قوله تعالى : { قل } . يا محمد لليهود و النصارى .
قوله تعالى : { أتحاجوننا في الله } . أي في دين الله ، والمحاجة : المجادلة في الله لإظهار الحجة ، وذلك بأنهم قالوا إن الأنبياء كانوا منا وعلى ديننا ، وديننا أقدم فنحن أولى بالله منكم فقال الله : ( قل أتحاجوننا في الله ) .
قوله تعالى : { وهو ربنا وربكم } . أي نحن وأنتم سواء في الله فإنه ربنا وربكم .
قوله تعالى : { ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم } . أي لكل واحد جزاء عمله ، فكيف تدعون أنكم أولى بالله .
قوله تعالى : { ونحن له مخلصون } . وأنتم به مشركون . قال سعيد بن جبير : الإخلاص أن يخلص العبد دينه وعمله لله فلا يشرك به في دينه ، ولا يرائي بعمله . قال الفضيل : ترك العمل لأجل الناس رياء ، و العمل من أجل الناس شرك ، و الإخلاص أن يعافيك الله منهما .
ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في تذكيرهم ودحض حجتهم فقال تعالى : { قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ . أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ . تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
ومعنى الآية الكريمة : قل يا محمد لأهل الكتاب الذين قالوا لك ولأصحابك { كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ } وزعموا أن دينهم هو المعتبر عند الله دون دينك ، قل لهم : أتجادلوننا في دين الله وهو ملة الإِسلام التي بعثني به للعالمين هدى ورحمة ، وتزعمون أن الهداية فيما أنتم عليه من اليهودية والنصرانية ، وتستبعدون عليه - تعالى - أن ينزل وحيه على من ليس منكم ، بدعوى أنكم أقرب إلى الله منا ، وأنكم أبناء الله وأحياؤه ، والحال أنه - سبحانه - هو { رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أي خالقنا وخالقكم ورازقنا ورازقكم ومحاسبنا ومحاسبكم على ما يصدر منا ومنكم من أعمال .
وقوله تعالى : { وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } معناه : لكل منا ومنكم أعمال يترتب عليها الثواب والعقاب ، فكما أننا نتساوى معكم في أن الله ربنا وربكم فكذلك نتساوى معكم في استحقاق الجزاء على الأعمال التي نعملهاه ، فانظروا إلى أعمالنا وأعمالكم تجدوا أعمالنا خيراً من أعمالكم ، لأننا نزيد عليكم لإِخلاص لله فثي تلك الأعمال فلا تستبعدوا أن يؤهل أهل إخلاصه بإكرامهم بالنبوبة .
فقوله تعالى : { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } حجتان مبطلتان لدعوى أهل الكتاب أنهم أحق لأن تكون النبوة فيهم لأن نسبة العباد إلى الله - تعالى - واحدة هو ربهم وهم عباده ، والتفاضل في المنازل لديه إنما يكون بالأعمال الصالحة والإِخلاص لله فيها ، وهو أعلم حيث يجعل رسالته ، ويختص بوحيه من يراه أهلا لذلك ، وقد شاء - سبحانه - أن ينزل وحيه على محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي ، بدين عام خالد فيه الهداية والنور والفلاح في الدنيا والآخرة .
وقوله تعالى : { وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } بيان لسبب أحقية المسلمين بالهداية والكرامة ، والمعنى ، ونحن - يا معشر المسلمين - لربنا موحدون ، مخلص لله العبادة والعمل ، ولا نشرك معه آلهة أخرى ، أما أنتم فقد أشركتم وضللتم فقال بعضكم : " عزير ابن الله " وقال بعضكم { المسيح ابن الله } فنحن أهدى منكم سبيلا ، وأقوم قيلا .
ولم يصف المسلمون أعمالهم بالحسن ، ولا أعمال المخاطبين بالسوء تجنباً لنفور المخاطبين من سماع خطابهم ، بل أوردوا كلامهم مورد قوله تعالى { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } كما أنهم لم يقولوا : ونحن مخلصون وأنتم مخطئون ، بل اقتصروا على نسبة الإِخلاص لأنفسهم ، وفي ذلك تعريض لطيف بأن المخاطبين غير مخلصين لله ، فإن إخبار الإِنسان باشتراكه مع جماعة في أمر أو أمور ، وإفراد نفسه بعد ذلك بأمر ، يومئ إلى أن هذا الأمر الذي أثبته لنفسه خاصة معدوم في أولئك الجماعة .
فمعنى الجملة : ونحن مخلصون في أعمالنا لله وحده ، ولم نخلطها بشيء من الشرك كما فعل غيرنا .
{ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ }( 139 )
معنى الآية : { قل } يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وادعوا أنهم أولى بالله منكم لقدم أديانهم وكتبهم :
{ أتحاجوننا في الله } ؟ أي أتجاذبوننا( {[1325]} ) الحجة على دعواكم ، والرب تعالى واحد وكل مجازى بعمله ، فأي تأثير لقدم الدين( {[1326]} ) ؟ ، ثم وبخوا بقوله { ونحن له مخلصون } أي ولم تخلصوا أنتم ، فكيف تدعون ما نحن أولى به منكم ؟ .
وقرأ ابن محيصن «أتحاجونا » بإدغام النون في النون ، وخف الجمع بين ساكنين لأن الأول حرف مد ولين ، فالمد كالحركة ، ومن هذا الباب دابة وشابة ، و { في الله } معناه في دينه والقرب منه والحظوة لديه .
{ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِى اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } .
استئناف عن قوله { قولوا آمنا بالله } [ البقرة : 136 ] كما تقدم هنا لك ، و { تحاجوننا } خطاب لأهل الكتاب لأنه جواب كلامهم السابق ولدليل قوله الآتي : { أم يقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويقعوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى } [ البقرة : 140 ] .
والاستفهام للتعجب والتوبيخ ، ومعنى المحاجة في الله الجدال في شؤونه بدلالة الاقتضاء إذ لا محاجة في الذات بما هي ذات والمراد الشأن الذي حمل أهل الكتاب على المحاجة مع المؤمنين فيه وهو ما تضمنته بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أن الله نسخ شريعة اليهود والنصارى وأنه فضله وفضل أمته ، ومحاجتهم راجعة إلى الحسد واعتقاد اختصاصهم بفضل الله تعالى وكرامته . فلذلك كان لقوله { وهو ربنا وربكم } موقع في تأييد الإنكار أي بلغت بكم الوقاحة إلى أن تحاجونا في إبطال دعوة الإسلام بلا دليل سوى زعمكم أن الله اختصكم بالفضيلة مع أن الله ربنا كما هو ربكم فلماذا لا يمن علينا بما مَنَّ به عليكم ؟ .
فجملة { وهو ربنا } حالية أي كيف تحاجوننا في هاته الحالة المعروفة التي لا تقبل الشك ، وبهذه الجملة حصل بيان لموضوع المحاجة ، وكذلك جملة { ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم } وهي عطف على الحال ارتقاء في إبطال مجادلتهم بعد بيان أن المربوبية تؤهل لإنعامه كما أهلتهم ، ارتقى فجعل مرجع رضى الله تعالى على عباده أعمالهم فإذا كان قد أكرمكم لأجل الأعمال الصالحة فلعله أكرمنا لأجل صالحات أعمالنا فتعالوا فانظروا أعمالكم وانظروا أعمالنا تجدوا حالنا أقرب إلى الصلاح منكم .
قال البيضاوي : « كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحونه إفحاماً وتبكيتاً فإن كرامة النبوءة إما تفضل من الله على من يشاء فالكل فيه سواء وإما إفاضة حق على المستعدين لها بالمواظبة على الطاعة فكما أن لكم أعمالاً ربما يعتبرها الله في إعطائها فلنا أيضاً أعمال » .
وتقديم المجرور في { لنا أعمالنا } للاختصاص أي لنا أعمالنا لا أعمالكم فلا تحاجونا في أنكم أفضل منا ، وعطف { ولكم أعمالكم } احتراس لدفع توهم أن يكون المسلمون مشاركين للمخاطبين في أعمالهم وأن لنا أعمالنا يفيد اختصاص المتكلمين بما عملوا مع الاشتراك في أعمال الآخرين وهو نظير عطف قوله تعالى : { ولي دين على قوله : لكم دينكم } [ الكافرون : 6 ] .
وهذا كله من الكلام المصنف مثل قوله تعالى : { وإنا أوْ إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] .
وجملة { نحن له مخلصون } عطف آخر على جملة الحال وهي ارتقاء ثالث لإظهار أن المسلمين أحق بإفاضة الخير فإنهم وإن اشتركوا مع الآخرين في المربوبية وفي الصلاحية لصدور الأعمال الصالحة فالمسلمون قد أخلصوا دينهم لله ومخالفوهم قد خلطوا عبادة الله بعبادة غيره ، أي فلماذا لا نكون نحن أقرب إلى رضى الله منكم إليه ؟ .
والجملة الاسمية مفيدة الدوام على الإخلاص كما تقدم في قوله : { ونحن له مسلمون } [ البقرة : 136 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل أتحاجوننا في الله}: أتخاصموننا في الله.
{وهو ربنا وربكم}: فقال لهم: {ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون}... لنا ديننا ولكم دينكم، يعني: أن يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران قالوا للمؤمنين: إن أنبياء الله كانوا منا من بني إسرائيل، فكانوا على ديننا، فأنزل الله عز وجل يكذبهم:
{أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{قُلْ أتُحَاجّونَنا فِي اللّهِ}: قل يا محمد لمعاشر اليهود والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، وزعموا أن دينهم خير من دينكم، وكتابهم خير من كتابكم لأنه كان قبل كتابكم، وزعموا أنهم من أجل ذلك أولى بالله منك: أتحاجوننا في الله، وهو ربنا وربكم، بيده الخيرات، وإليه الثواب والعقاب، والجزاء على الأعمال الحسنات منها والسيئات، فتزعمون أنكم بالله أولى منّا من أجل أن نبيكم قبل نبينا، وكتابكم قبل كتابنا، وربكم وربنا واحد، وأن لكل فريق منا ما عمل واكتسب من صالح الأعمال وسيئها، ويجازي فيثاب أو يعاقب لا على الأنساب وقدم الدين والكتاب.
"قل أتحاجّوننا": قل أتخاصموننا وتجادلوننا...
{وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}: ونحن لله مخلصو العبادة والطاعة لا نشرك به شيئا، ولا نعبد غيره أحدا، كما عبد أهل الأوثان معه الأوثان، وأصحاب العجل معه العجل. وهذا من الله تعالى ذكره توبيخ لليهود واحتجاج لأهل الإيمان، بقوله تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: قولوا أيها المؤمنون لليهود والنصارى الذين قالوا لكم: {كونوا هودا أو نصارى تهتدوا}. أتُحاجّونَنا في الله، يعني بقوله: {فِي اللّهِ} في دين الله الذي أمرنا أن ندينه به، وربنا وربكم واحد عدل لا يجور، وإنما يجازي العباد على ما اكتسبوا. وتزعمون أنكم أولى بالله منا لقدم دينكم وكتابكم ونبيكم، ونحن مخلصون له العبادة لم نشرك به شيئا، وقد أشركتم في عبادتكم إياه، فعبد بعضكم العجل وبعضكم المسيح. فأَنّى تكونوا خيرا منا، وأولى بالله منّا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قل أتحاجوننا في الله}؛ روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18] ونحن أولى بالله منكم، فأنزل الله في ذلك: {قل أتحاجوننا في الله}؛ وقيل: (في الله) يعني في دين الله، أي أتحاجون، وتخاصمون في دين الله؟
{وهو ربنا وربكم} أي أتحاجون في الله مع علمكم وإقراركم أنه ربنا وربكم بقوله: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [الزخرف: 87]. وقوله: {ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم} قيل: لنا ديننا ولكم دينكم كقوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6] ويحتمل {ولنا أعمالنا} لا تسألون أنتم عنها، {ولكم أعمالكم} ولا نسأل نحن عن أعمالكم، كقوله: {ولا تسألون عما كانوا يعملون} [البقرة: 134 و 141].
وقوله: {ونحن له مخلصون} [أي] دينا وعملا، لا نشرك فيه غيره...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: اتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم، وتقولون: لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا، وترونكم أحق بالنبوة منا {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} نشترك جميعاً في أننا عباده، وهو ربنا، وهو يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده، هم فوضى في ذلك لا يختص به عجمي دون عربي إذا كان أهلاً للكرامة
{وَلَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم} يعني أن العمل هو أساس الأمر وبه العبرة، وكما أن لكم أعمالاً يعتبرها الله في إعطاء الكرامة ومنعها فنحن كذلك.
ثم قال: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} فجاء بما هو سبب الكرامة، أي ونحن له موحدون نخلصه بالإيمان فلا تستبعدوا أن يؤهل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوّة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم وبخوا بقوله {ونحن له مخلصون} أي ولم تخلصوا أنتم، فكيف تدعون ما نحن أولى به منكم؟ و {في الله} معناه في دينه والقرب منه والحظوة لديه.
أما قوله: {وهو ربنا وربكم} ففيه وجهان.
(الأول): أنه أعلم بتدبير خلقه وبمن يصلح للرسالة وبمن لا يصلح لها، فلا تعترضوا على ربكم، فإن العبد ليس له أن يعترض على ربه، بل يجب عليه تفويض الأمر بالكلية له.
(الثاني): أنه لا نسبة لكم إلى الله تعالى إلا بالعبودية، وهذه النسبة مشتركة بيننا وبينكم، فلم ترجحون أنفسكم علينا، بل الترجيح من جانبنا لأنا مخلصون له في العبودية، ولستم كذلك، وهو المراد بقوله: {ونحن له مخلصون} وهذا التأويل أقرب.
أما قوله تعالى: {وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} فالمراد منه النصيحة في الدين كأنه تعالى قال لنبيه: قل لهم هذا القول على وجه الشفقة والنصيحة، أي لا يرجع إلى من أفعالكم القبيحة ضرر حتى يكون المقصود من هذا القول دفع ذلك الضرر وإنما المراد نصحكم وإرشادكم إلى الأصلح.
وبالجملة فالإنسان إنما يكون مقبول القول إذا كان خاليا عن الأغراض الدنيوية، فإذا كان لشيء من الأغراض لم ينجع قوله في القلب البتة فهذا هو المراد فيكون فيه من الردع والزجر ما يبعث على النظر وتحرك الطباع على الاستدلال وقبول الحق...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قوله تعالى: {ونحن له مخلصون} أي مخلصون العبادة، وفيه معنى التوبيخ، أي ولم تخلصوا أنتم فكيف تدعون ما نحن أولى به منكم، والإخلاص حقيقته تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والمعنى: أنه مع اعترافنا كلنا أنا مربوبون لرب واحد، فلا يناسب الجدال فيما شاء من أفعاله، وما خص به بعض مربوباته من الشرف والزلفى، لأنه متصرف في كلهم تصرف المالك. والمعنى: أن الرب واحد، وهو المجازي على الأعمال، فلا تنبغي المجادلة فيه ولا المنازعة.
{ونحن له مخلصون}: ولما بين القدر المشترك من الربوبية والجزاء، ذكر ما يميز به المؤمنون من الإخلاص لله تعالى في العمل والاعتقاد، وعدم الإشراك الذي هو موجود في النصارى وفي اليهود، لأن من عبد موصوفاً بصفات الحدوث والنقص، فقد أشرك مع الله إلهاً آخر. والمعنى: أنا لم نشب عقائدنا وأفعالنا بشيء من الشرك، كما ادعت اليهود في العجل، والنصارى في عيسى. وهذه الجملة من باب التعريض بالذم، لأن ذكر المختص بعد ذكر المشترك نفي لذلك المختص عمن شارك في المشترك، ويناسب أن يكون استطراداً، وهو أن يذكر معنى يقتضي أن يكون مدحاً لفاعله وذماً لتاركه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أمر تعالى بقوله: {قل بل ملة إبراهيم} [البقرة: 135] وما بعده بإعلام الخصم بالمخالفة وأن لا موافقة إلا بترك الهوى واتباع الهدى أمر بمجادلتهم بما يوهي أقوالهم ويزيح شبههم فقال معرضاً بالخطاب عن الجمع موجهاً له إلى رسوله صلى الله عليه وسلم رفعاً لمقامه وتعريفاً بعلي منصبه إعلاماً بأنه لا ينهض بذلك غيره لما لهم من العلم مع ما عندهم من الجدل واللدد: {قل} منكراً لمحاجتهم وموبخاً لهم عليها {أتحاجوننا}
ولما كان الأنسب في المقارعة إعلام الخصم بالمخالفة لأنه أقطع لطمعه وأمكن لغيظه مع أنه هنا أقرب إلى رضى الخالق قدم على المجادلة، ومعنى قوله: {في الله} في اختصاصكم بالملك الذي لا ملك سواه، لأن له الكمال كله المشار إلى إبطاله فيما سبق بقوله: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة} [البقرة: 94] أي أتحاجوننا في ذلك ولا وجه لاختصاصكم به... {وهو} أي والحال أنه {ربنا وربكم} نحن وأنتم في العبودية له سواء {ولنا أعمالنا} نختص به دونكم {ولكم أعمالكم} تختصون بها دوننا، لا نخاف منه أن يخصكم بأعمالنا ولا بشيء منها لتختصوا بها عنده ولا أن يخصنا بأعمالكم ولا بشيء منها لنبعد بها عنه ظلماً ولا غلطاً، لأنه السميع العليم الغني الحميد {ونحن} أحسن أعمالاً منكم لأنا دونكم {له} وحده {مخلصون} لا نشرك به شيئاً وأنتم تشركون به عزيراً والمسيح والأحبار والرهبان، وأنتم تعلمون ذلك في باطن الأمر وإن أظهرتم خلافه، فلزم قطعاً أنا أخص به منكم.
والإخلاص عزل النفس جملة، فلا يبلغ عبد حقيقته حتى لا يحب أن يحمد على عمل...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وحاصل معنى الآية: إبطال معنى شبهة أهل الكتاب أنهم أبناء الله وأحباؤه وأنه لا ينجو من كان على غير طريقتهم وإن أحسن في عمله وأخلص في قصده، وأنهم هم الناجون الفائزون وإن أساءوا عملا ونية، لأن أنبياءهم هم الذين ينجونهم ويخلصونهم بجاههم، فالفوز عندهم بعمل سلفهم، لا بصلاح أنفسهم ولا أعمالهم. وهذا الاعتقاد هدم لدين الله الذي بعث به جميع أنبيائه ودرج عليه من اتبع سبيلهم، فإن روح الدين الإلهي وملاكه هو التوحيد والإخلاص المعبر عنه بالإسلام وكل عمل أمر به الدين فإنما الغرض منه إصلاح القلب والعقل بسلامة الاعتقاد وحسن القصد، فإذا زال هذا المعنى وحفظت جميع الأعمال الصورية فإنها لا تفيد شيئا، بل إنها تضر بدونه، لأنها تشغل الإنسان بما لا يفيد، وتصده عن المفيد. ولا شك أن أهل الكتاب كانوا قد أزهقوا هذا الروح الإلهي من دينهم فسواء [أكان] ما حفظوه من التقاليد والأعمال مأثورا عن أنبيائهم أم غير مأثور، [ف] إنهم ليسوا على دين الله، ومن كان على بصيرة منهم عرف أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو إحياء لروح الدين الذي كان عليه جميع الأنبياء والمرسلين. وتكميل لشرائعه وآدابه بما يصلح لجميع البشر في كل زمان ومكان.
ثم إن من تأمل هذا وتأمل حال المسلمين يظهر له أنهم قد اتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، وسيرجع من يريد الله بهم الخير إلى دين الله تعالى بالرجوع إلى كتابه الذي حرم عليهم تقليد آراء الناس فجازوه بأن حرموا العمل به، كما رجع الألوف وألوف الألوف من أهل الكتاب إلى ذلك في القرون الأولى من ظهور الإسلام وسيرجع غيرهم من سائر البشر إليهم فيعم العالمين {ولتعلمن نبأه بعد حين}...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
المحاجة هي المجادلة بين اثنين فأكثر، تتعلق بالمسائل الخلافية، حتى يكون كل من الخصمين يريد نصرة قوله، وإبطال قول خصمه، فكل واحد منهما، يجتهد في إقامة الحجة على ذلك، والمطلوب منها، أن تكون بالتي هي أحسن، بأقرب طريق يرد الضال إلى الحق، ويقيم الحجة على المعاند، ويوضح الحق، ويبين الباطل، فإن خرجت عن هذه الأمور، كانت مماراة، ومخاصمة لا خير فيها...
[و] في هذه الآية، إرشاد لطيف لطريق المحاجة، وأن الأمور مبنية على الجمع بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تمضي الحجة الدامغة إلى نهايتها الحاسمة... ولا مجال للجدل في وحدانية الله وربوبيته. فهو ربنا وربكم، ونحن محاسبون بأعمالنا، وعليكم وزر أعمالكم. ونحن متجردون له مخلصون لا نشرك به شيئا، ولا نرجو معه أحدا.. وهذا الكلام تقرير لموقف المسلمين واعتقادهم؛ وهو غير قابل للجدل والمحاجة واللجاج...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم} كان الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وليتولى الحجاج معهم إعلاء لكلمة الله تعالى لمن يتولى المحاجة والمجادلة، والله أجل وأعلى من ذلك فترك للنبي صلى الله عليه وسلم أمر هذه المحاجة.
والاستفهام هنا للتوبيخ، أي ما كان لكم أن تحاجونا في الله تعالى بادعاء القرب، وأنكم أولى به وبمحبته ومعرفته، فالمحاجة في الله تعالى لا في أصل وجوده، ولا في أصل وحدانيته لقوله تعالى: {ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال 13} [الرعد]. ففي هذا النص كان الجدال في الله تعالى، من حيث وجوده، وأنه الفاعل المختار. أما هنا في هذا النص الذي نتكلم في معانيه، فالمحاجة في الله تعالى من جهة القرب منه، والمنزلة عنده لا محاجة أصل وجوده، والمحاجة من جانب اليهود والنصارى بادعائهم على الله سبحانه وتعالى بأن دينهم هو الذي ارتضاه وأنهم أقرب إلى الله، وأنهم أحبابه، وأنهم أبناؤه، إلى غير ذلك من الأوهام التي يثيرونها حول الله تعالى...
تحديد الأمر ب"قل" إيقاظ لمهمة التكليف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.. والله سبحانه وتعالى حين يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام قل كان يكفي أن يقول ما يريده سبحانه.. فأنت إذا قلت لابنك اذهب إلى أخيك وقل له أبوك يأمرك بكذا فيذهب الولد ويقول هذا الكلام دون أن يقول كلمة قل.. ولكن خطاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بكلمة قل تلفتنا إلى أن هذا الأمر ليس من عنده ولكنه من عند الله سبحانه، ومهمة الرسول هي البلاغ.
[و] إن تكرار كلمة "قل" في الآيات هي نسبة الكلام المقول إلى عظمة قائله الأول وهو الله تبارك وتعالى...
{قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم}.. المحاجة معناها حوار بالحجة، كل من المتحاورين يأتي بالحجة التي تؤيد رأيه أو وجهة نظره..
وإذا قرأت قوله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} (من الآية 258 سورة البقرة). أي قال كل منهما حجته.. ولابد أن يكونا خصمين كل منهما يعاند رأيه الرأي الآخر وكل يحاول أن يأتي بالحجة التي تثبت صدق كلامه فيرد عليه خصمه بالحجة التي تهدم هذا الكلام وهكذا.
{أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم}... و مادام الله رب الجميع كان من المنطق أن نلتقي لأنه ربي وربكم حظنا منه سواء.. ولكن مادامت قد قامت الحجة بيننا فأحدنا على باطل.. واقرأ قوله سبحانه: {والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد "16 "} (سورة الشورى). والمحاجة لا يمكن أن تقوم بين حق وحق وإنما تقوم بين حق وباطل وبين باطل وباطل.. لأن هناك حقا واحدا لكن هناك مائة طريق إلى الباطل.. فمادامت المحاجة قد قامت بيننا وبينكم ونحن على حق فلابد أنكم على باطل..
وليحسم الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة ويمنع الجدل والجدال قال سبحانه: {ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون}.. أي لا نريد جدلا لأن الجدل لن يفيد شيئا.. نحن لنا أعمالنا وأنتم لكم أعمالكم وكل عمل سيجازي صاحبه عليه بمدى إخلاصه لله.. ونحن أخلصنا العبادة لله وحدة وأنتم اتجهتم بعبادتكم إلى ما تحبه أهواؤكم...