قوله تعالى : { ربكم أعلم بما في نفوسكم } ، من بر الوالدين وعقوقهما ، { إن تكونوا صالحين } ، أبراراً مطيعين بعد تقصير كما كان منكم في القيام بما لزمكم من حق الوالدين وغير ذلك ، { فإنه كان للأوابين } بعد المعصية { غفوراً } . قال سعيد بن جبير في هذه الآية : هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير فإنه لا يؤاخذ به . قال سعيد بن المسيب : الأواب الذي يذنب ثم يتوب ، ثم يذنب ثم يتوب . قال سعيد بن جبير : الرجاع إلى الخير . وعن ابن عباس قال : هو الرجاع إلى الله فيما يحزبه وينوبه . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس : هم المسبحون ، دليله قوله : { يا جبال أوبي معه } [ سبأ – 10 ] قال قتادة : هم المصلون . قال عوف بن عقيل : هم الذين يصلون صلاة الضحى .
أخبرنا أبو الحسن طاهر بن الحسين الدورقي الطوسي ، أنبأنا أبو الحسن محمد بن يعقوب ، أنبأنا أبو النضر محمد بن محمد بن يوسف ، حدثنا الحسن بن سفيان ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع عن هشام صاحب الدستوائي ، عن قتادة ، عن القاسم بن عوف ، عن زيد بن أرقم قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون صلاة الضحى ، فقال : " صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى " . وقال محمد بن المنكدر : الأواب ) : الذي يصلي بين المغرب والعشاء . وروي عن ابن عباس أنه قال : إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء ، وهي صلاة الأوابين .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات التى سمت بمنزلة الوالدين ، بما يدل على كمال علمه ، وعلى التحذير من عقابه ، فقال - تعالى - : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً } .
والأوابون : جمع أواب . وهو الكثير الأوبة والتوبة والرجوع إلى الله - تعالى - يقال : آب فلان يئوب إذا رجع .
قال ابن جرير بعد أن ساق الأقوال فى ذلك : وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب ، قول من قال : الأواب هو التائب من الذنب ، الراجع عن معصية الله إلى طاعته ، ومما يكرهه إلى ما يرضاه ، لأن الأواب إنما هو فعال من قول القائل : آب فلان من سفره إلى منزله ، كما قال الشاعر :
وكل ذى غيبة يئوب . . . وغائب الموت لا يؤوب
أى : ربكم - أيها الناس - أعلم بما فى نفوسكم ، وضمائركم ، سواء أكان خيرا أو شرا ، وسواء أكنتم تضمرون البر بآبائكم أم تخفون الإِساءة إليهما ، ومع ذلك فإنكم إن تكونوا صالحين - أى : قاصدين الصلاح والبر بهما ، والرجوع عما فرط منكم فى حقهما أو فى حق غيرهما - فالله - تعالى - يقبل توبتكم ، فإنه - سبحانه - بفضله وكرمه كان للأوابين - أى الرجاعين إليه بالتوبة مما فرط منهم - غفورا لذنوبهم .
فالآية الكريمة وعيد لمن تهاون فى حقوق أبويه ، وفى كل حق أوجبه الله عليه ، ووعد لمن رجع إليه - سبحانه - بالتوبة الصادقة .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أمرت بالإِحسان إلى الوالدين ، بأسلوب يستجيش عواطف البر والرحمة فى قلوب الأبناء ، ويبعثهم على احترامهما ورعايتهما والتواضع لهما ، وتحذيرهم من الإِساءة إليهما ، ويفتح باب التوبة أمام من قصر فى حقهما أو حق غيرهما .
وقد كرر القرآن هذا الأمر للأبناء بالإِحسان إلى الآباء ، ولم يفعل ذلك مع الآباء .
وذلك لأن الحياة - كما يقول بعض العلماء - وهى مندفعة فى طريقها بالأحياء ، توجه اهتمامهم القوى إلى الأمام . إلى الذرية . إلى الناشئة الجديدة ، إلى الجيل المقبل . وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء . إلى الأبوة ، إلى الحياة المولية إلى الجيل الذاهب .
ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف ، وتتلفت إلى الآباء والأمهات .
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد . إلى التضحية بكل شئ حتى بالذات ، وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء فى الحبة فإذا هى فتات ، ويمتص الفرخ كل غذاء فى البيضة فإذا هى قشر ، كذلك يمتص الأولاد ، كل رحيق ، وكل عافية ، وكل جهد ، وكل اهتمام من الوالدين ، فإذا هما شيخوخة فانية - إن أمهلهما الأجل - وهما مع ذلك سعيدان .
فأما الاولاد فسرعان ما ينسون هذا كله ويندفعون بدورهم إلى الأمام . إلى الزوجات والذرية . . . وهكذا تندفع الحياة .
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء . إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ، ليذكروا واجب الجيل الذى أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف .
وهنا يجئ الأمر بالإِحسان إلى الوالدين ، فى صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد ، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله .
هذا ، وقد ساق المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات ، كثيرا من الأحاديث والآثار التى توجه الأبناء إلى رعاية الآباء ، واحترامهم ، والعطف عليهم ، والرحمة بهم ، والاهتمام بشئونهم .
قال الإِمام ابن كثير : وقد جاء فى بر الوالدين أحاديث كثيرة ، منها الحديث المروى من طرق عن أنس وغيره : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال : آمين . آمين . آمين .
فقالوا : يا رسول الله ، علام أمنت ؟ قال : " أتانى جبريل فقال : يا محمد ، رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك ، فقل : آمين فقلت آمين . ثم قال : رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له ، قل : آمين . فقلت آمين . ثم قال : رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة . قل : آمين ، فقلت : آمين " " .
وعن مالك بن ربيعة الساعدى قال : " بينما أنا جالس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ، هل بقى على من بر أبوى شئ بعد موتهما أبرهما به ؟ قال : " نعم : خصال أربع . الصلاة عليهما والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التى لا رحم لك إلا من قِبَلهما ، فهو الذى بقى عليك بعد موتهما من برهما " " .
وقال القرطبى : أمر الله - سبحانه - بعبادته وتوحيده ، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك . كما قرن شكرهما بشكره ، فقال : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } .
وقال : { أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير } وفى صحيح البخارى عن عبدالله قال : " سألت النبى صلى الله عليه وسلم : أى الأعمال أحب إلى الله - تعالى - ؟ . قال : " الصلاة على وقتها " . قلت : ثم أى ؟ قال : " بر الوالدين " ، قلت ثم أى : قال : " الجهاد فى سبيل الله " " .
ثم قال القرطبى - رحمه الله - : ومن عقوق الوالدين مخالفتهما فى أغراضهما الجائزة لهما ، كا أن من برهما موافقتهما على أغراضهما . وعلى هذا إذا أمرا أو أحدهما ولدهما بأمر وجبت طاعتهما فيه . ما لم يكن ذلك الأمر معصية ، ولا يختص برهما بأن يكونا مسلمين ، بل إن كانا كافرين يبرهما ويحسن إليهما .
ففى صحيح البخارى عن أسماء قالت : " قدمت أمى وهى مشركة فاستفتيت النبى صلى الله عليه وسلم فقلت : إن أمى قدمت وهى راغبة أفأصلها ؟ - أى وهى راغبة فى برى وصلتى ، أو وهى راغبة عن الإِسلام كارهة له - قال : " نعم صلى أمك " " .
ثم قال القرطبى : ومن الإِحسان إليهما والبر بهما ، إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد إلا بإذنهما . فعن عبد الله بن عمرو قال : " جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم يستأذنه فى الجهاد فقال : " أحى والداك ؟ قال : نعم ، قال : ففيهما فجاهد " "
{ ربكم أعلم بما في نفوسكم } من قصد البر أليهما واعتقاد ما يجب لهما من التوقير ، وكأنه تهديد على أن يضمر لهما كراهة واستثقالا . { إن تكونوا صالحين } قاصدين للصلاح . { فإنه كان للأوّابين } للتوابين . { غفورا } ما فطر منهم عند حرج الصدر من أذية أو تقصير ، وفيه تشديد عظيم ، ويجوز أن يكون عاما لكل تائب ، ويندرج فيه الجاني على أبويه التائب من جنايته لوروده على أثره .
تذييل لآية الأمر بالإحسان بالوالدين وما فصل به ، وما يقتضيه الأمر من اختلاف أحوال المأمورين بهذا الأمر قبل وروده بين موافق لمقتضاه ومفرط فيه ، ومن اختلاف أحوالهم بعد وروده من محافظ على الامتثال ، ومقصر عن قصد أو عن بادرة غفلة .
ولما كان ما ذكر في تضاعيف ذلك وما يقتضيه يعتمد خلوص النية ليجري العمل على ذلك الخلوص كاملاً لا تكلف فيه ولا تكاسل ، فلذلك ذيله بأنه المطلع على النفوس والنوايا ، فوعد الولد بالمغفرة له إن هو أدى ما أمره الله به لوالديه وافياً كاملاً . وهو مما يشمله الصلاح في قوله : { إن تكونوا صالحين } أي ممتثلين لما أمرتم به . وغير أسلوب الضمير فعاد إلى ضمير جمع المخاطبين لأن هذا يشترك فيه الناس كلهم فضمير الجمع أنسب به .
ولما شمل الصلاح الصلاح الكامل والصلاح المشوب بالتقصير ذيله بوصف الأوابين المفيد بعمومه معنى الرجوع إلى الله ، أي الرجوع إلى أمره وما يرضيه ، ففهم من الكلام معنى احتباك بطريق المقابلة . والتقدير إن تكونوا صالحين أوابين إلى الله فإنه كان للصالحين محسناً وللأوابين غفوراً . وهذا يعم المخاطبين وغيرهم ، وبهذا العموم كان تذييلاً .
وهذا الأوْب يكون مطرداً ، ويكون معرضاً للتقصير والتفريط ، فيقتضي طلب الإقلاع عما يخرمه بالرجوع إلى الحالة المرضية ، وكل ذلك أوْب وصاحبه آيِب ، فصيغ له مثال المبالغة ( أواب ) لصلوحية المبالغة لقوة كيفية الوصف وقوة كميته . فالملازم للامتثال في سائر الأحوال المراقب لنفسه أواب لشدة محافظته على الأوبة إلى الله ، والمغلوب بالتفريط يؤوب كلما راجع نفسه وذكر ربه ، فهو أواب لكثرة رجوعه إلى أمر ربه ، وكل من الصالحين .
وفي قوله : { ربكم أعلم بما في نفوسكم } ما يشمل جميع أحوال النفوس وخاصة حالة التفريط وبوادر المخالفة . وهذا من رحمة الله تعالى بخلقه .
وقد جمعت هذه الآية مع إيجازها تيسيراً بعد تعسير مشوباً بتضييق وتحذير ليكون المسلم على نفسه رقيباً .