البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَحۡيَآءُ وَلَا ٱلۡأَمۡوَٰتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسۡمِعُ مَن يَشَآءُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ} (22)

وقرأ زادان عن الكسائي : وما تستوي الأحياء ، بتاء التأنيث ؛ والجمهور : بالياء ، وترتيب هذه المنفي عنها الاستواء في غاية الفصاحة .

وذكر الأعمى والبصير مثلاً للمؤمن والكافر ، ثم البصير .

ولو كان حديد النظر لا يبصر إلا في ضوء ، فذكر ما هو فيه الكافر من ظلمة الكفر ، وما هو فيه المؤمن من نور الإيمان .

ثم ذكر مآلهما ، وهو الظل ، وهو أن المؤمن بإيمانه في ظل وراحة ، والكافر بكفره في حر وتعب .

ثم ذكر مثلاً آخر في حق المؤمن والكافر فوق حال الأعمى والبصير ، إذ الأعمى قد يشارك البصير في إدراك مّا ، والكافر غير مدرك إدراكاً نافعاً ، فهو كالميت ، ولذلك أعاد الفعل فقال : { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } ، كأنه جعل مقام سؤال ، وكرر لا فيما ذكر لتأكيد المنافاة .

فالظلمات تنافي النور وتضاده ، والظل والحرور كذلك ، والأعمى والبصير ليس كذلك ، لأن الشخص الواحد قد يكون بصيراً .

ثم يعرض له العمى ، فلا منافاة إلا من حيث الوصف .

والمنافاة بين الظل والحرور دائمة ، لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد ؛ فلما كانت المنافاة أتم ، أكد بالتكرار .

وأما الأحياء والأموات من حيث أن الجسم الواحد يكون محلاً للحياة ، فيصير محلاً للموت .

فالمنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير ، لأن هذين قد يشتركان في إدراك مّا ، ولا كذلك الحي .

والميت يخالف الحي في الحقيقة ، لا في الوصف ، على ما بين في الحكمة الإلهية .

وقدّم الأشرف في مثلين ، وهو الظل والحر ؛ وآخر في مثلين ، وهما البصير والنور ، ولا يقال لأجل السجع ، لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ ، بل فيه .

وفي المعنى : والشاعر قد يقدّم ويؤخر لأجل السجع والقرآن .

المعنى صحيح ، واللفظ فصيح ، وكانوا قبل المبعث في ضلالة ، فكانوا كالعمي ، وطريقهم الظلمة .

فلما جاء الرسول ، واهتدى به قوم ، صاروا بصيرين ، وطريقهم النور ، وقدّم ما كان متقدّماً من المتصف بالكفر ، وطريقته على ما كان متأخراً من المتصف بالإيمان وطريقته .

ثم لما ذكر المآل والمرجع ، قدّم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب ، كما جاء : سبقت رحمتي غضبي ، فقدّم الظل على الحرور .

ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى ، وشابه الأموات في عدم إدراك الحق فقال : { وما يستوي الأحياء } : الذين آمنوا بما أنزل الله ، { ولا الأموات } : الذين تليت عليهم الآيات البينات ، ولم ينتفعوا بها .

وهؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن ، فأخرهم لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافر .

وأفرد الأعمى والبصير ، لأنه قابل الجنس بالجنس ، إذ قد يوجد في أفراد العميان ما يساوي به بعض أفراد البصراء ، كأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البصير البليد .

فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به ، لا بين الأفراد .

وجمعت الظلمات ، لأن طرق الكفر متعدّدة ؛ وأفرد النور ، لأن التوحيد والحق واحد ، والتفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد وبين هذا الواحد فقال : الظلمات لا تجد فيها ما يساوي هذا النور .

وأما الأحياء والأموات ، فالتفاوت بينهما أكثر ، إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حياً ، فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات ، سواء قابلت الجنس بالجنس ، أم قابلت الفرد بالفرد . انتهى .

من كلام أبي عبد الله الرازي ، وفيه بعض تلخيص .

ثم سلى رسوله بقوله : { إن الله يسمع من يشاء } : أي إسماع هؤلاء منوط بمشيئتنا ، وكنى بالإسماع عن الذي تكون عنه الإجابة للإيمان .

ولما ذكر أنه { ما يستوي الأحياء ولا الأموات } ، قال : { وما أنت بمسمع من في القبور } : أي هؤلاء ، من عدم إصغائهم إلى سمع الحق ، بمنزلة من هم قد ماتوا فأقاموا في قبورهم .

فكما أن من مات لا يمكن أن يقبل منك قول الحق ، فكذلك هؤلاء ، لأنهم أموات القلوب .

وقرأ الأشهب ، والحسن بمسمع من ، على الإضافة ؛ والجمهور : بالتنوين .