبليغه تكذيبهم إياك وأذاهم لك .
وقوله : وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ الذي حبسه في بطنه ، وهو يونس بن مَتّى صلى الله عليه وسلم فيعاقبك ربك على تركك تبليغ ذلك ، كما عاقبه فحبسه في بطنه . إذْ نادَى وَهوَ مَكْظُومٌ يقول : إذ نادى وهو مغموم ، قد أثقله الغمّ وكظمه ، كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إذْ نادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ يقول : مغموم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : مَكْظُومٌ قال : مغموم .
وكان قتادة يقول في قوله : وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ : لا تكن مثله في العَجَلة والغضب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلا تَكُنْ كَصْاحِبِ الْحُوتِ إذْ نادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ يقول : لا تعجل كما عَجِل ، ولا تغضب كما غضب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
ثم أمر تعالى نبيه بالصبر لحكمه ، وأن يمضي لما أمر به من التبليغ واحتمال الأذى والمشقة ، ونهى عن الضجر والعجلة التي وقع فيها يونس صلى الله عليه وسلم ، ثم اقتضبت القصة ، وذكر ما وقع في آخرها من ندائه من بطن الحوت { وهو مكظوم } ، أي غيظه في صدره . وحقيقة الكظم : هو الغيظ والحزن والندم فحمل المكظوم عليه تجوزاً ، وهو في الحقيقة كاظم ، ونحو هذا قول ذي الرمة : [ البسيط ]
وأنت من حب مني مضمر حزناً . . . عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم{[11267]}
وقال النقاش : المكظوم ، الذي أخذ بكظمه وهو مجاري القلب ، ومنه سميت الكاظمة وهي القناة في جوف الأرض{[11268]} .
تفريع على ما تقدم من إبطال مزاعم المشركين ومطاعنهم في القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وما تبعه من تكفل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بعاقبة النصر ، وذلك أن شدته على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من شأنها أن تُدخل عليه يَأْساً من حصول رغبته ونجاح سعيه ، ففرع عليه تثبيتهُ وحثه على المصابرة واستمراره على الهَدْي ، وتعريفه بأن ذلك التثبيت يرفع درجته في مقام الرسالة ليكون من أولي العزم ، فذكَّره بمثَل يونس عليه السلام إذْ استعجل عن أمر ربّه ، فأدبه الله ثم اجتباه وتاب عليه وجعله من الصالحين تذكيراً مراداً به التحذير .
والمراد بحكم الربّ هنا أمره وهو ما حُمله إياه من الإِرسال والاضطلاع بأعباء الدعوة . وهذا الحكم هو المستقرأ من آيات الأمر بالدعوة التي أولها { يا أيها المدثر قم فأنذر } إلى قوله : { ولربك فاصبر } [ المدثر : 17 ] فهذا هو الصبر المأمور به في هذه الآية أيضاً . ولا جرم أن الصبر لذلك يستدعي انتظار الوعد بالنصر وعدم الضجر من تأخره إلى أمده المقدر في علم الله .
وصاحب الحوت : هو يونس بن متَّى ، وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى : { ووهبنا له إسحاق } إلي قوله : { ويونس } في سورة الأنعام ( 84 86 ) .
والصاحب : الذي يصحب غيره ، أي يكون معه في بعض الأحوال أو في معظمها ، وإطلاقه على يونس لأن الحوت التقمه ثم قذفه فصار ( صاحبُ الحوت ) لقباً له لأن تلك الحالة معيَّة قوية .
وقد كانت مؤاخذةُ يونس عليه السلام على ضجره من تكذيب قومه وهم أهل نِينَوى كما تقدم في سورة الصافات .
و { إذْ } طرف زمان وهو وجملته متعلق باستقرار منصوب على الحال أي في حالة وقت ندائه ربّه ، فإنه ما نادى ربّه إلاّ لإِنقاذه من كربه الذي وقع فيه بسبب مغاضبته وضجره من قومه ، أي لا يكن منك ما يلجئك إلى مثل ندائه .
والمكظوم : المحبوس المسدود عليه يقال : كظم الباب أغلقَه وكظَم النهر إذا سده ، والمعنى : نادى في حال حبسه في بطن الحوت .
وجيء بهذه الحال جملة اسمية لدلالتها على الثبات ، أي هو في حبس لا يرجى لمثله سراح ، وهذا تمهيد للامتنان عليه بالنجاة من مثل ذلك الحبس .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.