قوله تعالى : { وإن نكثوا أيمانهم } ، نقضوا عهودهم .
قوله تعالى : { من بعد عهدهم } ، عقدهم ، يعني مشركي قريش .
قوله تعالى : { وطعنوا } . قدحوا .
قوله تعالى : { في دينكم } عابوه ، فهذا دليل على أن الذمي إذا طعن في دين الإسلام ظاهرا لا يبقى له عهد .
قوله تعالى : { فقاتلوا أئمة الكفر } . قرأ أهل الكوفة والشام : أئمة بهمزتين حيث كان ، وقرأ الباقون بتليين الهمزة الثانية ، وأئمة الكفر : رؤوس المشركين وقادتهم من أهل مكة . قال ابن عباس : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، و أبي جهل بن هشام ، و سهيل بن عمرو ، و عكرمة بن أبي جهل ، وسائر رؤساء قريش يومئذ الذين نقضوا العهد ، وهم الذين هموا بإخراج الرسول . وقال مجاهد : هم أهل فارس والروم ، وقال حذيفة بن اليمان : ما قوتل أهل هذه الآية ولم يأت أهلها بعد .
قوله تعالى : { إنهم لا أيمان لهم } ، أي لا عهود لهم ، جمع يمين .
قال قطرب : لا وفاء لهم بالعهد ، وقرأ ابن عامر : { لا أيمان لهم } بكسر الألف ، أي لا تصديق لهم ولا دين لهم . وقيل : هو من الأمان ، أي لا تؤمنوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم .
قوله تعالى : { لعلهم ينتهون } . أي لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم . وقيل : عن الكفر .
أما إن كانت الآخرى ، أى إذا لم يتوبوا وصاروا على عداوتهم ، فقد بين سبحانه . ما يجب على المؤمنين نحوهم في هذه الحالة فقال : { وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ } .
أى : وإن نقضوا عهودهم من بعد أن تعاقدوا معكم على الوفاء بها .
وقوله : { نكثوا } من النكث بمعنى النقض والحل . يقال نكث فلان الحبل إذا نقض فتله وحل خيوطه ومنه قوله - تعالى - : { وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً } وقوله : { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } معطوف على ما قبله . أى : وعابوه وانتقضوه .
وقوله : { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } أى : فقاتلوهم فهم أئمة الكفر ، وحملة لوائه . فوضع - سبحانه - الاسم الظاهر المبين لشر صفاتهم موضع الضمير على سبيل الذم لهم .
وقيل : المراد بأئمة الكفر رؤسائهم وصناديدهم الذين كانوا يحرضونهم على عداوة المؤمنين ، ويقودونهم لقتال النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
وعطف . سبحانه - قوله { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } على ما قبله مع أن نقض العهد كاف في إباحة قتالهم ، لزيادة تحريض المؤمنين على مجاهدتهم والاغلاظ عليهم .
وقوله : { إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } تعليل للأمر بقتالهم أى قاتلوا هؤلاء المشركين بعزيمة صادقة ، وقلوب ثابتة ، لأنهم قوم لا أيمان عهود لهم الحقيقة ، لأنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان .
وقرأ ابن عامر { إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } - بكسر الهمزة . على أنها مصدر آمنه إيمانا بمعنى إعطاء الأمان . أى أنهم لا أمان لهم فاحذروا الاغترار بهم . أو المراد الإِيمان الشرعى . أى إنهم لا تصديق ولا دين لهم ، ومن كان كذلك فلا وفاء له .
وقوله : { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } متعلق بقوله { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } .
أى : ليكن مقصدكم من مقاتلتهم - بعد أن وجد منهم ما وجد إيذائكم الرجاء في هدايتهم ، والانتهاء عن كفرهم وخيانتهم . . واحذروا أن يكون مقصدكم من ذلك العدوان واتباع الهوى .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات سوى ما سبق - ما يأتى :
1- أن ما ذكرته الآيات من كون المشركين ، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، يقرر حقيقة واقعة ، ومن الأدلة على ذلك ما فعله التتار بالمسلمين - وخاصة مسلمى بغداد . سنة 656 . وما فعله الوثنيون الهنود مع مسلمى باكستان ، وما فعله الشيوعيون .
وقوله تعالى : { وإن نكثوا أيمانهم } الآية ؛ النكث النقض وأصله في كل ما قبل ثم حل ، فهي في الأيمان والعهود مستعارة ، وقوله { وطعنوا في دينكم } أي بالإستنقاص والحرب وغير ذلك مما يفعله المشرك ، وهذه استعارة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر أسامة : إن تطعنوا فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل ، الحديث{[5541]} .
قال القاضي أبو محمد : ويليق هنا ذكر شيء من طعن الذمي في الدين فالمشهور من مذهب مالك رحمه أنه : إذا فعل شيئاً من ذلك مثل تكذيب الشريعة وسب النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه قتل ، وقيل إذا كفر وأعلن بما هو معهود من معتقده وكفره أدِّب على الإعلان وترك ، وإذا كفر بما ليس من معهود كفره كالسب ونحوه قتل ، وقال أبو حنيفة في هذا : إنه يستتاب ، واختلف إذا سب الذمي النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم تقية القتل فالمشهور من المذهب أن يترك ، وقد قال صلى الله عليه وسلم «الإسلام يجب ما قبله »{[5542]} وفي العتبية أنه يقتل ولا يكون أحسن حالا من المسلم ، وقوله تعالى { فقاتلوا أئمة الكفر } أي رؤوسهم وأعيانهم الذين يقودون الناس إليه ، وقال قتادة : المراد بهذا أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهما .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إن لم يتأول أنه ذكرهم على جهة المثال ضعيف لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير ، وروي عن حذيفة أنه قال : لم يجىء هؤلاء بعد .
قال القاضي أبو محمد : يريد أن ينقرضوا فهم يحيون أبداً ويقتلون ، وأصوب ما في هذا أن يقال إنه لا يعنى بها معين ، وإنما وقع الأمر بقتال أئمة الناكثين بالعهود من الكفرة إلى يوم القيامة دون تعيين ، واقتضت حال الكفار العرب ومحاربي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون الإشارة إليهم أولاً بقوله { أئمة الكفر } وهم حصلوا حينئذ تحت اللفظة إذ الذي يتولى قتال النبي والدفع في صدر شريعته هو إمام كل من يكفر بذلك الشرع إلى يوم القيامة ، ثم تأتي في كل جيل من الكفار أئمة خاصة بجيل جيل ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «أيمة » بهمزة واحدة وبعدها ياء مكسورة ، وقد روي عن نافع مد الهمزة ، وروى عنه ابن أبي أويس «أأمة » بهمزتين وأصلها «أأمة » وزنها أفعلة جمع إمام كعماد وأعمدة ، نقلت حركة الميم إلى الهمزة التي هي فاء الفعل{[5543]} وأدغمت الميم الأخرى وقلبت الهمزة ياء لانكسارها ولاجتماع همزتين من كلمة واحدة ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «أأمة » والتعليل واحد ، إلا أنهم لم يقلبوا الهمزة ياء ، وقرأ المسيبي{[5544]} عن نافع «آيمة » بهمزة ممدودة ، وقرأ هشام عن أبي عامر بمدة بين الهمزتين{[5545]} ، وقرأ الناس الجم الغفير لا «أيمان لهم » على جمع يمين ، وليس المراد نفي الأيمان جملة ، وإنما المعنى لا أيمان لهم يوفى بها ويبر ، وهذا المعنى يشبه الآية ، وقرأ الحسن وعطاء وابن عامر وحده من السبعة «لا إيمان لهم » ، وهذا يحتمل وجهين أحدهما لا تصديق ، قال أبو علي وهذا غير قوي لأنه تكرير وذلك أنه وصف أئمة الكفر بأنهم «لا إيمان لهم » فالوجه في كسر الألف أنه مصدر من آمنه إيماناً ، ومنه قوله تعالى : { آمنهم من خوف }{[5546]} فالمعنى أنهم لا يؤمنون كما يؤمن أهل الذمة الكتابيون ، إذ المشركون لم يكن لهم إلا الإسلام أو السيف ، قال أبو حاتم فسر الحسن قراءته لا إسلام لهم .
قال القاضي أبو محمد : والتكرير الذي فر أبو علي منه متجه لأنه بيان المهم الذي يوجب قتلهم لا إسلام لهم .
لمّا استوفى البيان لأصناف المشركين الذين أمر الله بالبراءة من عهدهم بقوله : { أن الله بريء من المشركين إلى قوله { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } [ التوبة : 3 ] وإنّما كان ذلك لإبطانهم الغدر ، والذين أمر بإتمام عهدهم إلى مدّتهم ما استقاموا على العهد بقوله : { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم } [ التوبة : 4 ] الآيات ، والذين يستجيبون عَطَف على أولئك بيان الذين يعلنون بنكث العهد ، ويعلنون بما يسخطُ المسلمين من قولهم ، وهذا حال مضادّ لحال قوله : { وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم } [ التوبة : 8 ] .
والنكث تقدّم عند قوله تعالى : { فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون } في الأعراف ( 135 ) .
وعبَر عن نقض العهد بنكث الأيمان تشنيعاً للنكث ، لأنّ العهد كان يقارنه اليمين على الوفاء ولذلك سمّي العهد حلفا .
وزيد قوله : { من بعد عهدهم } زيادة في تسجيل شناعة نكثهم : بتذكير أنّه غدْر لعهد ، وحنث باليمين .
والطعن حقيقته خرق الجسم بشيء محددٍ كالرمح ، ويستعمل مجازاً بمعنى الثلب . والنسبة إلى النقص ، بتشبيه عِرض المرء ، الذي كان ملتئما غير منقوص ، بالجسد السليم . فإذا أظهرت نقائصه بالثلب والشتم شُبّه بالجِلد الذي أفسِد التحامُه .
والأمر ، هنا : للوجوب ، وهي حالة من أحوال الإذن المتقدّم في قوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] ففي هذه الحالة يجب قتالهم ذبّاً عن حرمة الدين ، وقمعا لشرّهم من قبل أن يتمرّدوا عليه .
و { أئِمّة } جمع إمام ، وهو ما يجعل قدوة في عمل يُعمل على مثاله ، أو على مثال عمله ، قال تعالى : { ونجعلهم أئمة } [ القصص : 5 ] أي مقتدى بهم ، وقال لبيد :
والإمام المثال الذي يصنع على شكله ، أو قدره ، مصنوع ، فأئمّة الكفر ، هنا : الذين بلغوا الغاية فيه ، بحيث صاروا قدوة لأهل الكفر .
والمراد بأئِمّة الكفر : المشركون الذين نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ، فوضع هذا الاسم موضع الضمير حين لم يُقل : فقاتلوهم ، لزيادة التشنيع عليهم ببلوغهم هذه المنزلة من الكفر ، وهي أنّهم قدوة لغيرهم ، لأنّ الذين أضمروا النكث يبقون متردّدين بإظهاره ، فإذا ابتدأ بعضهم بإظهار النقض اقتدى بهم الباقون ، فكان الناقضون أئِمّة للباقين .
وجملة : { إنهم لا أيمان لهم } تعليل لقتالهم بأنّهم استحقّوه لأجل استخفافهم بالأيمان التي حلفوها على السلم ، فغدروا ، وفيه بيان للمسلمين كيلا يشرعوا في قتالهم غير مطّلعين على حكمة الأمر به ، فيكون قتالهم لمجرّد الامتثال لأمر الله ، فلا يكونُ لهم من الغيظ على المشركين ما يشحّذ شدّتهم عليهم .
ونفي الأيمان لَهم : نفي للماهية الحقّ لليمين ، وهي قصد تعظيمه والوفاء به ، فلمّا لم يوفوا بأيمانهم ، نزلت أيمانهم منزلة العدم لفقدان أخصّ أخواصّها وهو العمل بما اقتضته .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ورويس عن يعقوب .
{ أيّمة } بتسهيل الهمزة الثانية بين الهمزة والياء . وقرأ البقية : بتحقيق الهمزتين . وقرأ هشام عن عامر ، وأبو جعفر : بمَدّ بين الهمزتين .
وقرأ الجمهور { لا أيمان لهم } بفتح همزة { أيمان } على أنّه جمع يمين . وقرأه ابن عامر بكسر الهمزة ، أي ليسوا بمؤمنين ، ومن لا إيمان له لا عهد له لانتفاء الوازع .
وعطف { وطعنوا في دينكم } عطف قسيم على قسيمه ، فالواو فيه بمعنى ( أو ) . فإنّه إذا حصل أحد هذين الفعلين : الذين هما نكث الأيمان ، والطعن في الدين ، كان حصول أحدهما موجباً لقتالهم ، أي دون مصالحة ، ولا عهد ، ولا هُدنة بعد ذلك .
وذكر طعنهم في دين المسلمين ينبىء بأنّ ذلك الطعن كان من دأبهم في مدّة المعاهدة ، فأريد صدّهم عن العَود إليه . ولم أقف على أنّه كان مشروطاً على المشركين في عقود المصالحة والمعاهدة مع المسلمين أن لا يطعنوا في الإسلام ، في غير هذه الآية ، فكانَ هذا شرطاً عليهم من بعد ، لأنّ المسلمين أصبحوا في قوة .
وقوله : { فقاتلوا أئمة الكفر } أمر للوجوب .
وجملة { لعلهم ينتهون } يجوز أن تكون تعليلاً للجملة { فقاتلوا أئمة الكفر } أي قتالهم لرجاء أن ينتهوا ، وظاهر أنّ القتال يُفني كثيراً منهم ، فالانتهاء المرجو انتهاء الباقين أحياء بعد أن تضع الحرب أوزارها .
ولم يذكر متعلِّق فعل { ينتهون } ولا يحتمل أن يكون الانتهاء عن نكث العهد ، لأنّ عهدهم لا يقبل بعدَ أن نكثوا لقول الله تعالى : { إنهم لا أيمان لهم } ، ولا أن يكون الانتهاء عن الطعن في الدين ، لأنّه إن كان طعنهم في ديننا حاصلاً في مدّة قتالهم فلا جدوى لرجاء انتهائهم عنه ، وإن كان بعدَ أن تضع الحرب أوزارها فإنّه لا يستقيم إذ لا غاية لتنهية القتل بين المسلمين وبينهم ، فتعيّن أنّ المراد : لعلهم ينتهون عن الكفر .
ويجوز أن تكون الجملة استئنافاً ابتدائياً لا اتّصال لها بجملة { وإن نكثوا أيمانهم } الآية ، بل ناشئة عن قوله : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة إلى قوله { أئمة الكفر } [ التوبة : 5 12 ] .
والمعنى : المرجو أنّهم ينتهون عن الشرك ويسلمون ، وقد تحقّق ذلك فإنّ هذه الآية نزلت بعد فتح مكة ، وبعدَ حُنين ، ولم يقع نكث بعد ذلك ، ودخل المشركون في الإسلام أفواجاً في سنة الوفود .