التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{قُلۡ أَتُحَآجُّونَنَا فِي ٱللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمۡ وَلَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُخۡلِصُونَ} (139)

قوله تعالى : { قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل آأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون } . { أتحاجوننا } الهمزة للاستفهام ، تحاجون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون وواو الجماعة في محل رفع فاعل ، والضمير المتصل في محل نصب مفعول به . وقوله تحاجوننا معناه تجادلوننا وهو من المحاجة أي مجاذبة الحجة ، فكأن كل فريق من المتخاصمين يجذب حجة الآخر ليرسي حجته بدلا منها .

وقوله { في الله } أي في دينه وحقيقة شأنه والقرب منه والحظوة عنده . والمقصود أهل الكتاب وخصوصا اليهود ، فقد كانوا يجادلون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الله وفي دينه وفي مبلغ القرب منه . فكانوا يفاخرون المسلمين بأنهم أقدم منهم دينا وأكثر أنبياء وأشد كرامة ؛ لانتسابهم لآبائهم من النبيين والمرسلين كما يزعمون . وزعموا كذلك أنهم أنبياء الله وأحباؤه فهم بذلك أعظم عند الله حظوة ومكانة ، إلى غير ذلك من المفاخرة الفاسدة التي تقوم على التعصب والجهل ، ولا تستند إلى غير الحماقة والسفاهة والضلالة والتشبث بمقولات فارغة تافهة جوفاء لا تغني من الحق شيئا .

وبعد هذا الاستنكار لهذه المحاجة العميقة يأمر الله نبيه بالرد عليهم وهو أن الله { ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون } أي لم هذه المحاجة العقيمة التي لا تنفع مع أن البدهيات تزجي بأن الله جلت قدرته هو رب الجميع ، وليس ربكم وحدكم كما تزعمون وتتوهمون ولكنه ( ربنا وربكم ) وكذلك فإن أعمالنا غير أعمالكم ، فكل منا يعمل على شاكلته ، وكل منا ملاق حسابه عند ربه ، والله سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملا وليس بغافل عما يعمل المفسدون ، فأنتم بريئون منا ونحن بريئون منكم . جاء في ذلك قوله سبحانه في آية أخرى : ( وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريئ مما تعملون ) .

وقوله : { ونحن له مخلصون } من الإخلاص وفعله خلُص بضم اللام أي صفا وصار نقيا . نقول : خلُص الماء من الكدر أي صفا تماما ، وخلاصة الشيء ما صفا منه . ويطلق الإخلاص في الشرع أو الدين على تصفية الفعل أو القول من ابتغاء المخلوقين . فإن ابتغاء أحد من المخاليق يعني التشريك في القصد الدافع للفعل أو القول . أو هو تفتيت للنية في توجهها إلى الله وإلى غيره من العباد ، سواء كانوا من الجنة أو الناس أو الملائكة . ذلك أن الإخلاص في القول أو الفعل يعني أن يكون التوجه منصبا تماما في سبيل الله ، وأن يكون القصد محصورا في ابتغاء مرضاة الله وليس منشطرا إلى شطرين أو إلى جملة أشطر لتتعدد النوايا والقصود ويكون التشريك في الابتغاء والعبادة ، فلا يبقى للإخلاص بعد ذلك وجود . حتى إن الإشراك في الابتغاء والقصد لا يستحق إلا التنديد والرفض ، ولا يستوجب غير التخسير والحبوط ، ولا قيمة عندئذ للشطر من الابتغاء السارب في طريق الله والذي يحسبه الواهم ضربا من الإخلاص . والحقيقة أن قضية الإخلاص أساسية وخطيرة وكبرى وهي لا تقبل الانشطار أو التجزئة ، ولكنها قضية واحدة منسجمة لا تتجزأ ، فلا تصلح أن تنشطر بين الله وأحد من خلقه .

وبعبارة أخرى فإن الإخلاص لا يكون إلا لله وليس لأحد من خلقه معه ، وإذا كان شيء من ذلك بانت الإخلاص منعدما وغير ذي وجود . يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا الصدد من الإخلاص : " إن الله تعالى يقول : أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي . يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالي ، فإن الله تعالى لا يقبل إلا ما خلص له ، ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء ، ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنا لوجوهكم وليس لله تعالى منها شيء " {[145]}


[145]:- أخرجه الدار قطني عن الضحاك بن قيس الفهرسي.