مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَحۡيَآءُ وَلَا ٱلۡأَمۡوَٰتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسۡمِعُ مَن يَشَآءُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ} (22)

ثم قال تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء ولا الأموات } .

لما بين الهدى والضلالة ولم يهتد الكافر ، وهدى الله المؤمن ضرب لهم مثلا بالبصير والأعمى ، فالمؤمن بصير حيث أبصر الطريق الواضح والكافر أعمى ، وفي تفسير الآية مسائل :

المسألة الأولى : ما الفائدة في تكثير الأمثلة ههنا حيث ذكر الأعمى والبصير ، والظلمة والنور ، والظل والحرور ، والأحياء والأموات ؟ فنقول الأول مثل المؤمن والكافر فالمؤمن بصير والكافر أعمى ، ثم إن البصير وإن كان حديد البصر ولكن لا يبصر شيئا إن لم يكن في ضوء فذكر للإيمان والكفر مثلا ، وقال الإيمان نور والمؤمن بصير والبصير لا يخفى عليه النور ، والكفر ظلمة والكافر أعمى فله صاد فوق صاد ، ثم ذكر لمآلهما ومرجعهما مثلا وهو الظل والحرور ، فالمؤمن بإيمانه في ظل وراحة والكافر بكفره في حر وتعب ، ثم قال تعالى : { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } مثلا آخر في حق المؤمن والكافر كأنه قال تعالى حال المؤمن والكافر فوق حال الأعمى والبصير ، فإن الأعمى يشارك البصير في إدراك ما . والكافر غير مدرك إدراكا نافعا فهو كالميت ويدل على ما ذكرنا أنه تعالى أعاد الفعل حيث قال أولا : { وما يستوي الأعمى والبصير } وعطف الظلمات والنور والظل والحرور ، ثم أعاد الفعل ، وقال : { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } كأنه جعل هذا مقابلا لذلك .

المسألة الثانية : كرر كلمة النفي بين الظلمات والنور والظل والحرور والأحياء الأموات ، ولم يكرر بين الأعمى والبصير ، وذلك لأن التكرير للتأكيد والمنافاة بين الظلمة والنور والظل والحرور مضادة ، فالظلمة تنافي النور وتضاده والعمى والبصر كذلك ، أما الأعمى والبصير ليس كذلك بل الشخص الواحد قد يكون بصيرا وهو بعينه يصير أعمى ، فالأعمى والبصير لا منافاة بينهما إلا من حيث الوصف ، والظل والحرور والمنافاة بينهما ذاتية لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد فلما كانت المنافاة هناك أتم ، أكد بالتكرار ، وأما الأحياء والأموات ، وإن كانوا كالأعمى والبصير من حيث إن الجسم الواحد يكون حيا محلا للحياة فيصير ميتا محلا للموت ولكن المنافاة بين الحي والميت أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير ، كما بينا أن الأعمى والبصير يشتركان في إدراك أشياء ، ولا كذلك الحي والميت ، كيف والميت يخالف الحي في الحقيقة لا في الوصف على ما تبين في الحكمة الإلهية .

المسألة الثالثة : قدم الأشرف في مثلين وهو الظل والحرور ، وأخره في مثلين وهو البصر والنور ، وفي مثل هذا يقول المفسرون إنه لتواخي أواخر الآي ، وهو ضعيف لأن تواخي الأواخر راجع إلى السجع ، ومعجزة القرآن في المعنى لا في مجرد اللفظ ، فالشاعر يقدم ويؤخر للسجع فيكون اللفظ حاملا له على تغيير المعنى ، وأما القرآن فحكمة بالغة والمعنى فيه صحيح واللفظ فصيح فلا يقدم ولا يؤخر اللفظ بلا معنى ، فنقول الكفار قبل النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في ضلالة فكانوا كالعمى وطريقهم كالظلمة ثم لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وبين الحق ، واهتدى به منهم قوم فصاروا بصيرين وطريقتهم كالنور فقال وما يستوي من كان قبل البعث على الكفر ومن اهتدى بعده إلى الإيمان ، فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ، والكافر قبل المؤمن قدم المقدم ، ثم لما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لقوله في الإلهيات سبقت رحمتي غضبي ، ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق من جميع الوجوه فقال : { وما يستوي الأحياء } أي المؤمنون الذين آمنوا بما أنزل الله والأموات الذين تليت عليهم الآيات البينات ، ولم ينتفعوا بها وهؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافرين المعاندين ، وقدم الأعمى على البصير لوجود الكفار الضالين قبل البعثة على المؤمنين المهتدين بعدها .

المسألة الرابعة : فإن قلت قابل الأعمى بالبصير بلفظ المفرد وكذلك الظل بالحرور وقابل الأحياء بالأموات بلفظ الجمع ، وقابل الظلمات بالنور بلفظ الجمع في أحدهما والواحد في الآخر ، فهل تعرف فيه حكمة ؟ قلت : نعم بفضل الله وهدايته ، أما في الأعمى والبصير والظل والحرور ، فلأنه قابل الجنس بالجنس ، ولم يذكر الأفراد لأن في العميان وأولى الأبصار قد يوجد فرد من أحد الجنسين يساوي فردا من الجنس الآخر كالبصير الغريب في موضع والأعمى الذي هو تربية ذلك المكان ، وقد يقدر الأعمى على الوصول إلى مقصد ولا يقدر البصير عليه ، أو يكون الأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البليد البصير ، فالتفاوت بينهما في الجنسين مقطوع به فإن جنس البصير خير من جنس الأعمى ، وأما الأحياء والأموات فالتفاوت بينهما أكثر ، إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حيا من الأحياء ، فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس بالجنس أو قابلت الفرد بالفرد ، وأما الظلمات والنور فالحق واحد وهو التوحيد والباطل كثير وهو طرق الإشراك على ما بينا أن بعضهم يعبدون الكواكب وبعضهم النار وبعضهم الأصنام التي هي على صورة الملائكة ، وإلى غير ذلك والتفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد وبين هذا الواحد بين ، فقال الظلمات كلها إذا اعتبرتها لا تجد فيها ما يساوي النور ، وقد ذكرنا في تفسير قوله : { وجعل الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] السبب في توحيد النور وجمع الظلمات ، ومن جملة ذلك أن النور لا يكون إلا بوجود منور ومحل قابل للاستنارة وعدم الحائل بين النور والمستنير . مثاله الشمس إذا طلعت وكان هناك موضع قابل للاستنارة وهو الذي يمسك الشعاع ، فإن البيت الذي فيه كوة يدخل منها الشعاع إذا كان في مقابلة الكوة منفذ يخرج منه الشعاع ويدخل بيتا آخر ويبسط الشعاع على أرضه يرى البيت الثاني مضيئا والأول مظلما ، وإن لم يكن هناك حائل كالبيت الذي لا كوة له فإنه لا يضيء ، فإذا حصلت الأمور الثلاثة يستنير البيت وإلا فلا تتحقق الظلمة بفقد أي أمر كان من الأمور الثلاثة .

ثم قال تعالى : { إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور } وفيه احتمال معنيين الأول : أن يكون المراد بيان كون الكفار بالنسبة إلى سماعهم كلام النبي والوحي النازل عليه دون حال الموتى فإن الله يسمع الموتى والنبي لا يسمع من مات وقبر ، فالموتى سامعون من الله والكفار كالموتى لا يسمعون من النبي والثاني : أن يكون المراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لما بين له أنه لا ينفعهم ولا يسمعهم قال له هؤلاء لا يسمعهم إلا الله ، فإنه يسمع من يشاء ولو كان صخرة صماء ، وأما أنت فلا تسمع من في القبور ، فما عليك من حسابهم من شيء .