قوله تعالى{ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك } الآية ، نزلت في زينب ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوج زينب من زيد مكثت عنده حيناً ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يوم لحاجة ، فأبصر زينب قائمة في درع وخمار ، وكانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش ، فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها ، فقال : سبحان الله مقلب القلوب وانصرف ، فلما جاء زيد ذكرت ذلك له ، ففطن زيد ، فألقي في نفس زيد كراهيتها في الوقت ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أريد أن أفارق صاحبتي ، قال : ما لك أرابك منها شيء ؟ قال : لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيراً ، ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أمسك عليك زوجتك " { واتق الله } في أمرها ثم طلقها زيد ، فذلك قوله عز وجل : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } بالإسلام ، { وأنعمت عليه } بالتربية والإعتاق ، وهو زيد بن حارثة : { أمسك عليك زوجك } يعني : زينب بنت جحش واتق الله فيها ولا تفارقها ، { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } أي : تسر في نفسك ما الله مظهره ، أي : كان في قلبه لو فارقها لتزوجها . وقال ابن عباس : حبها . وقال قتادة : ود أنه طلقها . { وتخشى الناس } قال ابن عباس والحسن : تستحييهم . وقيل : تخاف لائمة الناس أن يقولوا : أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها . { والله أحق أن تخشاه } قال ابن عمر ، وابن مسعود ، وعائشة ، ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد عليه من هذه الآية . وروي عن مسروق قال : قالت عائشة : لو كتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } . وروى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال : سألني علي بن الحسين زين العابدين ما يقول الحسن في قوله : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } قلت : يقول لما جاء زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله إني أريد أن أطلق زينب فأعجبه ذلك ، فقال : ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) ، فقال علي بن الحسين : ليس كذلك ، بل كان الله تعالى قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيداً سيطلقها ، فلما جاء زيد وقال : إني أريد أن أطلقها قال له : أمسك عليك زوجك ، فعاتبه الله وقال : لم قلت : أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك ؟ . وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله علم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال : زوجناكها فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى الله عليه وسلم محبتها أو إرادة طلاقها لأظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره ، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجة له ، وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد : التي تحتك وفي نكاحك ستكون زوجتي ، وهذا قول حسن مرضي وإن كان القول الآخر وهو أنه أخفى محبتها و نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء ، لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه في مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المآثم ، لأن الود وميل النفس من طبع الشر . وقوله : { أمسك عليك زوجك واتق الله } أمر بالمعروف ، وهو حسن لا إثم فيه . قوله تعالى : { والله أحق أن تخشاه } لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه السلام قد قال : " أنا أخشاكم لله وأتقاكم له " ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله تعالى أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء . قوله عز وجل : { فلما قضى زيد منها وطراً } أي : حاجة من نكاحها ، { زوجناكها } وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبنى تحل بعد الدخول بها . قال أنس : كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول : زوجكن أهاليكن زوجني الله من فوق سبع سموات . وقال الشعبي : كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن : جدي وجدك واحد ، إني أنكحنيك الله في السماء ، وإن السفير لجبريل عليه السلام .
أخبرنا إسماعيل ابن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنبأنا مسلم بن الحجاج ، حدثني محمد بن حاتم بن حاتم بن ميمون ، أنبأنا بهز ، أنبأنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس قال : " لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد : فاذكرها علي ، قال : فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها ، قال فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها ، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي ، فقلت : يا زينب أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك . قالت : ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن . قال : ولقد رأيتنا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم ، حتى امتد النهار ، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته فجعل يتتبع حجز نسائه يسلم عليهن ، ويقلن : يا رسول الله كيف وجدت أهلك ؟ قال : فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبرني . قال : فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ، ونزل الحجاب " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا سليمان بن حرب ، أنبأنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس قال : " ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولم على زينب ، أولم بشاة " .
أخبرنا محمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا محمد بن هشام بن ملاس النمري ، أنبأنا مروان الفزاري ، أنبأنا حميد عن أنس قال : " أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ابتنى بزينب بنت جحش فأشبع المسلمين خبزاً ولحماً " . قوله عز وجل : { لكي لا يكون على المؤمنين حرج } إثم { في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً } والأدعياء : جمع الدعي ، وهو المتبني ، يقول : زوجناك زينب ، وهي امرأة زيد الذي تبنيته ، ليعلم أن زوجة المتبنى حلال للمتبنى ، وإن كان قد دخل بها المتبنى بخلاف امرأة ابن الصلب فإنها لا تحل للأب . { وكان أمر الله مفعولاً } أي : كان قضاء الله ماضياً وحكمه نافذاً وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِيَ أَنعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمّا قَضَىَ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيَ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عتابا من الله له وَ اذكر يا محمد إذْ تَقُولُ لِلّذِي أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ بالهِداية وأنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالعِتق ، يعني زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهِ ، وذلك أن زينب بنت جحش فيما ذُكر رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبته ، وهي في حبال مولاه ، فألِقي في نفس زيد كراهتها لما علم الله مما وقع في نفس نبيه ما وقع ، فأراد فراقها ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم زيد ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وهو صلى الله عليه وسلم يحبّ أن تكون قد بانت منه لينكحها ، وَاتّقِ اللّهَ وخَفِ الله في الواجب له عليك في زوجتك وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ يقول : وتخفي في نفسك محبة فراقه إياها لتتزوّجها إن هو فارقها ، والله مبد ما تخفي في نفسك من ذلك وتَخْشَى النّاسَ واللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشاهُ يقول تعالى ذكره : وتخاف أن يقول الناس : أمر رجلاً بطلاق امرأته ونكحها حين طلّقها ، والله أحقّ أن تخشاه من الناس .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإذْ تَقُولُ للّذِي أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وهو زيد أنعم الله عليه بالإسلام ، وأنعمت عليه أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ قال : وكان يخفي في نفسه ودّ أنه طلقها . قال الحسن : ما أنزلت عليه آية كانت أشدّ عليه منها قوله : وتُخْفِي في نفسك ما اللّهُ مُبْدِيهِ ولو كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتمها وتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشاهُ قال : خشِي نبيّ الله صلى الله عليه وسلم مقالة الناس .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد زوّج زيد بن حارثة زينب بنت جحش ، ابنة عمته ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يريده وعلى الباب ستر من شعر ، فرفعت الريح الستر فانكشف ، وهي في حجرتها حاسرة ، فوقع إعجابها في قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما وقع ذلك كرّهت إلى الاَخر ، فجاء فقال : يا رسول الله ، إني أريد أن أفارق صاحبتي ، قال : «ما لَكَ ، أرَابَكَ مِنْها شَيْءٌ ؟ » قال : لا ، والله ما رابني منها شيء يا رسول الله ، ولا رأيت إلا خيرا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ » ، فذلك قول الله تعالى : وَإذْ تَقُولُ للّذِي أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وأنْعَمْتَ عَلَيْهِ أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ تخفي في نفسك إن فارقها تزوّجتها .
حدثني محمد بن موسى الجرشي ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أبي حمزة ، قال : نزلت هذه الاَية : وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيه في زينب بنت جحش .
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عليّ بن زيد بن جدعان ، عن عليّ بن حسين ، قال : كان الله تبارك وتعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه ، فلما أتاه زيد يشكوها قال : اتّقِ اللّهَ وأمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ، قال الله : وتُخْفِي في نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْديهِ .
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن عائشة ، قالت : لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أوحي إليه من كتاب الله لكتم : وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ وتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشاهُ .
وقوله : فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْها وَطَرا زَوّجْناكَها يقول تعالى ذكره : فلما قضى زيد بن حارثة من زينب حاجته ، وهي الوطر ومنه قول الشاعر :
وَدّعَنِيِ قَبْلَ أن أُوَدّعَهُ *** لَمّا قَضَى منْ شَبَابِنا وَطَرَا
زَوّجْناكَها يقول : زوّجناك زينب بعد ما طلقها زيد وبانت منه لكَيْلا يَكُونَ على المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أزْوَاجِ أدْعِيائهِمْ يعني : في نكاح نساء من تَبَنّوا وليسوا ببنيهم ولا أولادهم على صحة إذا هم طلقوهنّ وبنّ منهم إذَا قَضَوْا مِنْهُنّ وَطَرا يقول : إذا قضوا منهنّ حاجاتهم ، وآرابهم وفارقوهنّ وحَلَلْن لغيرهم ، ولم يكن ذلك نزولاً منهم لهم عنهنّ وكانَ أمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً يقول : وكان ما قضى الله من قضاء مفعولاً : أي كائنا كان لا محالة . وإنما يعني بذلك أن قضاء الله في زينب أن يتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ماضيا مفعولاً كائنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لِكَيْلا يَكُونَ عَلى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أزْوَاجِ أدْعِيائهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنّ وَطَرا يقول : إذا طلّقوهنّ ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تَبَنىّ زيد بن حارثة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْها وَطَرا . . . إلى قوله : وكانَ أمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً إذا كان ذلك منه غير نازل لك ، فذلك قول الله : وَحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ .
حدثني محمد بن عثمان الواسطي ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، عن المعلى بن عرفان ، عن محمد بن عبد الله بن جحش ، قال : تفاخرت عائشة وزينب ، قال : فقالت زينب : أنا الذي نزل تزويجي .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال : كانت زينب زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم تقول للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إني لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهنّ . إن جدّي وجدّك واحد ، وإني أنكحنيك الله من السماء ، وإن السفير لجبرائيلُ عليه السلام .
{ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } بتوفيقه لعتقه واختصاصه . { وأنعمت عليه } بما وفقك الله فيه وهو زيد بن حارثة . { أمسك عليك زوجك } زينب . وذلك : أنه عليه الصلاة والسلام أبصرها بعد ما أنكحها إياه فوقعت في نفسه فقال سبحان الله مقلب القلوب ، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرت لزيد ففطن لذلك ووقع في نفسه كراهة صحبتها ، فأتى النبي عليه الصلاة والسلام وقال : أريد أن أفارق صاحبتي ، فقال ما لك أرابك منها شيء ، فقال : لا والله ما رأيت منها إلا خيرا ولكنها لشرفها تتعظم علي ، فقال له : امسك عليك زوجك . { واتق الله } في أمرها فلا تطلقها ضرارا وتعللا بتكبرها . { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } وهو نكاحها أن طلقها أو إرادة طلاقها . { وتخشى الناس } تعييرهم إياك به . { والله أحق أن تخشاه } أن كان في ما يخشى ، والواو للحال ، وليست المعاتبة على الإخفاء وحده فإنه حسن بل على الإخفاء مخافة قالة الناس وإظهار ما ينافي إضماره ، فإن الأولى في أمثال ذلك أن يصمت أو يفوض الأمر إلى ربه . { فلما قضى زيد منها وطرا } حاجة بحيث ملها ولم يبق له فيها حاجة وطلقها وانقضت عدتها . { زوجناكها } وقيل قضاء الوطر كناية عن الطلاق مثل لا حاجة لي فيك . وقرئ " زوجتكها " ، والمعنى انه أمر بتزويجها منه أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد . ويؤيده أنها كانت تقول لسائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى تولى إنكاحي وأنتن زوجكن أولياؤكن . وقيل كان زيد السفير في خطبتها وذلك ابتلاء عظيم وشاهد بين على قوة إيمانه . { لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا } علة للتزويج ، وهو دليل على أن حكمه وحكم الأمة واحدة إلا ما خصه الدليل { وكان أمر الله } أمره الذي يريده { مفعولا } مكونا لا محالة كما كان تزويج زينب .
ثم عاتب تعالى نبيه بقوله : { وإذ تقول } الآية ، واختلف الناس في تأويل هذه الآية ، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم الطبري وغيره إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب وهي في عصمة زيد وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو ، ثم إن زيداً لما اخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظماً بالشرف قال له : اتق الله فيما تقول عنها و { أمسك عليك زوجك } وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها وهذا هو الذي كان يخفي في نفسه ، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف ، وقالوا خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالة الناس في ذلك فعاتبه الله تعالى على جميع هذا{[9520]} ، وقرأ ابن أبي عبلة «ما الله مظهره » ، وقال الحسن : ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أشد عليه من هذه الآية ، وقال هو وعائشة : لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه ، وروى ابن زيد في نحو هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب زيداً في داره فلم يجده ورأى زينب حاسرة فأعجبته فقال ( سبحان الله مقلب القلوب ){[9521]} .
قال القاضي أبو محمد : وروي في هذه القصة أشياء يطول ذكرها ، وهذا الذي ذكرناه مستوف لمعانيها ، وذهب قوم من المتأولين إلى أن الآية لا كبير عتب فيها ، ورووا عن علي بن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله إليه أن زيداً يطلق زينب وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها له ، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب وأنها لا تطيعه وأعلمه بأنه يريد طلاقها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية : «اتق الله » أي في أقوالك و «أمسك عليك زوجك » وهو يعلم أنه سيفارقها وهذا هو الذي أخفى في نفسه ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم من أنه سيتزوجها ، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو مولاه وقد أمره بطلاقها فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن خشي الناس في أمر أباحه الله تعالى له وإن قال { أمسك } مع علمه أنه يطلق وأعلمه أن الله أحق بالخشية أي في كل حال{[9522]} ، وقوله : { أنعم الله عليه } يعني بالإسلام وغير ذلك ، وقوله : { وأنعمت عليه } يعني بالعتق وهو زيد بن حارثة ، وزينب هي بنت جحش وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أعلم تعالى أنه زوجها منه لما قضى زيد وطره منها لتكون سنة للمسلمين في أزواج أدعيائهم وليتبين أنا ليست كحرمة النبوة ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزيد : ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب عليّ ، قال فذهبت ووليتها ظهري توقيراً للنبي صلى الله عليه وسلم وخطبتها ففرحت ، وقالت ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها{[9523]} .
و «الوطر » : الحاجة والبغية ، والإشارة هنا إلى الجماع ، وروى جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم «وطراً زوجتكها » .
قال الفقيه الإمام القاضي : وذهب بعض النّاس من هذه الآية ومن قول شعيب { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين }{[9524]} [ القصص : 7 ] إلى أن ترتيب هذا المعنى في المهور ينبغي أن يكون أنكحه إياها فيقدم ضمير الزوج لما في الآيتين ، وهذا عندي غير لازم لأن الزوج في الآية مخاطب فحسن تقديمه ، وفي المهور الزوجان غائبان{[9525]} فقدم من شئت فلم يبق ترجيح إلا بدرجة الرجال وأنهم القوامون ، وقوله تعالى : { وكان أمر الله مفعولاً } فيه حذف مضاف تقديره وكان حكم أمر الله أو مضمن أمر الله ، وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول ، ويحتمل على بعد أن يكون الأمر واحد الأمور أي التي شأنها أن تفعل ، وروي أن عائشة وزينب تفاخرتا ، فقالت عائشة : أنا التي سبقت صفتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنة في سرقة حرير{[9526]} ، وقالت زينب : أنا التي زوجني الله من فوق سبع سماوات{[9527]} .
وقال الشعبي : كانت زينب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن أن جدي وجدك واحد وأن الله أنكحك إياي من السماء وأن السفير في ذلك جبريل{[9528]} .