قوله تعالى : { ترجي } أي : تؤخر ، { من تشاء منهن وتؤوي } أي : تضم ، { إليك من تشاء } اختلف المفسرون في معنى الآية : فأشهر الأقاويل أنه في القسم بينهن ، وذلك أن التسوية بينهن في القسم كان واجبة عليه ، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن . قال أبو رزين ، وابن زيد : نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم وطلب بعضهن زيادة النفقة ، فهجرهن النبي صلى الله عليه وسلم شهراً حتى نزلت آية التخيير ، فأمره الله عز وجل أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة ، وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا ويمسك من اختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، على أنهن أمهات المؤمنين ولا ينكحن أبداً ، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ، ويرجي من يشاء ، فيرضين به قسم لهن أو لم يقسم ، أو قسم لبعضهن دون بعض ، أو فضل بعضهن في النفقة والقسمة ، فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء ، وكان ذلك من خصائصه فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط . واختلفوا في أنه هل أخرج أحداً منهن عن القسم ؟ فقال بعضهم : لم يخرج أحداً ، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما جعله الله له من ذلك يسوي بينهن في القسم إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم ، وجعلت يومها لعائشة . وقيل : أخرج بعضهن . روى جرير عن منصور عن أبي رزين قال : لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقن ، فقلن : يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا ، فنزلت هذه الآية ، فأرجى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهن وآوى إليه بعضهن ، وكان ممن آوى إليه : عائشة ، وحفصة ، وزينب ، وأم سلمة ، فكان يقسم بينهن سواء ، وأرجى منهن خمساً : أم حبيبة ، وميمونة ، وسودة ، وصفية وجويرية ، فكان يقسم لهن ما شاء . وقال مجاهد : ترجي من تشاء منهن يعني : تعزل من تشاء منهن بغير طلاق ، وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد . وقال ابن عباس : تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء . وقال الحسن : تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من نساء أمتك . وقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره خطبتها حتى يتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمد بن سلام ، أنبأنا ابن فضيل ، أنبأنا هشام عن أبيه قال : كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة : أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل ؟ فلما نزلت : { ترجي من تشاء منهن } قلت : يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك . قوله عز وجل : { ومن ابتغيت ممن عزلت } أي : طلبت وأردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن عن القسم ، { فلا جناح عليك } لا إثم عليك ، فأباح الله له ترك القسم لهن حتى إنه ليؤخر من يشاء منهن في نوبتها ويطأ من يشاء منهن في غير نوبتها ، ويرد إلى فراشه من عزلها تفضيلاً له على سائر الرجال ، { ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن } أي : التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن وأطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله عز وجل ، { ويرضين بما آتيتهن } أعطيتهن ، { كلهن } من تقرير وإرجاء وعزل وإيواء ، { والله يعلم ما في قلوبكم } من أمر النساء والميل إلى بعضهن ، { وكان الله عليماً حليماً } .
وقوله - عز وجل - { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } شروع فى بيان جانب آخر من التوسعة التى وسعها - سبحانه - لنبيه صلى الله عليه وسلم فى معاشرته لنسائه ، بعد بيان ما أحله له من النساء .
وقوله : { تُرْجِي } من الإِرجاء بمعنى التأخير والتنحية ، وقرئ مهموزا وغير مهموز . تقول : أرجيت الأمر وأرجأته ، إذا أخرته ، ونحيته جانبا حتى يحين موعده المناسب .
وقوله : { وتؤوي } من الإِيواء بمعنى الضمر والتقريب ، ومنه قوله - تعالى - : { وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ . . } أى : ضمة إليه وقربه منه .
والضمير فى قوله { مِنْهُنَّ } يعود إلى زوجاته صلى الله عليه وسلم اللائى كن فى عصمته .
قال القرطبى ما ملخصه : واختلف العلماء فى تأويل هذه الآية ، وأصح ما قيل فيها : التوسعة على النبى صلى الله عليه وسلم فى ترك القَسْم ، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته .
وهذا القول هو الذى يناسب ما مضى ، وهو الذى ثبت معناه فى الصحيح ، عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : كنت أغار على اللائى وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول : أو تهب المرأة نفسها لرجل ؟ فلما أنزل الله - تعالى - : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ . . . } .
قالت : قلت : والله ما رأى ربك إلا يسارع فى هواك .
قال ابن العربى : هذا الذى ثبت فى الصحيح هو الذى ينبغى أن يعول عليه . والمعنى المراد : هو أن النبى صلى الله عليه وسلم كان مخيرا فى أزواجه ، إن شاء أن يقسم قسم ، وإن شاء أن يترك القسم ترك . لكنه كان يقسم من جهة نفسه ، تطييبا لنفوس أزواجه .
وقيل كان القسم واجبا عليه ثم نسخ الوجوب بهذه الآية .
وقيل : الآية فى الطلاق . أى : تطلق من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء .
وقيل : المراد بالآية : الواهبات أنفسهن له صلى الله عليه وسلم .
ثم قال القرطبى : وعلى كل معنى ، فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإِباحة ، وما اخترناه أصح والله أعلم .
أى : لقد وسعنا عليك - أيها الرسول الكريم - فى معاشرة نسائك ، فأبحنا لك أن تؤخر المبيت عند من شئت منهن ، وأن تضم إليك من شئت منهن ، بدون التقيد بوجوب القسم بينهن ، كما هو الشأن بالنسبة لأتباعك حيث أوجبنا عليهم العدل بين الأزواج فى البيوتة وما يشبهها .
ومع هذا التكريم من الله - تعالى - لنبيه ، إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم بينهن إلى أن لحق بربه ؟ عدا السيدة سودة ، فإنها قد وهبت ليلتها لعائشة . .
أخرج البخارى عن عائشة رضى الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم كان يستأذن فى يوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية ترجى من تشاء منهن . .
فقيل : لها ما كنت تقولين ؟ فقالت : كنت أقول : إن كان ذاك إليَّ فإنى لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحدا .
وقوله - تعالى - : { وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } . زيادة فى التوسعة عليه صلى الله عليه وسلم وفى ترك الأمر لإرادته واختياره .
أى : أبحنا لك - أيها الرسول الكريم - أن تقسم بين نسائك ، وأن تترك القسمة بينهن ، وأبحنا لك - أيضا - أن تعود إلى طلب من اجتنبت مضاجعتها إذ لا حرج عليك فى كل ذلك . بعد أن فوضنا الأمر إلى مشيئتك واختيارك .
فالابتغاء بمعنى الطلب ، وعزلت اجتنبت واعتزلت وابتعدت ، و { مَّنْ } شرطية ، وجوابها : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } أى : فلا حرج ولا إثم عليك فى عدم القسمة بين أزواجك ، وفى طلب إيواء من سبق لك أن اجتنبتها .
قال الشوكانى : والحاصل أن الله - سبحانه - فوض الأمر إلى رسوله صلى الله عليه وسلم كى يصنع مع زوجاته ما شاء ، من تقديم وتأخير ، وعزل وإمساك ، وضم من أرجأ ، وإرجاء من ضم إليه ، وما شاء فى أمرهن فعل توسعة عليه ، ونفيا للحرج عنه .
وإسم الإشارة فى قوله : { ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ . . . } يعود إلى ما تضمنه الكلام السابق من تفويض أمر الإِرجاء والإِيواء إلى النبى صلى الله عليه وسلم .
وأدنى بمعنى أقرب . { تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ } كناية عن تقبل ما يفعله معهن برضا وارتياح نفس . يقال قرت عين فلان ، إذا رأت ما ترتاح لرؤيته ، مأخوذ من ا لقرار بمعنى الاستقرار والسكون . .
وقوله : { وَلاَ يَحْزَنَّ } معطوف على { أَن تَقَرَّ } وقوله { وَيَرْضَيْنَ } معطوف عليه - أيضا - .
والمعنى ، ذلك شرعناه لكل من تفويض الأمر اليك فى شأن أزاجك ، أقرب إلى رضى نفوسهن لما تصنعه معهن ، واقرب إلى عدم حزنهن وإلى قبولهن لما تفعله معهن ، لأنهن يعلمن أن ما تفعله معهن إنما هو من الله - تعالى - وليس باجتهاد منك ، ومتى علمن ذلك طابت نفوسهن سواء ويت بينهن فى القسم والبيتوتة والمجامعة . . أم لم تسو .
قال القرطبى : قال قتادة وغيره : أى : ذلك التخيير ذلك خيرناك فى حصبتهن أدنى إلى رضاهن ، إذ كان من عندنا - لا من عندك - ، لأنهن إذا علمت أن الفعل من الله قرت أعينهن بذلك ورضين . .
وكان - عليه الصلاة والسلام - مع هذا يشدد على نفسه فى رعاية التسوية بينهن ، تطييبا لقلوبهن ويقول : " اللهم هذه قدرتى فيما أملك ، فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك " .
وقوله - سبحانه - { والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ } خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم ولأزواجه ، ويندرج فيه جميع المؤمنين والمؤمنات وجمع بجمع الذكور للتغليب .
أى : والله - تعالى - يعلم ما فى قلوبكم من حب وبغض ، ومن ميل إلى شئ ، ومن عدم الميل إلى شئ آخر .
قال صاحب الكشاف : وفى هذه الجملة وعيد لمن لم ترض منهن بما دبر الله - تعالى - من ذلك ، وبعث على تواطؤ قلوبهن والتصافى بينهن ، والتوافق على طلب رضا رسولا لله صلى الله عليه وسلم وما فيه طيب نفسه .
{ وَكَانَ الله } - تعالى - { عَلِيماً } بكل ما تظهره القلوب وما تسره { حَلِيماً } حيث لم يعاجل عباده بالعقوبة قبل الإرشاد والتعليم .
{ ترجي من تشاء منهن } تؤخرها وتترك مضاجعتها . { وتؤوي إليك من تشاء } وتضم إليك من تشاء وتضاجعها ، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء . وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص " ترجي " بالياء والمعنى واحد . { ومن ابتغيت } طلبت . { ممن عزلت } طلقت بالرجعة . { فلا جناح عليك } في شيء من ذلك . { ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن } ذلك التفويض إلى مشيئتك اقرب إلى قرة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعا ، لأن حكم كلهن فيه سواء ، ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك وإن رجحت بعضهن علمن انه بحكم الله تعالى فتطمئن به نفوسهم ، وقرئ " تقر " بضم التاء و " أعينهن " بالنصب و " تقر " بالبناء للمفعول و " كلهن " تأكيد نون { يرضين } ، وقرئ بالنصب تأكيدا لهن . { والله يعلم ما في قلوبكم } فاجتهدوا في إحسانه . { وكان الله عليما } بذات الصدور . { حليما } لا يعاجل بالعقوبة فهو حقيق بأن يتقى .
{ تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوى إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ }
استئناف بياني ناشىء عن قوله : { إنا أحللنا لك أزواجك } إلى قوله : { لكيلا يكون عليك حرج } [ الأحزاب : 50 ] فإنه يثير في النفس تطلباً لبيان مدى هذا التحليل . والجملةُ خبر مستعمل في إنشاء تحليل الإِرجاء والإِيواء لمن يشاء النبي صلى الله عليه وسلم
والإِرجاء حقيقته : التأخير إلى وقت مستقبل . يقال : أرجأت الأمر وأرجيْته مهموزاً ومخففاً ، إذا أخرته .
وفعله ينصرف إلى الأحوال لا الذوات ، فإذا عدي فعله إلى اسم ذات تعين انصرافه إلى وصف من الأوصاف المناسبة والتي تراد منها ، فإذا قلت : أرجأت غريمي ، كان المراد : أنك أخرت قضاء دينه إلى وقت يأتي .
والإِيواء : حقيقته جعل الشيء آوياً ، أي راجعاً إلى مكانه . يقال : آوى ، إذا رجع إلى حيث فارق ، وهو هنا مجاز في مطلق الاستقرار سواء كان بعد إبعاد أم بدونه ، وسواء كان بعد سبق استقرار بالمكان أم لم يكن .
ومقابلة الإِرجاء بالإِيواء تقتضي أن الإِرجاء مراد منه ضد الإِيواء أو أن الإِيواء ضد الإِرجاء وبذلك تنشأ احتمالات في المراد من الإِرجاء والإِيواء صريحهما وكنايتهما .
فضمير { منهن } عائد إلى النساء المذكورات ممن هن في عصمته ومن أحل الله له نكاحهن غيرهن من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته ، والواهبات أنفسهن ، فتلك أربعة أصناف :
الصنف الأول : وهنّ اللاء في عصمة النبي عليه الصّلاة والسّلام فهن متصلن به فإرجاء هذا الصنف ينصرف إلى تأخير الاستمتاع إلى وقت مستقبل يريده ، والإِيواء ضده . فيتعين أن يكون الإِرجاء منصرفاً إلى القَسْم فوسع الله على نبيئه صلى الله عليه وسلم بأن أباح له أن يسقط حق بعض نسائه في المبيت معهن فصار حق المبيت حقاً له لا لهن بخلاف بقية المسلمين ، وعلى هذا جرى قول مجاهد وقتادة وأبي رزين ، قاله الطبري .
وقد كانت إحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم أسقطت عنه حقها في المبيت وهي سودة بنت زمعة ، وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة وكان ذلك قبل نزول هذه الآية ، ولما نزلت هذه الآية صار النبي عليه الصلاة والسلام مخيراً في القسم لأزواجه . وهذا قول الجمهور ، قال أبو بكر بن العربي : وهو الذي ينبغي أن يعول عليه . وهذا تخيير للنبيء صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يأخذ لنفسه به تكرماً منه على أزواجه . قال الزهري . ما علمنا أن رسول الله أرجأ أحداً من أزواجه بل آواهن كلَّهن .
قال أبو بكر بن العربي : وهو المعنى المراد . وقال أبو رَزين العُقيلي{[330]} : أرجأ ميمونة وسَودة وجويرية وأم حبيبة وصفية ، فكان يقسم لهن ما شاء ، أي دون مساواة لبقية أزواجه . وضعفه ابن العربي .
وفسر الإِرجاء بمعنى التطليق ، والإِيواءُ بمعنى الإِبقاء في العصمة ، فيكون إذناً له بتطليق من يشاء تطليقها وإطلاق الإِرجاء على التطليق غريب .
وقد ذكروا أقوالاً أخر وأخباراً في سبب النزول لم تصح أسانيدها فهي آراء لا يوثق بها . ويشمل الإِرجاء الصنف الثاني وهن ما ملكت يمينه وهو حكم أصلي إذ لا يجب للإِماء عدل في المعاشرة ولا في المبيت .
ويشمل الإِرجاء الصنف الثالث وهن : بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته ، فالإِرجاء تأخير تزوج مَن يحلّ منهن ، والإِيواء العقد على إحداهن ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج واحدة بعد نزول هذه الآية ، وذلك إرجاء العمل بالإِذن فيهن إلى غير أجل معين .
وكذلك إرجاء الصنف الرابع اللاء وهَبْن أنفسهن ، سواء كان ذلك واقعاً بعد نزول الآية أم كان بعضه بعد نزولها فإرجاؤهن عدم قبول نكاح الواهبة ، عُبر عنه بالإِرجاء إبقاء على أَملها أن يقبلها في المستقبل ، وإيواؤهن قبول هبتهن .
قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وأبو جعفر وخلف { ترجي } بالياء التحتية في آخره مخَّفف ( تُرجىء ) المهموز . وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب { ترجىءُ } بالهمز في آخره . وقال الزجاج : الهمز أجود وأكثر . والمعنى واحد .
واتفق الرواة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستعمل مع أزواجه ما أبيح له أخذاً منه بأفضل الأخلاق ، فكان يعدل في القسم بين نسائه ، إلاّ أن سَودة وهبت يومها لعائشة طلباً لمسرّة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما قوله : { ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك } فهذا لبياننِ أن هذا التخيير لا يوجب استمرار ما أخذ به من الطرفين المخيَّرِ بينهما ، أي لا يكون عمله بالعزل لازمَ الدوام بمنزلة الظهار والإِيلاء ، بل أَذن الله أن يرجع إلى من يعزلها منهن ، فصرح هنا بأن الإِرجاء شامل للعزل .
ففي الكلام جملة مقدرة دل عليها قوله : { ابتغيت } إذ هو يقتضي أنه ابتغى إبطال عزلها ، فمفعول { ابتغيت } محذوف دل عليه قوله : { وتؤوي إليك من تشاء } كما هو مقتضى المقابلة بقوله : { ترجي من تشاء } ، فإن العزل والإِرجاء مؤداهما واحد .
والمعنى : فإن عزلْتَ بالإِرجاء إحداهن فليس العزل بواجب استمراره بل لك أن تعيدها إن ابتَغَيْتَ العود إليها ، أي فليس هذا كتخيير الرجل زوجه فتختار نفسها المقتضي أنها تَبِين منه . ومتعلق الجُناح محذوف دل عليه قوله : { ابتغيت } أي ابتغيت إيواءها فلا جناح عليك من إيوائها .
و { من } يجوز أن تكون شرطية وجملة { فلا جناح عليك } جواب الشرط . ويجوز أن تكون موصولة مبتدأ فإن الموصول يعامل معاملة الشرط في كلامهم بكثرة إذا قصد منه العموم فلذلك يقترن خبر الموصول العام بالفاء كثيراً كقوله تعالى : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } [ البقرة : 203 ] ، وعليه فجملة { فلا جناح عليك } خبر المبتدأ اقترن بالفاء لمعاملة الموصول معاملة الشرط ومفعول { عزلت } محذوف عائد إلى { مَن } أي التي ابتغيتها ممن عزلتهن وهو من حذف العائد المنصوب .
{ ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ والله يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَلِيمًا } .
الإِشارة إلى شيء مما تقدم وهو أقربه ، فيجوز أن تكون الإشارة إلى معنى التفويض المستفاد من قوله : { ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء } ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى الابتغاء المتضمن له فعل { ابتغيت } أي فلا جناح عليك في ابتغائهن بعد عزلهن ذلك أدنى لأن تقرَّ أعينهُنّ . والابتغاء : الرغبة والطلب ، والمراد هنا ابتغاء معاشرة مَن عَزلَهن .
فعلى الأول يكون المعنى أن في هذا التفويض جعل الحق في اختيار أحد الأمرين بيد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق حقاً لهن فإذا عين لإِحداهن حالة من الحالين رضيته به لأنه يجعل الله تعالى على حكم قوله : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم } [ الأحزاب : 36 ] فقرت أعين جميعهن بما عُينت لكل واحدة لأن الذي يعلم أنه لا حق له في شيء كان راضياً بما أوتي منه ، وإن علم أنّ له حقاً حسب أن ما يؤتاه أقل من حقه وبالغ في استيفائه . وهذا التفسير مروي عن قتادة وتبعه الزمخشري وابن العربي والقرطبي وابن عطية ، وهذا يلائم قوله : { ويرضين } ولا يلائم قوله : { أن تقر أعينهن } لأن قرة العين إنما تكون بالأمر المحبوب ، وقوله : { ولا يحزن } لأن الحزن من الأمر المكدّر ليس باختياري كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " فلا تَلمنِي فيما لا أملك " . وعلى الوجه الثاني يكون المعنى : ذلك الابتغاء بعد العزل أقرب لأن تَقَرَّ أعين اللاتي كنت عزلتَهُن . ففي هذا الوجه ترغيب للنبي صلى الله عليه وسلم في اختيار عدم عزلهن عن القسم وهو المناسب لقوله : { أن تقر أعينهن ولا يحزن } كما علمت آنفاً ، ولقوله : « ويرضَيْنَ كلُّهن » ، ولما فيما ذكر من الحسنات الوافرة التي يرغب النبي صلى الله عليه وسلم في تحصيلها لا محالة وهي إدخال المسرّة على المسلم وحصول الرضى بين المسلمين وهو مما يعزّز الأخوة الإسلامية المرغب فيها . ونقل قريب من هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد واختاره أبو علي الجبّائي وهو الأرجح لأن قرة العين لا تحصل على مضض ولأن الحط في الحق يوجب الكدر . ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ إلا به ولم يحفظ عنه أنه آثر إحدى أزواجه بليلة سوى ليلة سودة التي وهبتها لعائشة ، استمر ذلك إلى وفاته صلى الله عليه وسلم وقد جاء في الصحيح أنه كان في مرضه الذي توفي فيه يُطاف به كل يوم على بيوت أزواجه ، وكان مبدأ شكواه في بيت ميمونة إلى أن جاءت نوبة ليلة عائشة فأذِنَّ له أزواجُه أن يمرض في بيتها رفقاً به .
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال حين قَسَم لَهُن " اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك " ولعل ذلك كان قبل نزول التفويض إليه بهذه الآية .
وفي قوله : { ويرضين بما آتيتهن كلهن } إشارة إلى أن المراد الرضى الذي يتساوَيْن فيه وإلا لم يكن للتأكيد ب { كلهن } نكتة زائدة ، فالجمع بين ضميرهن في قوله : { كلهن } يومىء إلى رضى متساوٍ بينهن .
وضميرا { أعينهن ولا يحزن } عائدان إلى ( مَن ) في قوله : { ممن عزلت } . وذكر { ولا يحزن } بعد ذكر { أن تقر أعينهن } مع ما في قُرّة العين من تضمّن معنى انتفاء الحزن بالإيماء إلى ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في ابتغاء بقاء جميع نسائه في مواصلته لأن في عزل بعضهن حزناً للمعزولات وهو بالمؤمنين رؤوف لا يحب أن يُحْزِن أحداً .
و { كلهن } توكيد لضمير { يَرْضَيْنَ } أو يتنازعه الضمائر كلّها .
والإِيتاء : الإِعطاء وغلب على إعطاء الخير إذا لم يذكر مفعوله الثاني ، أو ذكر غير معيّن كقوله : { فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين } [ الأعراف : 144 ] ، فإذا ذكر مفعوله الثاني فالغالب أنه ليس بسوء . ولم أره يستعمل في إعطاء السوء فلا تقول : آتاه سجناً وآتاه ضرباً ، إلا في مقام التهكم أو المشاكلة ، فما هنا من القبيل الأول ، ولهذا يبعد تفسيره بأنهن يرضين بما أذِن الله فيه لرسوله من عزلهن وإرجائهن . وتوجيهه في « الكشاف » تكلف .
والتذييل بقوله : { والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليماً حليماً } كلام جامع لمعنى الترغيب والتحذير ففيه ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في الإِحسان بأزواجه وإمائه والمتعرضات للتزوج به ، وتحذير لهن من إضمار عدم الرضى بما يلقَيْنَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي إجراء صفتي { عليماً حليماً } على اسم الجلالة إيماء إلى ذلك ، فمناسبة صفة العلم لقوله : { والله يعلم ما في قلوبكم } ظاهرة ، ومناسبة صفة الحليم باعتبار أن المقصود ترغيب الرسول صلى الله عليه وسلم في أليق الأحوال بصفة الحليم لأن همه صلى الله عليه وسلم التخلق بخلق الله تعالى وقد أجرى الله عليه صفات من صفاته مثل رؤوف رحيم ومثل شاهد . وقالت عائشة رضي الله عنها : ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً . ولهذا لم يأخذ رسول الله بهذا التخيير في النساء اللاتي كنّ في معاشرته ، وأخذ به في الواهبات أنفسهن مع الإحسان إليهن بالقول والبذل فإن الله كتب الإحسان على كل شيء . وأخذ به في ترك التزوج من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته لأن ذلك لا حرج فيه عليهن .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ"؛ فقال بعضهم: عنى بقوله: ترجي: تؤخّر، وبقوله: تؤْوي: تضمّ... عن مجاهد، قوله: "تُرْجي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ "قال: تعزل بغير طلاق من أزواجك من تشاء، "وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ" قال: تردّها إليك...
وقال آخرون: معنى ذلك: تطلق وتخلي سبيل من شئت من نسائك، وتمسك من شئت منهنّ فلا تطلق...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تترك نكاح من شئت، وتنكح من شئت من نساء أمتك... وقيل: إن ذلك إنما جعل الله لنبيه حين غار بعضهنّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وطلب بعضهنّ من النفقة زيادة على الذي كان يعطيها، فأمره الله أن يخيرهنّ بين الدار الدنيا والآخرة، وأن يخلي سبيل من اختار الحياة الدنيا وزينتها، ويمسك من اختار الله ورسوله، فلما اخترن الله ورسوله قيل لهنّ: اقررن الآن على الرضا بالله وبرسوله، قَسَم لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لم يقسم، أو قسم لبعضكنّ، ولم يقسم لبعضكنّ، وفضل بعضكنّ على بعض في النفقة، أو لم يفضل، سوّى بينكنّ، أو لم يسوّ، فإن الأمر في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لكم من ذلك شيء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذُكر مع ما جعل الله له من ذلك، يسوّي بينهنّ في القَسم، إلا امرأة منهنّ أراد طلاقها، فرضيت بترك القسم لها...
قال: "وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممن عزلت": من ابتغى أصابه، ومن عزل لم يصبه، فخيرهنّ بين أن يرضين بهذا، أو يفارقهنّ، فاخترن الله ورسوله، إلا امرأة واحدة بدوية ذهبت. وكان على ذلك صلوات الله عليه، وقد شرط الله له هذا الشرط، ما زال يعدل بينهنّ حتى لقي الله.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره جعل لنبيه أن يرجي من النساء اللواتي أحلهنّ له من يشاء، ويُؤوي إليه منهنّ من يشاء، وذلك أنه لم يحصر معنى الإرجاء والإيواء على المنكوحات اللواتي كنّ في حباله، عندما نزلت هذه الآية دون غيرهنّ ممن يستحدث إيواؤها أو إرجاؤها منهنّ. وإذا كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام: تؤخر من تشاء ممن وهبت نفسها لك، وأحللت لك نكاحها، فلا تقبلها ولا تنكحها، أو ممن هنّ في حبالك، فلا تقربها، وتضمّ إليك من تشاء ممن وهبت نفسها لك، أو أردت من النساء التي أحللت لك نكاحهنّ، فتقبلها أو تنكحها، وممن هي في حبالك فتجامعها إذا شئت، وتتركها إذا شئت بغير قَسْم.
وقوله: "وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ" اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن نكحت من نسائك فجامعت ممن لم تنكح، فعزلته عن الجماع، فلا جناح عليك... عن قتادة، في قوله: "وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ" قال: جميعا هذه في نسائه، إن شاء أتى من شاء منهنّ، ولا جناح عليه...
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن استبدلت ممن أرجيت، فخليت سبيله من نسائك، أو ممن مات منهنّ ممن أحللت لك فلا جناح عليك...
وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويل من قال: معنى ذلك: ومن ابتغيت إصابته من نسائك ممّنْ عَزَلْتَ عن ذلك منهنّ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ لدلالة قوله: "ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ" على صحة ذلك، لأنه لا معنى لأن تقرّ أعينهنّ إذا هو صلى الله عليه وسلم استبدل بالميتة أو المطلقة منهنّ، إلا أن يعني بذلك: ذلك أدنى أن تقرّ أعين المنكوحة منهنّ، وذلك مما يدلّ عليه ظاهر التنزيل بعيد.
وقوله: "ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ وَلا يَحْزَنّ" يقول: هذا الذي جعلت لك يا محمد من إذني لك أن ترجي من تشاء من النساء اللواتي جعلت لك إرجاءهنّ، وتؤوي من تشاء منهنّ، ووضعي عنك الحرج في ابتغائك إصابة من ابتغيت إصابته من نسائك، وعزلك عن ذلك من عزلت منهنّ، أقرب لنسائك أن تقرّ أعينهنّ به ولا يَحْزَنّ ويرضين بما آتيتهنّ كلهنّ من تفضيل من فضلت من قسم، أو نفقة وإيثار من آثرت منهم بذلك على غيره من نسائك، إذا هنّ علمن أنه من رضاي منك بذلك، وإذني لك به، وإطلاق مني لا من قِبَلك...
وقوله: "وَاللّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ" يقول: والله يعلم ما في قلوب الرجال من ميلها إلى بعض من عنده من النساء دون بعض بالهوى والمحبة يقول: فلذلك وضع عنك الحرج يا محمد فيما وُضع عنك من ابتغاء من ابتغيت منهنّ، ممن عزلت تفضلاً منه عليك بذلك وتكرمة.
"وكانَ اللّهُ عَلِيما" يقول: وكان الله ذا علم بأعمال عباده، وغير ذلك من الأشياء كلها "حَلِيما" يقول: ذا حلم على عباده، أن يعاجل أهل الذنوب منهم بالعقوبة، ولكنه ذو حلم وأناة عنهم، ليتوب من تاب منهم، وينيب من ذنوبه من أناب منهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ} فيه وعيدٌ لمن لم ترضَ منهنّ بما دبر الله من ذلك، وفوّض إلى مشيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثٌ على تواطؤ قلوبهنّ والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيه طيب نفسه.
{وَكَانَ الله عَلِيماً} بذات الصدور {حَلِيماً} لا يعاجل بالعقاب.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... لأن سبب هذه الآيات إنما كان تغايراً وقع بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم عليه فشقي بذلك، ففسح الله له وأنبهن بهذه الآيات.
{والله يعلم ما في قلوبكم} خبر عام، والإشارة به هنا إلى ما كان في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص، وكذلك يدخل في المعنى أيضاً المؤمنون.
{حليماً} صفة تقتضي صفحاً وتأنيساً في هذا المعنى، إذ هي خواطر وفكر لا يملكها الإنسان في الأغلب، واتفقت الروايات على أنه عليه السلام عدل بينهن في القسمة حتى مات ولم يمتثل ما أبيح له ضبطاً لنفسه وأخذاً بالفضل، غير أن سودة وهبت نوبتها لعائشة تقمناً لمسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحِ "أَنَّ سَوْدَةَ لَمَّا كَبِرَتْ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ اجْعَلْ يَوْمِي مِنْك لِعَائِشَةَ، فَكَانَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ: يَوْمَهَا، وَيَوْمَ سَوْدَةَ".
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، أَيْضًا عن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي يَوْمِ الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْت مِمَّنْ عَزَلْت فَلَا جُنَاحَ عَلَيْك}، فَقِيلَ لَهَا: مَا كُنْت تَقُولِينَ؟ قَالَتْ: كُنْت أَقُولُ: إنْ كَانَ الْأَمْرُ إلَيَّ فَإِنِّي لَا أُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أُوثِرَ عَلَيْك أَحَدًا.
وَبَعْضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَتَدَاخَلُ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ.
{والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما} أي إن أضمرن خلاف ما أظهرن، فالله يعلم ضمائر القلوب فإنه عليم، فإن لم يعاتبهن في الحال فلا يغتررن فإنه حليم لا يعجل.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أي: من الميل إلى بعضهن دون بعض، مما لا يمكن دفعه، كما قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول:"اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" ورواه أهل السنن الأربعة، من حديث حماد بن سلمة -وزاد أبو داود بعد قوله: فلا تلمني فيما تملك ولا أملك: يعني القلب. وإسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... لما كان التأكيد أوقع في النفس وأنفى للبس، وكان هذا أمراً غريباً لبعده عن الطباع، أكد فقال: {كلهن} أي ليس منهن واحدة إلا هي كذلك راغبة فيك راضية بصحبتك إن آويتها أو أرجأتها، لما لك من حسن العشرة وكرم الأخلاق ومحاسن الشمائل وجميل الصحبة، وإن اخترت فراقها علمت أن هذا أمر من الله جازم، فكان ذلك أقل لحزنها فهو أقرب إلى قرار عينها بهذا الاعتبار.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والإِرجاء حقيقته: التأخير إلى وقت مستقبل.
الإِيواء: حقيقته جعل الشيء آوياً، أي راجعاً إلى مكانه؛ ومقابلة الإِرجاء بالإِيواء تقتضي أن الإِرجاء مراد منه ضد الإِيواء أو أن الإِيواء ضد الإِرجاء، وبذلك تنشأ احتمالات في المراد من الإِرجاء والإِيواء صريحهما وكنايتهما، ويشمل الإِرجاء الصنف الثالث وهن: بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله...، فالإِرجاء تأخير تزوج مَن يحلّ منهن، والإِيواء العقد على إحداهن، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج واحدة بعد نزول هذه الآية، وذلك إرجاء العمل بالإِذن فيهن إلى غير أجل معين، وكذلك إرجاء الصنف الرابع اللاء وهَبْن أنفسهن، سواء كان ذلك واقعاً بعد نزول الآية أم كان بعضه بعد نزولها فإرجاؤهن عدم قبول نكاح الواهبة، والتذييل بقوله: {والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليماً حليماً} كلام جامع لمعنى الترغيب والتحذير؛ ففيه ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في الإِحسان بأزواجه وإمائه والمتعرضات للتزوج به، وتحذير لهن من إضمار عدم الرضى بما يلقَيْنَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} لأنهن يشعرن بأن الله عندما جعل الأمر إليك، فإنه جعل لهن ضمانةً كبيرةً في الحصول على الحياة الكريمة الرحيمة، والمعاملة الحسنة، والميزان العادل الذي لن تختار فيه إلا ما يحقق لهن الرضا والطمأنينة وقرّة العين، لأن إنسانية الرسالة في عمق شخصيتك، وروحانية الشعور الرحيم في قلبك، لا تتحركان إلا بالخير كله والإحسان كله والعدل كله.