السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَحۡيَآءُ وَلَا ٱلۡأَمۡوَٰتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسۡمِعُ مَن يَشَآءُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ} (22)

وقوله تعالى { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } تمثيل آخر للمؤمن والكافر أبلغ من الأول ولذلك كرر الفعل وقيل : للعلماء وللجهال .

تنبيه : زيادة لا في الثلاثة لتأكيد نفي الاستواء ، وجاء ترتيب هذه المنفيات على أحسن الوجوه ، فإنه تعالى لما ضرب الأعمى والبصير مثلين للمؤمن والكافر عقب بما كل منهما فيه ، والكافر في ظلمة والمؤمن في نور ؛ لأن البصير وإن كان حديد البصر لابد له من ضوء يبصر فيه ، وقدم الأعمى ؛ لأن البصير فاصلة فحسن تأخيره ، ولما تقدم الأعمى في الذكر ناسب تقديم ما فيه فلذلك قدمت الظلمة على النور ، ولأن النور فاصلة ، ثم ذكر ما لكل منهما فللمؤمن الظل وللكافر الحرور وأخر الحرور لأجل الفاصلة كما مر ، وقولنا : لأجل الفاصلة أولى من قول بعضهم لأجل السجع ؛ لأن القرآن ينبو عن ذلك ، وقد منع الجمهور أن يقال في القرآن سجع .

وإنما كرر الفعل في قوله تعالى { وما يستوي الأحياء } مبالغة في ذلك ؛ لأن المنافاة بين الحياة والموت أتمّ من المنافاة المتقدمة ، وقدم الأحياء لشرف الحياة ولم يعد لا تأكيداً في قوله تعالى { الأعمى والبصير } وكرّرها في غيره ؛ لأن منافاة ما بعده أتم ، فإن الشخص الواحد قد يكون بصيراً ثم يصير أعمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف بخلاف الظل والحرور ، والظلمات والنور ، فإنها منافية أبداً لا يجتمع اثنان منها في محل ، فالمنافاة بين الظل والحرور وبين الظلمة والنور دائمة .

فإن قيل : الحياة والموت بمنزلة العمى والبصر فإن الجسم قد يكون متصفاً بالحياة ثم يتصف بالموت ، أجيب : بأن المنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير ؛ لأن الأعمى والبصير يشتركان في إدراكات كثيرة ولا كذلك الحي والميت ، فالمنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير ؛ لأنه قابل الجنس بالجنس ، وقد يوجد في أفراد العميان من يساوي بعض أفراد البصراء كأعمى ذكي له بصيرة يساوي بصيراً بليداً فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به لا بين الأفراد .

وجمع الظلمات ؛ لأنها عبارة عن الكفر والضلال وطرقهما كثيرة متشعبة ووحد النور ؛ لأنه عبارة عن التوحيد وهو واحد ، فالتفاوت بين كل فرد من أفراد الظلمة وبين هذا الفرد الواحد والمعنى : الظلمات كلها لا يوجد فيها ما يساوي هذا الواحد .

ثم نبه سبحانه بقوله تعالى : { إن الله } أي : القادر على المفاوتة بين هذه الأشياء وعلى كل شيء بما له من الإحاطة من صفات الكمال { يسمع من يشاء } على أن الخشية والقسوة إنما هما بيده تعالى ، وإن الإنذار إنما هو لمن قضى بانتفاعه فيتعظ ويجيب { وما أنت } أي : بنفسك من غير إقدار الله تعالى لك { بمسمع } أي : بوجه من الوجوه { من في القبور } أي : الحسية أو المعنوية إسماعاً ينفعهم بل الله يسمعهم إن شاء { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } ( فاطر : 8 ) .