البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (133)

الحضور : الشهود ، تقول منه : حضر بفتح العين ، وفي المضارع : يحضر بضمهما ، ويقال : حضر بكسر العين ، وقياس المضارع أن يفتح فيه فيقال : يحضر ، لكن العرب استغنت فيه بمضارع فعل المفتوح العين فقالت : حضر يحضر بالضم ، وهي ألفاظ شذت فيها العرب ، فجاء مضارع فعل المكسور العين على يفعل بضمها ، قالوا : نعم ينعم ، وفضل يفضل ، وحضر يحضر ، ومت تموت ، ودمت تدوم ، وكل هذه جاء فيها فعل بفتح العين ، فلذلك استغنى بمضارعه عن مضارع فعل ، كما استغنت فيه بيفعل بكسر العين عن يفعل بفتحها .

قالوا : ضللت بكسر العين ، تضل بالكسر ، لأنه يجوز فيه ضللت بفتح العين .

إسحاق : اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة الشخصية ، وإسحاق : مصدر أسحق ، ولو سميت به لكان مصروفاً ، وقالوا في الجمع : أساحقة وأساحيق ، وفي جمع يعقوب : يعاقبه ويعاقيب ، وفي جمع إسرائيل : أسارلة .

وجوز الكوفيون في إبراهيم وإسماعيل : براهمة وسماعلة ، والهاء بدل من الياء كما في زنادقة زناديق .

وقال أبو العباس : هذا الجمع خطأ ، لأن الهمزة ليست زائدة ، والجمع : أباره وأسامع ، ويجوز : أباريه وأساميع ، والوجه أن يجمع هذه جمع السلامة فيقال : إبراهيمون ، وإسماعيلون ، وإسحاقون ، ويعقوبون .

وحكى الكوفيون أيضاً : براهم ، وسماعل ، وأساحق ، ويعاقب ، بغير ياء ولا هاء .

وقال الخليل وسيبويه : براهيم ، وسماعيل .

وردّ أبو العباس على من أسقط الهمزة ، لأن هذا ليس موضع زيادتها .

وأجاز ثعلب : براه ، كما يقال في التصغير : بريه .

وقال أبو جعفر : الصفار : أما إسرائيل ، فلا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوله ، وإنما يقال : أساريل .

وحكى الكوفيون : أسارلة وأسارل . انتهى .

وقد تقدّم لنا الكلام في شيء من نحو جمع هذه الأشياء ، واستوفي النقل هنا .

{ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت } : نزلت في اليهود .

قالوا : ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية ؟ قال الكلبي : لما دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيرين ، فجمع بنيه وخاف عليهم ذلك ، فقال لهم : ما تعبدون من بعدي ؟ فأنزل الله هذه الآية إعلاماً لنبيه بما وصى به يعقوب ، وتكذيباً لليهود .

وأم هنا منقطعة ، تتضمن معنى بل وهمزة الاستفهام الدالة على الإنكار ، والتقدير : بل أكنتم شهداء ؟ فمعنى الإضراب : الانتقال من شيء إلى شيء ، لا أن ذلك إبطال لما قبله .

ومعنى الاستفهام هنا : التقريع والتوبيخ ، وهو في معنى النفي ، أي ما كنتم شهداء ، فكيف تنسبون إليه ما لا تعلمون ؟ ولا شهدتموه أنتم ولا أسلافكم .

وقيل : أم هنا بمعنى : بل ، والمعنى بل كنتم ، أي كان أسلافكم ، أو تنزلهم منزلة أسلافهم ، إذ كان أسلافهم قد نقلوا ذلك إليهم ، وفي إثبات ذلك إنكار عليهم ما نسبوه إلى يعقوب من اليهودية .

والخطاب في كنتم لمن كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود والنصارى ورؤسائهم .

وقال ابن عطية : قال لهم على جهة التقرير والتوبيخ أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى ، فتدّعون عن علم ، أي لم تشهدوا ، بل أنتم تفترون .

وأم تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية .

انتهى ما ذكره .

ولم أقف لأحد من النحويين على أن أم يستفهم بها في صدر الكلام .

وأين ذلك ؟ وإذا صح النقل فلا مدفع فيه ولا مطعن .

وحكى الطبري أن أم يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره ، وهذا منه .

ومنه : { أم يقولون افتراه } .

انتهى ، وهذا أيضاً قول غريب .

وتلخص أن أم هنا فيها ثلاثة أقوال : ( المشهور ) أنها هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة .

( الثاني ) : أنها للإضراب فقط ، بمعنى بل .

( الثالث ) : بمعنى همزة الاستفهام فقط .

وقال الزمخشري : الخطاب للمؤمنين بمعنى : ما شاهدتم ذلك ، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي .

وقيل : الخطاب لليهود ، لأنهم كانوا يقولون : ما مات نبي إلا على اليهودية ، إلا أنهم لو شهدوه ، ولو سمعوا ما قاله لبنيه ، وما قالوه ، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام ، ولما ادعوا عليه اليهودية .

فالآية منافية لقولهم ، فكيف يقال لهم : { أم كنتم شهداء } ؟ ولكن الوجه أن تكون أم متصلة ، على أن يقدر قبلها محذوف ، كأنه قيل : أتدعون على الأنبياء اليهودية ؟ { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت } ؟ يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له ، إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام ، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء ؟ انتهى كلامه .

وملخصه : أنه جعل أم متصلة ، وأنه حذف قبلها ما يعادلها ، ولا نعلم أحداً أجاز حذف هذه الجملة ، ولا يحفظ ذلك ، لا في شعر ولا غيره ، فلا يجوز : أم زيد ؟ وأنت تريد : أقام عمرو أم زيد ؟ ولا أم قام خالد ؟ وأنت تريد : أخرج زيد ؟ أم قام خالد ؟ والسبب في أنه لا يجوز الحذف .

إن الكلام في معنى : أي الأمرين وقع ؟ فهي في الحقيقة جملة واحدة .

وإما يحذف المعطوف عليه ويبقى المعطوف مع الواو والفاء ، إذا دل على ذلك دليل نحو قولك : بلى وعمراً ، جواباً لمن .

قال : ألم تضرب زيداً ؟ ونحو قوله تعالى : { أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت } أي فضرب فانفجرت .

وندر حذف المعطوف عليه مع أو ، نحو قوله :

فهل لك أو من والد لك قبلنا***

أراد : فهل لك من أخ أو من والد ؟ ومع حتى على نظر فيه في قوله :

فيا عجباً حتى كليب تسبني***

أي : يسبني الناس حتى كليب ، لكن الذي سمع من كلام العرب حذف أم المتصلة مع المعطوف ، قال :

دعاني إليها القلب إني لأمرها *** سميع فما أدرى أرشد طلابها

يريد : أم غير رشد ، فحذف لدلالة الكلام عليه ، وإنما جاز ذلك لأن المستفهم عن الإثبات يتضمن نقيضه .

فالمعنى : أقام زيد أم لم يقم ، ولذلك صلح الجواب أن يكون بنعم وبلا ، فلذلك جاز ذلك في البيت في قوله : أرشد طلابها ، أي أم غير رشد .

ويجوز حذف الثواني المقابلات إذ دل عليها المعنى .

ألا ترى إلى قوله : { تقيكم الحر } كيف حذف والبرد ؟ إذ حضر العامل في إذ شهداء ، وذلك على جهة الظرف ، لا على جهة المفعول ، كأنه قيل : حاضري كلامه في وقت حضور الموت ، وكنى بالموت عن مقدّماته لأنه إذا حضر الموت نفسه لا يقول المحتضر شيئاً ، ومنه : { ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت } أي ويأتيه دواعيه وأسبابه ، وقال الشاعر :

وقل لهم بادروا العذر والتمسوا *** قولاً يبرئكم إني أنا الموت

وفي قوله : حضر ، كناية غريبة ، إنه غائب لا بد أن يقدم ، ولذلك يقال في الدعاء : واجعل الموت خير غائب ننتظره .

وقرئ : حضر بكسر الضاد ، وقد ذكرنا أن ذلك لغة ، وأن مضارعها بضم الضاد شاذ ، وقدم المفعول هنا على الفاعل للاعتناء .

{ إذ قال لنبيه } ، إذ : بدل من إذ في قوله : إذ حضر ، فالعامل فيه إما شهداء العاملة في إذ الأولى على قول من زعم أن العامل في البدل العامل في المبدل منه ، وإما شهداء مكررة على قول من زعم أن البدل على تكرار العامل .

وزعم القفال أن إذا وقت للحضور ، فالعامل فيه حضر ، وهو يؤول إلى اتحاد الظرفين ، وإن اختلف عاملهما .

{ ما تعبدون من بعدي } ما : استفهام عما لا يعقل ، وهو اسم تام منصوب بالفعل بعده .

فعلى قول من زعم أن ما مبهمة في كل شيء ، يكون هنا يقع على من يعقل وما لا يعقل ، لأنه قد عبد بنو آدم والملائكة والشمس والقمر وبعض النجوم والأوثان المنحوتة ، وأما من يذهب إلى تخصيص ما بغير العاقل ، فقيل : هو سؤال عن صفة المعبود ، لأن ما يسأل بها عن الصفات تقول : ما زيد ، أفقيه أم شاعر ؟ وقيل : سأل بما لأن المعبودات المتعارفة في ذلك الوقت كانت جمادات ، كالأوثان والنار والشمس والحجارة ، فاستفهم بما التي يستفهم بها عما لا يعقل .

وفهم عنه بنوه فأجابوه : بأنا لا نعبد شيئاً من هؤلاء .

وقيل : استفهم بما عن المعبود تجربة لهم ، ولم يقل من لئلا يطرّق لهم الاهتداء ، وإنما أراد أن يختبرهم وينظر ثبوتهم على ما هم عليه .

وظاهر الكلام أنه استفهم عن الذي يعبدون ، أي العبادة المشروعة ؟ وقال القفال : دعاهم إلى أن لا يتحرّوا في أعمالهم غير وجه الله تعالى ، ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام ، وإنما خاف عليهم أن تشغلهم دنياهم .

وفي ذلك دليل على أن شفقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على أولادهم كانت في باب الدين ، وهمتهم مصروفة إليهم .

من بعدي : يريد من بعد موتي ، وحكى أن يعقوب عليه السلام حين خير ، كما يخير الأنبياء ، اختار الموت وقال : أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي ، فجمعهم وقال لهم هذا القول .

{ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } : هذه قراءة الجمهور .

وقرأ أبي : وإله إبراهيم ، بإسقاط آبائك .

وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وابن يعمر ، والجحدري ، وأبو رجاء : وإله أبيك .

فأما على قراءة الجمهور ، فإبراهيم وما بعده بدل من آبائك ، أو عطف بيان .

وإذا كان بدلاً ، فهو من البدل التفصيلي ، ولو قرئ فيه بالقطع ، لكان ذلك جائزاً .

وأجاز المهدوي أن يكون إبراهيم وما بعده منصوباً على إضمار ، أعني : وفيه دلالة على أن العم يطلق عليه أب .

وقد جاء في العباس : هذا بقية آبائي ، وردّوا عليّ أبي ، وأنا ابن الذبيحين ، على القول الشهير : أن الذبيح هو إسحاق ، وفيه دلالة على أن الجدّ يسمى أباً لقوله : { وإله آبائك إبراهيم } ، وإبراهيم جدّ ليعقوب .

وقد استدل ابن عباس بذلك وبقوله : { واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب } على توريث الجدّ دون الإخوة ، وإنزاله منزلة الأب في الميراث ، عند فقد الأب ، وأن لا يختلف حكمه وحكم الأب في الميراث ، إذا لم يكن أب ، وهو مذهب الصديق وجماعة من الصحابة ، رضوان الله عليهم أجمعين ، وهو قول أبي حنيفة .

وقال زيد بن ثابت : هو بمنزلة الإخوة ، ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث ، فيعطى الثلث ، ولم ينقص منه شيئاً ، وبه قال مالك وأبو يوسف والشافعي .

وقال علي : هو بمنزلة أحد الإخوة ، ما لم تنقصه المقاسمة من السدس ، فيعطى السدس ، ولم ينقص منه شيئاً ، وبه قال ابن أبي ليلى ، وحجج هذه الأقوال في كتب الفقه .

وأما قراءة أبيّ فظاهرة ، وأما على قراءة ابن عباس ، ومن ذكر معه ، فالظاهر أن لفظ أبيك أريد به الإفراد ويكون إبراهيم بدلاً منه ، أو عطف بيان .

وقيل : هو جمع سقطت منه النون للإضافة ، فقد جمع أب على أبين نصباً وجراً ، وأبون رفعاً ، حكى ذلك سيبويه ، وقال الشاعر :

فلما تبين أصواتنا***

بكين وفدّيننا بالأبينا

وعلى هذا الوجه يكون إعراب إبراهيم مثل إعرابه حين كان جمع تكسير .

وفي إجابتهم له بإظهار الفعل تأكيد لما أجابوه به ، إذ كان يجوز أن يقال : قالوا إلهك ، فتصريحهم بالفعل تأكيد في الجواب أنه مطابق للسؤال ، أعني في العامل الملفوظ به في السؤال .

وإضافة الإله إلى يعقوب فيه دليل على اتحاد معبود السائل والمجيب لفظاً .

وفي قوله : وإله آبائك دليل على اتحاد المعبود أيضاً من حيث اللفظ ، وإنما كرر لفظ وإله ، لأنه لا يصح العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة جاره ، إلا في الشعر ، أو على مذهب من يرى ذلك ، وهو عنده قليل .

فلو كان المعطوف عليه ظاهراً ، لكان حذف الجار ، إذا كان اسماً ، أولى من إثباته ، لما يوهم إثباته من المغايرة .

فإن حذفه يدل على الاتحاد .

وبدأ أولاً بإضافة الإله إلى يعقوب ، لأنه هو السائل ، وقدم إبراهيم ، لأنه الأصل ، وقدم إسماعيل على إسحاق ، لأنه أسنّ أو أفضل ، لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذريته ، وهو في عمود نسبه .

واقتصر على هؤلاء ، لأنهم كانوا خير الناس في أزمانهم ، ولم يعم ، لأن الناس كان لهم معبودون كثيرون دون الله .

{ إلهاً واحداً } : يجوز أن يكون بدلاً ، وهو بدل نكرة موصوفة من معرفة ، ويجوز أن يكون حالاً ، ويكون حالاً موطئة نحو : رأيتك رجلاً صالحاً .

فالمقصود إنما هو الوصف ، وجيء باسم الذات توطئة للوصف .

وجوّز الزمخشري أن ينتصب على الاختصاص ، أي يريد بإلهك إلهاً واحداً .

وقد نص النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً .

وفائدة هذه الحال ، أو البدل ، هو التنصيص على أن معبودهم واحد فرد ، إذ قد توهم إضافة الشيء إلى كثيرين تعداد ذلك المضاف ، فنهض بهذه الحال أو البدل على نفي ذلك الإيهام .

{ ونحن له مسلمون } : أي منقادون لما ذكر الجواب بالفعل الذي هو نعبد ، لأن العبادة متجددة دائماً .

ذكر هذه الجملة الإسمية المخبر عن المبتدأ فيها باسم الفاعل الدال على الثبوت ، لأن الانقياد لا ينفكون عنه دائماً ، وعنه تكون العبادة ، فيكون قوله : { ونحن له مسلمون } أحد جملتي الجواب .

فأجابوه بشيئين : أحدهما : الذي سأل عنه ، والثاني : مؤكد لما أجابوا به ، فيكون من باب الجواب المربي على السؤال .

وأجاز بعضهم أن تكون الجملة حالية من الضمير في نعبد ، والأول أبلغ ، وهو أن تكون الجملة معطوفة على قوله : { نعبد } ، فيكون أحد شقي الجواب .

وأجاز الزمخشري أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة ، أي : ومن حالنا أنا نحن له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون .

والذي ذكره النحويون أن جملة الاعتراض هي الجملة التي تفيد تقوية بين جزأي موصول وصلة ، نحو قوله :

ماذا ولا عتب في المقدور رمت *** إما تخطيك بالنجح أم خسر وتضليل

وقال :

ذاك الذي وأبيك يعرف مالكاً *** والحق يدفع ترهات الباطل

أو بين جزأي إسناد ، نحو قوله :

وقد أدركتني والحوادث جمة *** أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل

أو بين فعل شرط وجزائه ، أو بين قسم وجوابه ، أو بين منعوت ونعته ، أو ما أشبه ذلك مما بينهما تلازم مّا .

وهذه الجملة التي هي قوله : { ونحن له مسلمون } ليست من هذا الباب ، لأن قبلها كلاماً مستقلاً ، وبعدها كلام مستقل ، وهو قوله : { تلك أمّة قد خلت } .

لا يقال : إن بين المشار إليه وبين الإخبار عنه تلازم يصح به أن تكون الجملة معترضة ، لأن ما قبلها من كلام بني يعقوب ، حكاه الله عنهم ، وما بعدها من كلام الله تعالى ، أخبر عنهم بما أخبر تعالى .

والجملة الاعتراضية الواقعة بين متلازمين لا تكون إلا من الناطق بالمتلازمين ، يؤكد بها ويقوي ما تضمن كلامه .

فتبين بهذا كله أن قوله : { ونحن له مسلمون } ليس جملة اعتراضية .

وقال ابن عطية : { ونحن له مسلمون } ابتداء وخبر ، أي : كذلك كنا ونحن نكون .

ويحتمل أن يكون في موضع الحال .

والعامل نعبد والتأويل الأول أمدح .

انتهى كلامه .

ويظهر منه أنه جعل الجملة معطوفة على جملة محذوفة ، وهي قوله : كذلك كنا ، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار ، لأنه يصح عطفها على نعبد إلهك ، كما ذكرناه وقررناه قبل .

ومتى أمكن حمل الكلام على غير إضمار ، مع صحة المعنى ، كان أولى من حمله الإضمار .

وفي المنتخب ما ملخصه تمسك بهذه الآية المقلدة ، وقالوا : إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد ، ولم ينكره هو عليهم ، فدل على أن التقليد كاف ، واستدل بها التعليمية ، قالوا : لا طريق لمعرفة الله تعالى إلا بتعليم الرسول والإمام ، فإنهم لم يقولوا : نعبد الإله الذي دل عليه العقل ، قالوا : لا نعبد إلا الذي أنت تعبده وآباؤك تعبده ، وهذا يدل على أن طريقة المعرفة التعلم .

وما ذهبوا إليه لا دليل في الآية عليه ، لأن الآية لم تتضمن إلا الإقرار بعبادة الإله .

والإقرار بالعبادة لله لا تدل على أن ذلك ناشىء عن تقليد ، ولا تعليم ، ولا أنه أيضاً ناشىء عن استدلال بالعقل ، فبطل تمسكهم بالآية .

وإنما لم تتعرض الآية للاستدلال العقلي ، لأنها لم تجيء في معرض ذلك ، لأنه إنما سألهم عما يعبدونه من بعد موته ، فأحالوه على معبوده ومعبود آبائه ، وهو الله تعالى ، وكان ذلك أخصر في القول من شرح صفاته تعالى من الوحدانية والعلم والقدرة وغير ذلك من صفاته ، وأقرب إلى سكون نفس يعقوب ، فكأنهم قالوا : لسنا نجري إلا على طريقتك .

وقد يقال : إن في قوله : { نعبد إلهك وإله آبائك } إشارة إلى الاستدلال العقلي على وجود الصانع ، لأنه قد تقدّم في أول السورة :

{ يا أيّها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } فمرادهم هنا بقولهم : { نعبد إلهك وإله آبائك } الإله الذي دل عليه وجود آبائك ، وهذا إشارة إلى الاستدلال .

/خ141