معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَحۡيَآءُ وَلَا ٱلۡأَمۡوَٰتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسۡمِعُ مَن يَشَآءُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ} (22)

قوله تعالى : { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } يعني : المؤمنين والكفار . وقيل : العلماء والجهال . { إن الله يسمع من يشاء } حتى يتعظ ويجيب ، { وما أنت بمسمع من في القبور } يعني : الكفار ، شبههم بالأموات في القبور حين لم يجيبوا .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَحۡيَآءُ وَلَا ٱلۡأَمۡوَٰتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسۡمِعُ مَن يَشَآءُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ} (22)

وقوله : { وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات } تمثيل آخر للمؤمنين الذين استجابوا للحق ، وللكافرين الذين أصروا على باطلهم . أو هم تمثيل للعلماء والجهلاء قال الإِمام ابن كثير : يقول - تعالى - كما لا تستوى هذه الأشياء المتباينة المختلفة ، كالأعمى والبصير لا يستويان ، بل بينهما فرق وبون كثير ، وكما لا تستوى الظلمات ولا النور ، ولا الظل ولا الحرور ، كذلك لا يستوى الأحياء ولا الأموات . وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين الأحياء ، وللكافرين وهم الأموات ، كقوله - تعالى - : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا . . . } وقال - تعالى - : { مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } فالمؤمن سميع بصير فى نور يمشى . . والكافر أعمى وأصم ، فى ظلمات يمشى ، ولا خروج له منها ، حتى يفضى به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم . .

وقوله - تعالى - : { إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور } بيان لنفاذ قدرة الله - تعالى - ، ومشيئته .

أى : إن الله - تعالى - يسمع من يشاء أن يسمعه ، ويجعله مدركاً للحق ، ومستجيباً له أما أ ، ت - أيها الرسول الكريم - فليس فى استطاعتك أن تسمع هؤلاء الكافرين المصرين على كفرهم وباطلهم ، والذين هم أشبه ما يكونون بالموتى فى فقدان الحس ، وفى عدم السماع لما تدعوهم إليه .

فالجملة الكريمة تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من هؤلاء الجاحدين .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَحۡيَآءُ وَلَا ٱلۡأَمۡوَٰتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسۡمِعُ مَن يَشَآءُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ} (22)

{ وما يستوي الأحياء ولا الأموات }

وجملة { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } أظهر في هذه الجملة الفعل الذي قدّر في الجملتين اللتين قبلها وهو فعل { يستوي } لأن التمثيل هنا عاد إلى تشبيه حال المسلمين والكافرين إذ شبه حال المسلم بحال الأحياء وحال الكافرين بحال الأموات ، فهذا ارتقاء في تشبيه الحالين من تشبيه المؤمن بالبصير والكافر بالأعمى إلى تشبيه المؤمن بالحي والكافر بالميّت ، ونظيره في إعادة فعل الاستواء قوله تعالى في سورة الرعد ( 16 ) : { قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور } . فلما كانت الحياة هي مبعث المدارك والمساعي كلها وكان الموت قاطعاً للمدارك والمساعي شبه الإِيمان بالحياة في انبعاث خير الدنيا والآخرة منه وفي تلقي ذلك وفهمه ، وشبه الكفر بالموت في الانقطاع عن الأعمال والمدركات النافعة كلها وفي عدم تلقي ما يلقى إلى صاحبه فصار المؤمن شبيهاً بالحي مشابهة كاملة لمَّا خرج من الكفر إلى الإِيمان ، فكأنه بالإِيمان نفخت فيه الحياة بعد الموت كما أشار إليه قوله تعالى في سورة الأنعام ( 122 ) { أو من كان ميّتاً فأحييناه } وكان الكافر شبيهاً بالميت ما دام على كفره .

واكتُفي بتشبيه الكافر والمؤمن في موضعين عن تشبيه الكفر والإِيمان وبالعكس لتلازمهما ، وأوتي تشبيه الكافر والمؤمن في موضعين لكون وجه الشبه في الكافر والمؤمن أوضح ، وعُكس ذلك في موضعين لأن وجه الشبه أوضح في الموضعين الآخرين .

{ إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور }

لما كان أعظم حرمان نشأ عن الكفر هو حرمان الانتفاع بأبلغ كلام وأصدقه وهو القرآن كان حال الكافر الشبيهُ بالموت أوضح شبهاً به في عدم انتفاعه بالقرآن وإعراضه عن سماعه { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والْغوا فيه لعلكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] ، وكان حال المؤمنين بعكس ذلك إذ تَلَقّوا القرآن ودرسوه وتفقهوا فيه { الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم اللَّه } [ الزمر : 18 ] ، وأعقب تمثيل حال المؤمنين والكافرين بحال الأحياء والأموات بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم معذرة له في التبليغ للفريقين ، وفي عدم قبول تبليغه لدى أحد الفريقين ، وتسلية له عن ضياع وابل نصحه في سباخ قلوب الكافرين فقيل له : إن قبول الذين قبلوا الهدى واستمعوا إليه كان بتهيئة الله تعالى نفوسَهم لقبول الذكر والعلم ، وإن عدم انتفاع المعرضين بذلك هو بسبب موت قلوبهم فكأنهم الأموات في القبور وأنت لا تستطيع أن تُسمع الأموات ، فجاء قوله : { إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور } على مقابلة قوله : { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } مقابلة اللفِّ بالنشر المرتب .

جملة { إن الله يسمع من يشاء } تعليل لجملة { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } [ فاطر : 18 ] ، لأن معنى القصر ينحلّ إلى إثبات ونفي فكان مفيداً فريقين : فريقاً انتفع بالإِنذار ، وفريقاً لم ينتفع ، فعلل ذلك ب { إن الله يسمع من يشاء } .

وقوله : { وما أنت بمسمع من في القبور } إشارة إلى الذين لم يشأ الله أن يسمعهم إنذارك .

واستعير { من في القبور } للذين لم تنفع فيهم النذر ، وعبر عن الأموات ب { من في القبور } لأن من في القبور أعرق في الابتعاد عن بلوغ الأصوات لأن بينهم وبين المنادي حاجز الأرض . فهذا إطناب أفاد معنى لا يفيده الإِيجاز بأن يقال : وما أنت بمسمع الموتى .

وجيء بصيغة الجمع { الأحياء } و { الأموات } تفنناً في الكلام بعد أن أورد الأعمى والبصير بالإِفراد لأن المفرد والجمع في المعرف بلام الجنس سواء إذا كان اسماً له أفراد بخلاف النور والظل والحرور ، وأما جمع { الظلمات } فقد علمت وجهه آنفاً .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَحۡيَآءُ وَلَا ٱلۡأَمۡوَٰتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسۡمِعُ مَن يَشَآءُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ} (22)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وما يستوي الأحياء} المؤمنين {ولا الأموات} الكفار.

والبصير والظل والنور والأحياء، فهو مثل المؤمن، والأعمى والظلمات والحرور والأموات، فهو مثل الكافر.

{إن الله يسمع} الإيمان {من يشاء وما أنت} يا محمد {بمسمع من في القبور}، وذلك أن الله جل وعز شبه الكافر من الأحياء حين دعوا إلى الإيمان فلم يسمعوا، بالأموات أهل القبور الذين لا يسمعون الدعاء.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"إنّ اللّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ" يقول تعالى ذكره: كما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله، فيهديهم به إلى سبيل الرشاد، فكذلك لا يقدر أن ينفع بمواعظ الله، وبيان حُججه، من كان ميت القلب من أحياء عباده، عن معرفة الله، وفهم كتابه وتنزيله، وواضح حججه.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

فالاستواء حصول أحد الشيئين على مقدار الآخرة، ومنه الاستواء في العود والطريق خلاف الاعوجاج، لممره على مقدار أوله من غير انعدال... وهذه الامثال أمثال ضربها الله لعبادة الله وعبادة الاوثان، وبين أنه كما لا تتماثل هذه الاشياء، ولا تتشاكل ولا تتساوى، فكذلك عبادة الله لا تشبه عبادة الاصنام...

" إن الله يسمع من يشاء "ومعناه أن الله ينفع بإسماع ذلك من يشاء ممن يعلم أن له لطفا يفعله به دون غيره...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء} قد علم من يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيه، فيهدي الذي قد علم أنّ الهداية تنفع فيه، ويخذل من علم أنها لا تنفع فيه. وأمّا أنت فخفي عليك أمرهم، فلذلك تحرص وتتهالك على إسلام قوم من المخذولين. ومثلك في ذلك مثل من لا يريد أن يسمع المقبورين وينذر، وذلك ما لا سبيل إليه...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{وما يستوي الأحياء ولا الأموات} مثلا آخر في حق المؤمن والكافر كأنه قال تعالى حال المؤمن والكافر فوق حال الأعمى والبصير، فإن الأعمى يشارك البصير في إدراك ما، والكافر غير مدرك إدراكا نافعا فهو كالميت ويدل على ما ذكرنا أنه تعالى أعاد الفعل حيث قال أولا: {وما يستوي الأعمى والبصير} وعطف الظلمات والنور والظل والحرور، ثم أعاد الفعل، وقال: {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} كأنه جعل هذا مقابلا لذلك.

المسألة الثانية: كرر كلمة النفي بين الظلمات والنور والظل والحرور والأحياء الأموات، ولم يكرر بين الأعمى والبصير، وذلك لأن التكرير للتأكيد والمنافاة بين الظلمة والنور والظل والحرور مضادة، فالظلمة تنافي النور وتضاده والعمى والبصر كذلك، أما الأعمى والبصير ليس كذلك بل الشخص الواحد قد يكون بصيرا وهو بعينه يصير أعمى، فالأعمى والبصير لا منافاة بينهما إلا من حيث الوصف، والظل والحرور والمنافاة بينهما ذاتية لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد فلما كانت المنافاة هناك أتم، أكد بالتكرار، وأما الأحياء والأموات، وإن كانوا كالأعمى والبصير من حيث إن الجسم الواحد يكون حيا محلا للحياة فيصير ميتا محلا للموت ولكن المنافاة بين الحي والميت أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير، كما بينا أن الأعمى والبصير يشتركان في إدراك أشياء، ولا كذلك الحي والميت، كيف والميت يخالف الحي في الحقيقة لا في الوصف على ما تبين في الحكمة الإلهية.

المسألة الثالثة: قدم الأشرف في مثلين وهو الظل والحرور، وأخره في مثلين وهو البصر والنور، وفي مثل هذا يقول المفسرون إنه لتواخي أواخر الآي، وهو ضعيف لأن تواخي الأواخر راجع إلى السجع، ومعجزة القرآن في المعنى لا في مجرد اللفظ، فالشاعر يقدم ويؤخر للسجع فيكون اللفظ حاملا له على تغيير المعنى، وأما القرآن فحكمة بالغة والمعنى فيه صحيح واللفظ فصيح فلا يقدم ولا يؤخر اللفظ بلا معنى، فنقول الكفار قبل النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في ضلالة فكانوا كالعمى وطريقهم كالظلمة ثم لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وبين الحق، واهتدى به منهم قوم فصاروا بصيرين وطريقتهم كالنور فقال وما يستوي من كان قبل البعث على الكفر ومن اهتدى بعده إلى الإيمان، فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد صلى الله عليه وسلم، والكافر قبل المؤمن قدم المقدم، ثم لما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لقوله في الإلهيات سبقت رحمتي غضبي، ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق من جميع الوجوه فقال: {وما يستوي الأحياء} أي المؤمنون الذين آمنوا بما أنزل الله والأموات الذين تليت عليهم الآيات البينات، ولم ينتفعوا بها وهؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافرين المعاندين، وقدم الأعمى على البصير لوجود الكفار الضالين قبل البعثة على المؤمنين المهتدين بعدها.

المسألة الرابعة: فإن قلت قابل الأعمى بالبصير بلفظ المفرد وكذلك الظل بالحرور وقابل الأحياء بالأموات بلفظ الجمع، وقابل الظلمات بالنور بلفظ الجمع في أحدهما والواحد في الآخر، فهل تعرف فيه حكمة؟ قلت: نعم بفضل الله وهدايته، أما في الأعمى والبصير والظل والحرور، فلأنه قابل الجنس بالجنس، ولم يذكر الأفراد لأن في العميان وأولى الأبصار قد يوجد فرد من أحد الجنسين يساوي فردا من الجنس الآخر كالبصير الغريب في موضع والأعمى الذي هو تربية ذلك المكان، وقد يقدر الأعمى على الوصول إلى مقصد ولا يقدر البصير عليه، أو يكون الأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البليد البصير، فالتفاوت بينهما في الجنسين مقطوع به فإن جنس البصير خير من جنس الأعمى، وأما الأحياء والأموات فالتفاوت بينهما أكثر، إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حيا من الأحياء، فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس بالجنس أو قابلت الفرد بالفرد...

{إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور} وفيه احتمال معنيين:

الأول: أن يكون المراد بيان كون الكفار بالنسبة إلى سماعهم كلام النبي والوحي النازل عليه دون حال الموتى فإن الله يسمع الموتى والنبي لا يسمع من مات وقبر، فالموتى سامعون من الله والكفار كالموتى لا يسمعون من النبي.

والثاني: أن يكون المراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لما بين له أنه لا ينفعهم ولا يسمعهم قال له هؤلاء لا يسمعهم إلا الله، فإنه يسمع من يشاء ولو كان صخرة صماء، وأما أنت فلا تسمع من في القبور، فما عليك من حسابهم من شيء.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{إن الله} أي القادر على المفاوتة بين هذه الأشياء وعلى كل شيء بما له من الإحاطة بصفات الكمال، وعبر بالفعل إشارة إلى القدرة على ذلك في كل وقت أراده سبحانه فقال: {يسمع من يشاء} أي فيهديه ولو لم يكن له قابلية في العادة كالجمادات، ويصم ومن يشاء فيعميه وينكسه ويرديه من أحياء القلوب والأرواح، وأموات المعاني والأشباح، والمعنى أن إسماعهم لو كان مستنداً إلى الطبائع لاستووا إما بالإجابة أو الإعراض لأن نسبة الدعوة وإظهار المعجزة إليهم على حد سواء، فالآية تقرير آية {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب}.

ولما كان المعرض قد ساوى الميت في حاله التي هي عدم الانتفاع بما يرى ويسمع من الخوارق، فكان كأنه ميت، قال معبراً بالإسمية تنبيهاً على عدم إثبات ذلك له صلى الله عليه وسلم: {وما أنت} أي بنفسك من غير إقدار الله لك، وأعرق في النفي فقال: {بمسمع} أي بوجه من الوجوه {من في القبور} أي الحسية والمعنوية، إسماعاً ينفعهم بل الله يسمعهم إن شاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، والآية دليل على البعث.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

ولعل في الآية ما يقتضي أن المراد يسمع من يشاء سماع تدبر وقبول لآياته عز وجل {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن في القبور} ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات واشباع في إقناطه عليه الصلاة والسلام من إيمانهم.

وما ألطف نظم هذه التمثيلات فقد شبه المؤمن والكافر أولا بالبحرين وفضل البحر الأجاج على الكافر لخلوه من النفع ثم بالأعمى والبصير مستتبعاً بالظلمات والنور والظل والحرور فلم يكتف بفقدان نور البصر حتى ضم إليه فقدان ما يمده من النور الخارجي وقرن إليه نتيجة ذلك العمى والفقدان فكان فيه ترق من التشبيه الأول إليه ثم بالأحياء والأموات ترقياً ثانياً وأردف قوله سبحانه: {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن في القبور} [فاطر: 22]...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

... إن الفوارق أصيلة في طبيعة الكون وفي طبيعة النفس. واختلاف طباع الناس واختلاف استقبالهم لدعوة الله أصيل أصالة الفوارق الكونية في البصر والعمى، والظل والحرور، والظلمات والنور، والحياة والموت. ووراء ذلك كله تقدير الله وحكمته. وقدرته على ما يشاء.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

فلما كانت الحياة هي مبعث المدارك والمساعي كلها، وكان الموت قاطعاً للمدارك والمساعي، شبه الإِيمان بالحياة في انبعاث خير الدنيا والآخرة منه وفي تلقي ذلك وفهمه، وشبه الكفر بالموت في الانقطاع عن الأعمال والمدركات النافعة كلها وفي عدم تلقي ما يلقى إلى صاحبه، فصار المؤمن شبيهاً بالحي مشابهة كاملة لمَّا خرج من الكفر إلى الإِيمان، فكأنه بالإِيمان نفخت فيه الحياة بعد الموت كما أشار إليه قوله تعالى في سورة الأنعام (122) {أو من كان ميّتاً فأحييناه} وكان الكافر شبيهاً بالميت ما دام على كفره...

جملة {إن الله يسمع من يشاء} تعليل لجملة {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب} [فاطر: 18]... واستعير {من في القبور} للذين لم تنفع فيهم النذر، وعبر عن الأموات ب {من في القبور} لأن من في القبور أعرق في الابتعاد عن بلوغ الأصوات لأن بينهم وبين المنادي حاجز الأرض. فهذا إطناب أفاد معنى لا يفيده الإِيجاز بأن يقال: وما أنت بمسمع الموتى...

وجيء بصيغة الجمع {الأحياء} و {الأموات} تفنناً في الكلام بعد أن أورد الأعمى والبصير بالإِفراد...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

ثم يقول سبحانه مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم ومُسلِّياً له: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} النبي صلى الله عليه وسلم جاء على كفر وجهالة من قومه، فكانت دعوته أنْ يخرجهم من العمى والجهالة إلى ما ينير بصائرهم ويُخرِجهم من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان.

وقد كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على هداية قومه يكاد يُهلك نفسه في سبيل دعوته؛ لذلك خاطبه ربه بقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف: 6].

كذلك هنا يخاطبه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ} أي سماع هداية إقبال، وإلا فَهُمْ جميعاً يسمعون، لكن هناك سماعُ إعراضٍ وسماعُ إقبال، منهم مَنْ يقبل ويؤمن ويتأثر بكلام الله، ومنهم مَنْ يسمع ثم يُعرض وينصرف عما سمع؛ لذلك قال الله فيهم: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].

إذن: يا محمد، لقد أديتَ ما عليك نحوهم، وخاطبتَهم خطابَ هداية، وخطابَ تهديد ووعيد، فلم يسمعوا {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} فجعلهم الله لعدم سماعهم كالأموات، وإلا "فرسول الله خاطب أهل قليب بدر من الكفار حين وقف عليهم وناداهم بأسمائهم: "يا عتبة بن ربيعة، يا شبيبة بن ربيعة، يا أبا جهل أليس وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، فإنَّا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً".

فقال عمر: أتكلمهم وقد جَيَّفوا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "والله، ما أنتم بأسمعَ منهم، ولكنهم لا يتكلمون"".

فالمعنى: ما أنت بمسمع السماع المؤدي إلى الهداية، كما أنك لا تُسمع مَنْ في القبور؛ لأن زمن السماع وقبول الهداية انتهى بالموت.

لكن إذا كان رسول الله لا يُسمع مَنْ في القبور، فما مهمته؟ يقول سبحانه بعدها:

{إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ}.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

المؤمنون حيويون سعاة متحرّكون، لهم رشد ونمو، لهم فروع وأوراق وورود وثمر، أمّا الكافر فمثل الخشبة اليابسة، لا فيها طراوة ولا ورق ولا ورد ولا ظلّ لها، ولا تصلح إلاّ حطباً للنار...

(إنّ الله يُسمع من يشاء) لكي يسمع دعوة الحقّ ويلبّي نداء التوحيد ودعوة الأنبياء (وما أنت بمسمع من في القبور) فمهما بلغ صراخك، ومهما كان حديثك قريباً من القلب، ومهما كان بيانك معبّراً، فإنّ الموتى لا يسعهم إدراك شيء من ذلك، ومن فقد الروح الإنسانية نتيجة الإصرار على المعاصي، وغرق في التعصّب والعناد والظلم والفساد، فبديهي أنّ ليس لديه الاستعداد لقبول دعوتك...