معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

قوله تعالى :{ هذان خصمان اختصموا في ربهم } أي : جادلوا في دينه وأمره ، والخصم : اسم شبيه بالمصدر ، فلذلك قال : { اختصموا } بلفظ الجمع كقوله : { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } واختلفوا في هذين الخصمين .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا يعقوب بن إبراهيم ، أنبأنا هشيم ، أنبأنا أبو هاشم ، عن أبي مجلز ، عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } نزلت في الذين برزوا يوم بدر : حمزة وعلي ، وعبيدة بن الحارث ، وعتبة ، وشيبة ابني أبي ربيعة ، والوليد بن عتبة . وأخبرنا عبد الواحد ، أنبأنا أحمد ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا حجاج بن منهال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي قال : أنبأنا أبو مجلز ، عن قيس بن عباد ، عن علي بن أبي طالب قال : " أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة " . قال قيس : وفيهم نزلت : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : علي وحمزة ، وعبيدة ، وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة . قال محمد بن إسحاق : خرج -يعني يوم بدر- عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة ودعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة : عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء ، وعبد الله بن رواحة فقالوا : من أنتم ؟ قالوا : رهط من الأنصار ، فقالوا حين انتسبوا : أكفاء كرام ، ثم نادى مناديهم : يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قم يا عبيدة بن الحارث ويا حمزة بن عبد المطلب ويا علي بن أبي طالب ، فلما دنوا قالوا : من أنتم ؟ فذكروا ، فقالوا : نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة ، وبارز حمزة شيبة ، وبارز علي الوليد بن عتبة ، فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة ، وعلي الوليدبن عتبة واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتان كلاهما أثبت صاحبه ، فكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا عبيدة إلى أصحابه ، وقد قطعت رجله ومخها يسيل ، فلما أتوا بعبيدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألست شهيداً يا رسول الله ؟ قال : بلى ، فقال عبيدة : لو كان أبو طالب حياً لعلم أنا أحق بما قال منه حيث يقول :

ونسلمه حتى نصرع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وقال ابن عباس و قتادة : نزلت الآية في المسلمين وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب : نحن أولى بالله منكم وأقدم منكم كتاباً ، ونبينا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون نبينا وكتابنا وكفرتم به حسداً ، فهذه خصومتهم في ربهم . وقال مجاهد و عطاء بن أبي رباح و الكلبي : هم المؤمنون والكافرون كلهم من أي ملة كانوا . وقال بعضهم : جعل الأديان ستة في قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } الآية ، فجعل خمسة للنار وواحداً للجنة ، فقوله تعالى : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } ينصرف إليهم فالمؤمنون خصم وسائر الخمسة خصم . وقال عكرمة : هما الجنة والنار اختصمتا .

كما أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أنبأنا أبو طاهر الزيادي ، أنبأنا أبو بكر محمد حسين القطان ، أنبأنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن همام بن منبه ، قال : حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { تحاجت الجنة والنار فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ، وقالت الجنة : فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغزاتهم . قال الله عز وجل للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها ، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله فيها رجله فتقول قط قط ، فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله من خلقه أحداً ، وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقاً . ثم بين الله عز وجل ما للخصمين فقال : { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } قال سعيد بن جبير : ثياب من نحاس مذاب ، وليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حراً منه وسمي باسم الثياب لأنها تحيط بهم كإحاطة الثياب . وقال بعضهم : يلبس أهل النار مقطعات من النار ، { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } الحميم : هو الماء الحار الذي انتهت حرارته .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

القول في تأويل قوله تعالى : { هََذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ فَالّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارِ يُصَبّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } .

اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذين الخصمين اللذين ذكرهما الله ، فقال بعضهم : أحد الفريقين : أهل الإيمان ، والفريق الاَخر : عبدة الأوثان من مشركي قريش الذين تبارزوا يوم بدر . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو هاشم عن أبي مجاز ، عن قيس بن عبادة قال : سمعت أبا ذرّ يُقْسم قَسَما أن هذه الاَية : هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ نزلت في الذين بارزوا يوم بدر : حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة . قال : وقال عليّ : إني لأوّل أو من أوّل من يجثو للخصومة يوم القيامة بين يدي الله تبارك وتعالى .

حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن أبي مجاز ، عن قيس بن عباد ، قال : سمعت أبا ذرّ يقسم بالله قسما لنزلت هذه الاَية في ستة من قريش : حمزة بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم ، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا في رَبّهِمْ . . . إلى آخر الاَية : إنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُوا وَعملُوا الصّالحاتِ . . . إلى آخر الاَية .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن أبي مجاز ، عن قيس بن عباد ، قال : سمعت أبا ذرّ يقسم ، ثم ذكر نحوه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن محبب ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور بن المعتمر ، عن هلال بن يساف ، قال : نزلت هذه الاَية في الذين تبارزوا يوم بدر : هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت هؤلاء الاَيات : هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ في الذين تبارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة . إلى قوله : وَهُدُوا إلى صِرَاطِ الحَمِيدِ .

قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي هاشم ، عن أبي مُجَلّز ، عن قيس بن عباد ، قال : والله لأُنزلت هذه الاَية : هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ في الذين خرج بعضهم إلى بعض يوم بدر : حمزة وعليّ وعُبيدة رحمة الله عليهم ، وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة .

وقال آخرون ممن قال أحد الفرقين فريق الإيمان : بل الفريق الاَخر أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ قال : هم أهل الكتاب ، قالوا للمؤمنين : نحن أولى بالله ، وأقدم منكم كتابا ، ونبينا قبل نبيكم . وقال المؤمنون : نحن أحقّ بالله ، آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب ، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا . وكان ذلك خصومتهم في ربهم .

وقال آخرون منهم : بل الفريق الاَخر الكفار كلهم من أيّ ملة كانوا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : حدثنا أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعطاء بن أبي رَياح وأبي قَزَعة ، عن الحسين ، قال : هم الكافرون والمؤمنون اختصموا في ربهم .

قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : مثل الكافر والمؤمن قال ابن جُرَيج : خصومتهم التي اختصموا في ربهم ، خصومتهم في الدنيا من أهل كل دين ، يرون أنهم أولى بالله من غيرهم .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : كان عاصم والكلبي يقولان جميعا في : هَذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ قال : أهل الشرك والإسلام حين اختصموا أيهم أفضل ، قال : جعل الشرك ملة .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى . وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ قال : مثل المؤمن والكافر اختصامهما في البعث .

وقال آخرون : الخصمان اللذان ذكرهما الله في هذه الاَية : الجنة والنار . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرِمة : هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ قال : هما الجنة والنار اختصمتا ، فقالت النار : خلقني الله لعقوبته وقالت الجنة : خلقني الله لرحمته فقد قصّ الله عليك من خبرهما ما تسمع .

وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب وأشبهها بتأويل الاَية ، قول من قال : عُني بالخصمين جميع الكفار من أيّ أصناف الكفر كانوا وجميع المؤمنين . وإنما قلت ذلك أولى بالصواب ، لأنه تعالى ذكره ذكر قبل ذلك صنفين من خلقه : أحدهما أهل طاعة له بالسجود له ، والاَخر : أهل معصية له ، قد حقّ عليه العذاب ، فقال : ألَمْ تَرَ أنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ والشّمْسُ والقَمَرُ ثم قال : وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ وكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ ، ثم أتبع ذلك صفة الصنفين كليهما وما هو فاعل بهما ، فقال : فالذين كَفرُوا قُطّعتْ لهُمْ ثيابٌ منْ نارٍ وقال الله : إنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ فكان بيّنا بذلك أن ما بين ذلك خبر عنهما .

فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما رُوي عن أبي ذرّ في قوله : إنّ ذَلكَ نزل في الذين بارزوا يوم بدر ؟ قيل : ذلك إن شاء الله كما رُوي عنه ولكن الاَية قد تنزل بسبب من الأسباب ، ثم تكون عامة في كل ما كان نظير ذلك السبب . وهذه من تلك ، وذلك أن الذين تبارزوا إنما كان أحد الفريقين أهل شرك وكفر بالله ، والاَخر أهل إيمان بالله وطاعة له ، فكل كافر في حكم فريق الشرك منهما في أنه لأهل الإيمان خصم ، وكذلك كل مؤمن في حكم فريق الإيمان منهما في أنه لأهل الشرك خصم .

فتأويل الكلام : هذان خصمان اختصموا في دين ربهم ، واختصامهم في ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الاَخر ومحاربته إياه على دينه .

وقوله : فالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يقول تعالى ذكره : فأما الكافر بالله منهما فإنه يقطع له قميص من نحاس من نار . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : فالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ قال : الكافر قطعت له ثياب من نار ، والمؤمن يدخله الله جنات تجري من تحتها الأنهار .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : فالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ قال : ثياب من نحاس ، وليس شيء من الاَنية أحمى وأشد حرّا منه .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الكفار قطعت لهم ثياب من نار ، والمؤمن يدخل جنات تجري من تحتها الأنهار .

وقوله : يُصَبّ مِنْ فَوْقِ رؤسِهِمُ الحَمِيمُ يقول : يصبّ على رؤسهم ماء مُغْلًي . كما :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطَالقاني ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سعيد بن زيد ، عن أبي السّمْح ، عن ابن حجيرة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ الحَمِيمَ لَيُصَبّ عَلى رُؤُسِهِمْ ، فَيَنْفُذُ الجُمْجَمَةَ حتى يَخْلُصَ إلى جَوْفِهِ ، فَيَسْلُتَ ما فِي جَوْفِهِ حتى يَبْلُغَ قَدَمَيْهِ ، وَهِيَ الصّهْرُ ، ثُمّ يُعادُ كَما كانَ » .

حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يعمر بن بشر ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا سعيد بن زيد ، عن أبي السمح ، عن ابن حجيرة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله ، إلا أنه قال : «فَيَنْفُذُ الجُمْجُمَةَ حَى يَخْلُصَ إلى جَوْفِهِ فَيَسْلُتَ مَا في جَوْفِهِ » .

وكان بعضهم يزعم أن قوله : ولَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ من المؤخّر الذي معناه التقديم ، ويقول : وجه الكلام : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ولهم مقامع من حديد يصبّ من فوق رؤسهم الحميم ويقول : إنما وجب أن يكون ذلك كذلك ، لأن الملك يضربه بالمقمع من الحديد حتى يثقب رأسه ، ثم يصبّ فيه الحميم الذي انتهى حرّه فيقطع بطنه . والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا ، يدلّ على خلاف ما قال هذا القائل وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الحميم إذا صبّ على رؤسهم نفذ الجمجمة حتى يخلص إلى أجوافهم ، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل ، ولو كانت المقامع قد تثقب رؤوسهم قبل صبّ الحميم عليها ، لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم : «إنّ الحَميمَ يَنْفُذُ الجُمْجُمَةَ » معنى ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما قال هذا القائل .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

{ هذان خصمان } أي فوجان مختصمان . ولذلك قال : { اختصموا } حملا على المعنى ولو عكس لجاز ، والمراد بهما المؤمنون والكافرون . { في ربهم } في دينه أو في ذاته وصفاته . وقيل تخاصمت اليهود والمؤمنون فقال اليهود : نحن أحق بالله وأقدم منكم كتابا ونبيا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا بمحمد ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم كفرتم به حسدا فنزلت . { فالذين كفروا } فصل لخصومتهم وهو المعني بقوله تعالى : { إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } { قطعت لهم } قدرت لهم على مقادير جثثهم ، وقرىء بالتخفيف . { ثياب من نار } نيران تحيط بهم إحاطة الثياب . { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } حال من الضمير في { لهم } أو خبر ثان ، والحميم الماء الحار .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

وقوله تعالى : { هذان خصمان } الآية ، اختلف الناس في المشار إليه بقوله { هذان } فقال قيس بن عباد وهلال بن يساف : نزلت هذه الآية في المتبارزين يوم بدر وهو ستة : حمزة ، وعلي ، وعبيدة بن الحارث ، برزوا لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة{[8330]} وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة{[8331]} ، وأقسم أبو ذر على هذا القول ع ووقع أن الآية فيهم في صحيح البخاري ، وقال ابن عباس : الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب وذلك أنه وقع بينهم تخاصم فقالت اليهود نحن أقوم ديناً منكم ونحو هذا ، فنزلت الآية ، وقال عكرمة : المخاصمة بين الجنة والنار ، وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن بن أبي الحسن وعاصم والكلبي : الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ع وهذا قول تعضده الآية ، وذلك أنه تقدم قوله { وكثير من الناس } المعنى هم مؤمنون ساجدون ، ثم قال { وكثير حق عليه العذاب } ثم أشار الى هذين الصنفين بقوله { هذان خصمان } والمعنى أن الإيمان وأهله والكفر وأهله خصمان مذ كانا إلى قيام الساعة بالعداواة والجدال والحرب ، وقوله تعالى : { خصمان } يريد طائفتين لأن لفظة خصم هي مصدر يوصف به الجمع والواحد ويدل على أنه أراد الجمع قوله { اختصموا } فإنها قراءة الجمهور ، وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما في ربهم » وقوله { في ربهم } معناه في شأن ربهم وصفاته وتوحيده ، ويحتمل أن يريد في رضاء ربهم وفي ذاته ، ثم بين حكمي الفريقين فتوعد تعالى الكفار بعذاب جهنم ، و { قطعت } معناه جعلت لهم بتقدير ، كما يفصل الثوب ، وروي أنها من نحاس وقيل ليس شيء من الحجارة والفلز أحر منه إذا حمي ، وروي في صب { الحميم } وهو الماء المغلي أنه تضرب رؤوسهم ب «المقامع » فتنكشف أدمغتهم فيصب { الحميم } حينئذ ، وقيل بل يصب أولاً فيفعل ما وصف ، ثم تضرب ب «المقامع » بعد ذلك ، و { الحميم } الماء المغلي .


[8330]:في أسباب النزول للنيسابوري عن قيس بن عبادة قال: سمعت أبا ذر يقول: أقسم بالله لنزلت {هذان خصمان اختصموا في ربهم} في هؤلاء الستة: حمزة، عبيدة، وعلي بن أبي طالب، وعتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة. ثم قال: رواه البخاري عن حجاج ابن منهال، عن هشيم بن هاشم. وفي الدر المنثور: "أخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه كان يقسم أن هذه الآية... الخ الحديث".
[8331]:أخرجه ابن أبي شيبة، والبخاري، والنسائي، وابن جرير، والبيهقي، من طريق قيس بن عبادة.