معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞وَمَن يُهَاجِرۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُرَٰغَمٗا كَثِيرٗا وَسَعَةٗۚ وَمَن يَخۡرُجۡ مِنۢ بَيۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدۡرِكۡهُ ٱلۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (100)

قوله تعالى : { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعةً } ، قال بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : { مراغماً } أي : متحولاً يتحول إليه ، وقال مجاهد : متزحزحاً عما يكره ، وقال أبو عبيدة : المراغم : المهاجر ، يقال : راغمت قومي وهاجرتهم ، وهو المضطرب والمذهب ، قيل : سميت المهاجرة مراغمة لأن من يهاجر يراغم قومه ، ( وسعة ) أي في الرزق ، وقيل سعة من الضلالة إلى الهدى ، وروي أنه لما نزلت هذه الآية سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير مريض يقال له جندع بن ضمرة ، فقال : والله ما أنا ممن استثنى الله عز وجل ، وإني لأجد حيلة ولي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها ، والله لا أبيت الليلة بمكة ، أخرجوني . فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به التنعيم ، فأدركه الموت ، فصفق بيمينه على شماله ثم قال : اللهم هذه لك ، وهذه لرسولك ، أبايعك على ما بايعك عليه رسولك ، فمات فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لو وافى المدينة لكان أتم وأوفى أجراً ، وضحك المشركون وقالوا : ما أدراك هذا ما طلب ، فأنزل الله : قوله تعالى : { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت } أي : قبل بلوغه إلى مهاجره .

قوله تعالى : { فقد وقع }أي : وجب .

قوله تعالى : { أجره على الله } ، بإيجابه على نفسه فضلاً منه .

قوله تعالى : { وكان الله غفوراً رحيماً } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَمَن يُهَاجِرۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُرَٰغَمٗا كَثِيرٗا وَسَعَةٗۚ وَمَن يَخۡرُجۡ مِنۢ بَيۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدۡرِكۡهُ ٱلۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (100)

ثم رغب - سبحانه - فى الهجرة من أجل أعلاء دينه بأسمى ألوان الترغيب فقال : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } .

وقوله : { مُرَاغَماً } اسم مكان أى يجد فى الأرض متحولا ومهاجرا .

قال القرطبى ما ملخصه : اختلف فى تأويل المراغم فقال مجاهد : المراغم : المتزحزح . وقال ابن عباس : المراغم : المتحول والمذهب . وقال ابن زيد : المراغم : المهاجر .

وهذه الأقوال متفقة المعانى وهو اسم الموضع الذى يراغم فيه . وهو مشتق من الرغام أى التراب ورغم أنف فلان أى لصق بالتراب . وراغمت فلانا هجرته وعاديته .

وهذا كله تفسير المعنى . فأما الخاص باللفظة هو أن المرغم موضع المراغمة كما ذكرناه وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده .

فكأن كفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة ، فلو هاجر منهم لأرغم أنوف قريش لحصوله فى منعة منهم ، فتلك المنعة هى موضع المراغمة .

والمعنى : ومن يهاجر تاركا دار إقامته من أجل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه ، يجد فى الأرض أماكن كثيرة يأمن فيها مكر أعدائه وظلمهم ، ويجد فيها من الخير والنعمة والسعة فى الرزق ما يكون سببا لرغم أنف أعدائه الذين فارقهم كراهة لصحبتهم القبيحة ، ومعاملتهم السيئة .

قال الفخر الرازى : وذلك لأن من فارق بلده وذهب إلى بلده أجنبية ، فإذا استقام أمره فى تلك البلدة الأجنبية ، ووصل ذلك الخبر إلى أهل بدلته خجلوا من سوء معاملتهم له ورغمت أنوفهم - أى أصابهم الذل - بسبب ذلك .

فكأنه قيل . يأيها الإِنسان إنك كنت تكره الهجرة عن وطنك خوفا من أن تقع فى المشقة والمحنة والسفر ، فلا تخف فإن الله - تعالى - سيعطيك من النعم الجليلة ، والمراتب العظيمة ، فى دار هجرتك ما يصير سببا لرغم أنوف أعدائك ، ويكون سببا لسعة عيشك .

وإنما قدم - سبحانه - ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش ؛ لأن ابتهاج الإِنسان الذى يهاجر عن أهله وبلده بسبب شدة ظلمهم له بدولته من حيث إنها تصير سببا لرغم أنوف الأعداء .

أشد من ابتهاجه بتلك الدولة من حيث إنها صارت سببا لسعة العيش عليه .

وقوله { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } تنويه عظيم بشأن الهجرة من أجل إعلاء كلمة الله ، حيث جعل - سبحانه - ثوابها حاصلا حتى ولو لم يصل المهاجر إلى مقصده .

أى : ومن يخرج من بيته تاركا أهله ووطنه ، فارا بيدنه إلى المكان الذى تعلو فيه كلمة الله وكلمة رسوله ، قاصدا بذلك نصرة الحق وأهله ، من يفعل ذلك { يُدْرِكْهُ الموت } وهو فى طريقه قبل أن يصل إلى مكان هجرته { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } أى : فقد ثبت ووجب له الأجر عند الله - تعالى - تفضلا منه - سبحانه - وكرما { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } فيغفر لهذا المهاجر ما فرط منه من تقصير ، ويرحمه برحمته الواسعة .

وقوله { ثُمَّ يُدْرِكْهُ } بالجزم عطفا على فعل الشرط وهو { وَمَن يَخْرُجْ } . وجوابه قوله : { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } .

قال الآلوسى : وقرئ { ثُمَّ يُدْرِكْهُ } بالرفع . خرج ابن جنى على أنه فعل مضارع مرفوع والموت فاعله . والجملة خبر لمبتدأ محذوف أى : ثم هو يدركه الموت .

وفى التعبير بقوله { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } بعث للطمأنينة فى قلوب المهاجرين ، وحفز لهم على الهجرة من أجل إعلاء كلمة الله ؛ لأنهم إذاوصلوا إلى دار هجرتهم فقد راغموا أنف أعدائهم ورزقهم الله بالخير من فضله ، وإن ماتوا قبل أن يصلوا أعطاهم - سبحانه ثواب المهاجرين كاملا ببركة حسن نياتهم ، وكافأهم على ذلك أجرا جزيلا لا يعلم مقداره إلا هو .

وقد وردت روايات فى سبب نزول هذه الآية الكريمة منها ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير أنها نزلت فى جندب بن ضمرة وكان قد بلغه وهو بمكة قوله - تعالى - : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ } . . الآية فقال لبنيه : أحملونى فإنى لست من المستضعفين ، وإنى لأهتدى إلى الطريق ، وإنى لا أبيت الليلة بمكة . فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة - وكان شيخا كبيرا ، فمات بالتنعيم - وهو موضع قرب مكة - ولما أدركه الموت أخذ يصفق يمينه على شماله ويقول : اللهم هذه لك . وهذه لرسولك صلى الله عليه وسلم أبايعك على ما بايع عليه رسلوك - ثم مات - ولما بلغ خبر موته الصحابة قالوا : ليته مات بالمدينة فنزلت الآية .

هذا ، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :

1- وجوب الهجرة من دار لا يستطيع المسلم فيها أن يؤدى شعائر دينه .

قال القرطبى : فى هذه الآيات دليل على هجران الأرض التى يعمل فيها بالمعاصى . وقال سعيد بن جبير : إذا عمل بالمعاصى فى أرض فاخرج منها . وتلا { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } . وقال مالك : هذه الآيات دالة على أنه ليس لأحد المقام فى أرض يسب فيها السلف ويعمل فيها بغير الحق .

وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه : قال الحافظ بن حجر فى " الفتح " : الهجرة الترك . والهجرة إلى الشئ الانتقال إليه عن غيره . وفى الشرع : ترك ما نهى الله عنه .

وقد وقعت فى الإِسلام على وجهين :

الأول : الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن . كما فى هجرتى الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة .

الثاني : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِيمان . وذلك بعد أن استقر النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين . وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالمدينة إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص وبقى عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقيا .

ثم قال الشيخ القاسمى : وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه الإِسماعيلى بلفظ : انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار . أى : ما دام فى الدنيا دار كفر ، فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشى أن يفتن فى دينه .

وروى الإِمام أحمد وأبو عن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة . ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " .

2- أن من خرج للهجرة فى سبيل الله ومات فى الطريق أعطاه الله - تعالى - أجر المهاجرين ببركة نيته الصادقة ، ويدل على ذلك ما جاء فى الصحيحين عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى . فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله . ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " .

وقال صاحب الكشاف : كل هجرة لغرض دينى - من طلب علم أو حج أو جهاد أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهدا فى الدنيا أو ابتغاء رزق طيب - فهى هجرة إلى الله ورسوله . وإن أدركه الموت فى طريقه فأجره واقع على الله .

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد وبخت الذين رضوا أن يقيموا مع الكافرين فى ذلة وهوان مع قدرتهم على الهجرة ، وتوعدتهم على ضعف إيمانهم ، بسوء المصير ، وحرضت المؤمنين فى كل زمان ومكان على الهجرة فى سبيل الله بأسمى ألوان التحريض وأشدها ، ووعدت المهاجر من أجل إعلاء كلمة الحق بالخير الوفير ، والأجر الجزيل . { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم }

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَمَن يُهَاجِرۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُرَٰغَمٗا كَثِيرٗا وَسَعَةٗۚ وَمَن يَخۡرُجۡ مِنۢ بَيۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدۡرِكۡهُ ٱلۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (100)

والمراغم : المتحول والمذهب ، كذا قال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم ، ومنه قول النابغة الجعدي : [ المتقارب ]

كَطود يلاذ بأَرْكَانِهِ *** عَزِيزٌ المراغِمِ وَالْمَذْهَبِ{[4234]}

وقول الآخر : [ المتقارب ]

إلى بَلِدٍ غَيْرِ داني الْمَحَلّ *** بَعِيدِ المرَاغمِ والْمُضْطَرَبْ{[4235]}

وقال مجاهد : «المراغم » المتزحزح عما يكره ، وقال ابن زيد : «المراغم » المهاجر ، وقال السدي : «المراغم » المبتغى للمعيشة .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وهذا كله تفسير بالمعنى ، فأما الخاص باللفظة ، فإن «المراغم » موضع المراغمة ، وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده ، فكفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة ، فلو هاجر منهم مهاجر في أرض الله لأرغم أنوف قريش بحصوله في منعة منهم ، فتلك المنعة هي موضع المراغمة . وكذلك الطود الذي ذكر النابغة ، من صعد فيه أمام طالب له وتوقل{[4236]} فقد أرغم أنف ذلك الطالب .

وقرأ نبيح والجراح والحسن بن عمران «مَرْغماً » بفتح الميم وسكون الراء دون ألف . قال أبو الفتح : هذا إنما هو على حذف الزوائد من راغم ، والجماعة على «مراغم » ، وقال ابن عباس والربيع والضحاك وغيرهم : { السعة } هنا هي السعة في الرزق ، وقال قتادة : المعنى سعة من الضلالة إلى الهدى ومن العيلة إلى الغنى ، وقال مالك : السعة سعة البلاد .

قال القاضي رحمه الله : والمشبه لفصاحة العرب أن يريد سعة الأرض وكثرة المعاقل ، وبذلك تكون «السعة » في الرزق واتساع الصدر لهمومه وفكره وغير ذلك من وجوه الفرح ، ونحو هذا المعنى قول الشاعر [ حطان بن المعلّى ] .

لَكَانَ لي مَضْطَرَبٌ وَاسِعٌ *** في الأَرْضِ ذَاتِ الطُّولِ والْعَرْضِ{[4237]}

ومنه قول الآخر : [ الوافر ]

وَكُنْتُ إذَا خَليلٌ رامَ قَطْعي وَجَدْتُ وَرَاي مُنْفَسَحاً عَرِيضاً{[4238]}

وهذا المعنى ظاهر من قوله تعالى : { ألم تكن أرض الله واسعة } وقال مالك بن أنس رضي الله عنه : الآية تعطي أن كل مسلم ينبغي أن يخرج من البلاد التي تغير فيها السنن ويعمل فيها بغير الحق ، وقوله تعالى { ومن يخرج من بيته } الآية : حكم باق في الجهاد والمشي إلى الصلاة والحج ونحوه ، أما أنه لا يقال : إن بنفس خروجه ونيته حصل في مرتبة الذي قضى ذلك الفرض أو العبادة في الجملة ، ولكن يقال : وقع له بذلك أجر عظيم ، وروي : أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من كنانة ، وقيل : من خزاعة من بني ليث ، وقيل : من جندع{[4239]} ، لما سمع قول الله عز وجل { الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً } قال : إني لذو مال وعبيد - وكان مريضاً - فقال : أخرجوني إلى المدينة ، فأخرج في سرير فأدركه الموت بالتنعيم{[4240]} ، فنزلت الآية بسببه ، واختلف في اسمه ، فحكى الطبري عن ابن جبير : أنه ضمرة بن العيص ، أو العيص بن ضمرة بن زنباع ، وحكي عن السدي : أنه ضمرة بن جندب ، وحكي عن عكرمة : أنه جندب بن ضمرة الجندعي ، وحكي عن ابن جبير أيضاً : أنه ضمرة بن بغيض الذي من بني ليث ، وحكى أبو عمر بن عبد البر : أنه ضمرة بن العيص ، وحكى المهدوي : أنه ضمرة بن نعيم ، وقيل : ضمرة بن خزاعة ،

وقرأت الجماعة «ثم يدركْه الموت » بالجزم عطفاً على { يخرج } وقرأ طلحة بن سليمان وإبراهيم النخعي فيما ذكر أبو عمرو «ثم يدركُه » برفع الكاف - قال أبو الفتح : هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : ثم هو يدركه الموت فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم بفاعله ، فهما إذن جملة ، فكأنه عطف جملة على جملة ، وعلى هذا حمل يونس بن جبيب قول الأعشى : [ البسيط ]

إنْ تَرْكَبُوا فَرُكُوبُ الْخَيْلِ عَادَتُنا *** أو تَنْزِلُونَ فإنّا مَعْشَرٌ نُزُلُ{[4241]}

المراد وأنتم تنزلون وعليه قول الآخر [ رويشد بن كثير الطائي ] : [ البسيط ]

إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأْتيني بِقيتُكُمْ *** فَمَا عَلَيّ بِذَنْبٍ عِنْدكُمْ فَوتُ{[4242]}

المعنى : ثم أنتم تأتيني . وهذا أوجه من أن يحمله على قول الآخر : [ الوافر ]

ألم يأتيكَ وألأنباءُ تنمى *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4243]}

وقرأ الحسن بن أبي الحسن وقتادة ونبيح والجراح «ثم يدركَه » بنصب الكاف وذلك على إضمار «أن » كقول الأعشى : [ الطويل ]

لَنَا هضبةٌ لاَ يَنْزِلُ الذُّلُّ وَسْطَها *** وَيَأْوِي إلْيها الْمُسْتَجيرُ فَيُعْصَمَا{[4244]}

أراد : فأن يعصم - قال أبو الفتح : وهذا ليس بالسهل وإنما بابه اشعر لا القرآن ، وأنشد ابن زيد : [ الوافر ]

سَأَتْرُكُ مَنْزِلي لِبَني تَمِيمٍ *** وأَلحقُ بالحِجَازِ فأَسْترِيحا

والآية أقوى من هذا لتقدم الشرط قبل المعطوف{[4245]} .

قال القاضي أبو محمد : ومن هذه الآية رأى بعض العلماء أن من مات من المسلمين وقد خرج غازياً فله سهمه من الغنيمة ، قاسوا ذلك على «الأجر » ، وقد تقدم معنى الهجرة فيما سلف ووقع عبارة عن الثبوت وقوة اللزوم وكذلك هي - وجب - لأن الوقوع والوجوب نزول في الأجرام بقوة . فشبه لازم المعاني بذلك وباقي الآية بيّن .


[4234]:- رواه في اللسان: "عزيز المراغم والمهرب". والطود: الجبل العظيم الذاهب صعودا في الجو. يُلاذ بأركانه: يلجأ إليه، ويستتر بأركانه وجوانبه.
[4235]:- أنشده أبو إسحاق دليلا على أن المهاجر والمراغم بمعنى واحد ولم ينسبه- (ذكر ذلك صاحب اللسان).
[4236]:- التوقل في الجبل هو: الصعود فيه.
[4237]:- البيت لحطان بن المعلى، وهو من شعراء الحماسة. ورد في قطعة مطلعها: أنزلني الدهر على حكمه من شامخ عال إلى خفض
[4238]:- ذكره في القرطبي ولم ينسبه، ومعنى "رام قطعي": أراد قطع صلته بي.
[4239]:- هو جندع بن ضمرة من بني ليث.
[4240]:- التنعيم: موضع قرب مكة في الحل يعرف بمسجد عائشة، ومنه يُحرم المعتمر بالعمرة.
[4241]:- هذا آخر يبت في معلقته المشهورة: "ودع هريرة إن الركب مرتحل"، لكنه روي في الديوان: قالوا الركوب فقلنا تلك عادتنا ................إلخ.
[4242]:- البيت قاله رويشد بن كثير الطائي من قطعة مطلعها: *يأيها الراكب المزجي مطيته*. وقد رواه في "البحر المحيط": إن تذنبوا ثم يأتيني نعيقكم .............إلخ.
[4243]:- تمامه: ...................... بما لاقت لبون بني زياد؟ وهناك تخريج آخر لرفع الكاف في: [ثم يدركه] غير ما تقدم وهو أن ضمة الكاف منقولة من الهاء، كأنه أراد أن يقف عليها ثم نقل حركة الهاء إلى الكاف، كقوله: "من عرى سلبي لم أضربه"، يريد: لم أضربه، ذكره في "البحر المحيط".
[4244]:- لم نجد هذا البيت في ديوان الأعشى، ونسبه بعض المحدثين. "التوضيح والتكميل لشرح ابن عقيل" إلى لبيد بن طرفه، وهو أيضا غير موجود في ديوانه المطبوع.
[4245]:- يعني أن الفعل وقع بين الشرط وجوابه، ولكن أبا حيان يقول في "البحر المحيط" بعد كلام "أبو الفتح": "ونقول: أجرى (ثم) مجرى (الواو والفاء)، فكما جاز نصب الفعل بإضمار (أن) بعدهما بين الشرط وجوابه، كذلك جاز في (ثم) إجراء لها مجراهما، وهذا مذهب الكوفيين، واستدلوا بهذه القراءة، وقال الشاعر في (الفاء): ومن لا يقدم رجله مطمئنة فيثبتها في مستوى القاع يزلق. وقال آخر في (الواو) ومن يقترب منا ويخضع نؤوه ولا يخشى ظلما ما أقام ولا هضما.