قوله تعالى : { أم كنتم شهداء } . يعني أكنتم شهداء ، يريد ما كنتم شهداء حضوراً .
قوله تعالى : { إذ حضر يعقوب الموت } . أي حين قرب يعقوب من الموت ، قيل : نزلت في اليهود حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية ؟ فعلى هذا القول يكون الخطاب لليهود ، وقال الكلبي : لما دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيران ، فجمع ولده وخاف عليهم ذلك فقال عز وجل :
{ إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي } . قال عطاء : إن الله تعالى لم يقبض نبياً حتى يخيره بين الحياة والموت ، فلما خير يعقوب قال : أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم ، ففعل الله ذلك به فجمع ولده وولد ولده ، وقال لهم قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي ؟
قوله تعالى : { قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } . وكان إسماعيل عماً لهم والعرب تسمى العم أباً كما تسمى الخالة أماً ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " عم الرجل صنو أبيه " . وقال في عمه العباس : " ردوا علي أبي فإني أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعرة بن مسعود " وذلك أنهم قتلوه .
قوله تعالى : { إلهاً واحداً } . نصب على البدل في قوله إلهك ، وقيل نعرفه إلهاً واحداً .
ثم أنكر القرآن الكريم على اليهود افتراءهم على يعقوب وزعمهم أنه كان على اليهودية التي أقاموا عليها تاركين دين الإِسلام فقال تعالى : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي } .
روى أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية ، فنزلت هذه الآية الكريمة .
والمعنى - ما كنتم - يا معشر اليهود - حاضرين وقت أن أشرف يعقوب على الموت ، ووقت أن قال لبنيه حينئذ { مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي } فكيف تدعون أنه كان على اليهودية التي أنتم عليها وأنه أوصى بها بنيه ؟ ومراد يعقوب - عليه السلام - من هذا السؤال أخذ الميثاق عليهم بالثبات على ملة أبيهم إبراهيم من بعده ، لكي يسعدوا في دنياهم وأخراهم ، وقد أجابوه بما يدل على رسوخ إيمانهم إذ قالوا : { نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } .
وهذا الجواب يتضمن أنهم متمسكون بملة إبراهيم - عليه السلام - وهي ملة لا تثليث فيها ولا تشبيه بمخلوق ، وإنما هي إفراد الله - تعالى - بالعبودية والاستسلام له بالخضوع والانقياد .
{ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }( 133 )
هذا الخطاب لليهود والنصارى الذين انتحلوا الأنبياء صلوات الله عليهم ونسبوهم إلى اليهودية والنصرانية( {[1290]} ) ، فرد الله تعالى عليهم وكذبهم ، وأعلمهم أنهم كانوا على الحنيفية ، والإسلام ، وقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ : أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى فتدعون عن علم ؟ ، أي( {[1291]} ) لم تشهدوا بل أنتم تفترون ، و { أم } تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية( {[1292]} ) ، وحكى الطبري أن { أم } يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره ، وهذا منه ، ومنه { أم يقولون افتراه }( {[1293]} ) [ يونس : 38 ، هود : 13 ، 35 ، السجدة : 3 ، الأحقاف : 8 ] ، وقال قوم : { أم } بمعنى بل( {[1294]} ) ، والتقدير بل شهد أسلافكم يعقوب وعلمتم منهم ما أوصى به ، ولكنكم كفرتم جحداً ونسبتموهم إلى غير الحنيفية عناداً ، والأظهر أنها التي بمعنى بل وألف الاستفهام معاً( {[1295]} ) ، و «شهداء » جمع شاهد أي حاضر ، ومعنى الآية حضر يعقوب مقدمات الموت ، وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئاً( {[1296]} ) ، وقدم يعقوب على جهة تقديم الأهم ، والعامل في { إذ } : { شهداء } ، و { إذ قال } بدل من { إذ } الأولى ، وعبر عن المعبود بما تجربة لهم ، ولم يقل من لئلا يطرق لهم الاهتداء( {[1297]} ) ، وإنما أراد أن يختبرهم ، وأيضاً فالمعبودات المتعارفة من دون الله تعالى جمادات كالأوثان والنار والشمس والحجارة فاستفهمهم عما يعبدون من هذه ، و { من بعدي } أي من بعد موتي ، وحكي أن يعقوب عليه السلام حين خير كما يخير الأنبياء اختار الموت ، وقال أمهلوني حتى أوصي بنيَّ وأهلي ، فجمعهم وقال لهم هذا فاهتدوا وقالوا : { نعبد إلهك } الآية ، فأروه ثبوتهم على الدين ومعرفتهم بالله تعالى ، ودخل إسماعيل في الآباء لأنه عمٌّ . ( {[1298]} )
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في العباس : «ردوا علي أبي ، إني أخاف أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود »( {[1299]} ) .
وقال عنه في موطن آخر : «هذا بقية آبائي »( {[1300]} ) ، ومنه قوله عليه السلام : «أنا ابن الذبيحين »( {[1301]} ) على القول الشهير في إن إسحاق هو الذبيح( {[1302]} ) .
وقرأ الحسن وابن يعمر والجحدري وأبو رجاء «وإله أبيك » ، واختلف بعد فقيل هو اسم مفرد أرادوا به إبراهيم وحده ، وقال بعضهم : هو جمع سلامة ، وحكى سيبويه أب وأبون وأبين . قال الشاعر( {[1303]} ) : [ زياد بن واصل السلمي ] : [ المتقارب ] :
فلمّا تبيَّنَّ أصواتنا . . . بكينَ وَفَدَّيْنَنَا بالأبينا
وقال ابن زيد : يقال قدم إسماعيل لأنه أسن من إسحاق و { إلهاً } بدل من { إلهك }( {[1304]} ) ، وكرره لفائدة الصفة بالوحدانية( {[1305]} ) ، وقيل { إلهاً } حال ، وهذا قول حسن ، لأن الغرض إثبات حال الوحدانية ، { نحن له مسلمون } ابتداء وخبر ، أي كذلك كنا نحن ونكون ، ويحتمل أن يكون في موضع الحال والعامل { نعبد } ، والتأويل الأول أمدح( {[1306]} ) .