قوله تعالى : { قالوا } وأسر بعضهم إلى بعض يتناجون { إن هذان لساحران } يعني : موسى وهارون . قرأ ابن كثير وحفص " إن " بتخفيف النون هذان . أي : ما هذان إلا ساحران كقوله " إن نظنك لمن الكاذبين " أي : ما نظنك إلا من الكاذبين ، ويشدد ابن كثير النون من هذان . وقرأ أبو عمرو " إن " بتشديد النون هذين بالياء على الأصل . وقرأ الآخرون : " إن " بتشديد النون هذان بالألف . واختلفوا فيه ، فروى هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أم المؤمنين أنه خطأ من الكاتب ، وقال قوم : هو لغة الحارث بن كعب ، وخثعم ، وكنانة ، فإنهم يجعلون الاثنين في موضع الرفع والنصب والخفض بالألف ، يقولون : أتاني الزيدان ورأيت الزيدان ومررت بالزيدان ، فلا يتركون ألف التثنية في شيء منها وكذلك يجعلون كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها ألفاً كما التثنية . يقولون : كسرت يداه وركبت علاه يعني : يديه وعليه وقال شاعرهم :
تزود مني بين أذناه ضربة دعته إلى هابي التراب عقيم يريد : بين أذنيه .
إن أباها وأبا أباها *** قد بلغا في المجد غايتاها
وقيل : تقدير الآية إنه هذان ، فحذف الهاء وذهب جماعة : إلى أن حرف ( إن ) ها هنا بمعنى :نعم . أي : نعم هذان . روي أن أعرابياً سأل ابن الزبير شيئاً ، فحرمه . فقال : لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال ابن الزبير إن وصاحبها ، أي : نعم . وقال الشاعر :
بكرت علي عواذلي *** يلمنني وألومهنه
ويقلن شيب قد علا *** ك وقد كبرت فقلت إنه
أي : نعم { يريدان أن يخرجاكم من أرضكم } مصر { بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى } قال ابن عباس : يعني بسراة قومكم وأشرافكم يقال : هؤلاء طريقة قومهم . أي : أشرافهم والمثلى تأنيث الأمثل ، وهو الأفضل . حدث الشعبي ، عن علي قال : يصرفان وجوه الناس إليهما . قال قتادة : طريقتهم المثلى كان بنو إسرائيل يومئذ أكثر القوم عدداً وأموالاً ، فقال عدو الله : يريد أن يذهبا بهم لأنفسهم . وقيل : بطريقتكم المثلى . أي : بسنتكم ودينكم الذي أنتم عليه . والمثلى : نعت الطريق . تقول العرب : فلان على الطريقة المثلى يعني : على الصراط المستقيم .
{ قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائتوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى } .
فهاتان الآيتان تشيران إلى خوف السحرة من موسى وهارون ، وإلى أنهم بذلوا أقصى جهدهم فى تجميع صفوفهم ، وفى تشجيع بعضهم لبعض ، حتى لا يستلب موسى - عليه السلام - منهم جاههم وسلطانهم ومنافعهم . .
أى : قال السحرة بعضهم لبعض بطريق التناجى والإسرار ، ما استقر عليه رأيهم ، من أن موسى وهارون ساحران { يُرِيدَانِ } عن طريق سحرهما أن يخرجا السحرة من أرضهم مصر : ليستوليا عما وأتباعهما عليهماز
ويريدان كذلك أن يذهبا بطريقتكم المثلى . أى بمذهبكم ودينكم الذى هو أمثل المذاهب وأفضلها ، وبملككم الذى أنتم فيه ، وبعيشكم الذى تنعمون به .
فالمثلى : مؤنث أمثل بمعنى أشرف وأفضل . وإنما أنث باعتبار التعبير بالطريقة . هذا ، وهناك قراءات فى قوله تعالى : { إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ } ذكرها الإمام القرطبى .
فقال ما ملخصه : قوله - تعالى - : { إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ } قرأ أبو عمرو : { إِنْ هاذين لَسَاحِرَانِ } ورويت - هذه القراءة - عن عثمان وعائشة وغيرهما من الصحابة . . .
وقرأ الزهرى والخليل بن أحمد وعاصم فى رواية حفص عنه { إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ } بتخفيف { إِنْ } . . . وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراف ، ويكون معناها : ما هذان إلا ساحران .
وقرأ المدنيون والكوفيون : { إِنَّ هذان } بتشديد إن { لَسَاحِرَانِ } فوافقوا المصحف وخالفوا الإعراب .
فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة من الأئمة .
والعلماء فى قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال : الأول أنها لغة بنى الحارث بن كعب وزبيد وخثعم . . . ، يجعلون رفع المثنى ونصبه وخفضه بالألف . . . وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية .
وقوله : { قالوا إن هذان لساحران } تفسير ل { أسروا النجوى } كأنهم تشاوروا في تلفيقه حذرا أن يغلبا فيتبعهما الناس ، و{ هذان } اسم إن على لغة بلحرث بن كعب فإنهم جعلوا الألف للتثنية وأعربوا المثنى تقديرا . وقيل اسمها ضمير الشأن المحذوف و { هذان لساحران } خبرها . وقيل { إن } بمعنى نعم وما بعدها مبتدأ وخبر وفيهما إن اللام لا تدخل خبر المبتدأ . وقيل أصله إنه هذان لهما ساحران فحذف الضمير وفيه أن المؤكد بلام لا يليق به الحذف ، وقرأ أبو عمرو إن " هذين " وهو ظاهر ، وابن كثير وحفص { إن هذان } على أنها هي المخففة و اللام هي الفارقة أو النافية واللام بمعنى إلا . { يريدان أن يخرجاكم من أرضكم } بالاستيلاء عليها . { بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى } بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما لقوله { إني أخاف أن يبدل دينكم } وقيل أرادوا أهل طريقتكم وهم بنو إسرائيل فإنهم كانوا أرباب علم فيما بينهم لقول موسى { أرسل معنا بني إسرائيل } وقيل الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم من حيث إنهم قدوة لغيرهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل العلم في السرار الذي أسروه؛
فقال بعضهم: هو قول بعضهم لبعض: إن كان هذا ساحرا فإنا سنغلبه، وإن كان من أمر السماء فإنه سيغلبنا.
وقال آخرون: في ذلك... عن وهب بن منبه، قال: أشار بعضهم إلى بعض بتناج "إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا".
وقوله "وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى "يقول: ويغلبا على ساداتكم وأشرافكم، يقال: هو طريقة قومه ونظورة قومه، ونظيرتهم إذا كان سيدهم وشريفهم والمنظور إليه، يقال ذلك للواحد والجمع، وربما جمعوا، فقالوا: هؤلاء طرائق قومهم، ومنه قول الله تبارك وتعالى: "كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا" وهؤلاء نظائر قومهم.
وأما قوله:"المُثْلَى" فإنها تأنيث الأمثل، يقال للمؤنث، خذ المثلى منهما. وفي المذكر: خذ الأمثل منهما، ووحدت المثلى، وهي صفة ونعت للجماعة، كما قيل "لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى" وقد يحتمل أن يكون المُثلى أنثت لتأنيث الطريقة... عن مجاهد، قوله "ويذهبا بطريقتكم المثلى" قال: أولي العقل والشرف والأنساب... وقال آخرون: معنى ذلك، ويغيرا سنتكم ودينكم الذي أنتم عليه، من قولهم: فلان حسن الطريقة... قال ابن زيد، في قوله "وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى" قال: يذهبا بالذي أنتم عليه، يغيرا ما أنتم عليه، وقرأ "ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ" قال: هذا قوله: "وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى" وقال: يقول طريقتكم اليوم طريقة حسنة، فإذا غيرت ذهبت هذه الطريقة.
ورُوي عن عليّ في معنى قوله (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) ما حدثنا به القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن القاسم، عن عليّ بن أبي طالب، قال: يصرفان وجوه الناس إليهما.
وهذا القول الذي قاله ابن زيد في قوله "وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى" وإن كان قولا له وجه يحتمله الكلام، فإن تأويل أهل التأويل خلافه، فلا أستجيز لذلك القول به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله: {إن هذان لساحران} بالألف. قال أبو عبيدة: هذه لغة قوم من العرب [يقول: مررت برجلان] ورأيت رجلان. فهو على تلك اللغة. وقال بعضهم: إن هذه الألف، لا تسقط في الوحدان بحال؛ يقال: مررت بهذا، ورأيت هذا، ونحوه. فهو كالأصل، لا يحتمل السقوط في الأحوال كلها الوحدان والتثنية. وقال بعضهم: {إن هذان لساحران} أي: نعم هذان لساحران، وتلك لغة قوم أيضا؛ يقولون: إن مكان نعم...
... إنه سبحانه وتعالى لما ذكر ما أسروه من النجوى حكى عنهم ما أظهروه ومجموعه يدل على التنفير عن موسى عليه السلام ومتابعة دينه...
وهذا طعن منهم في معجزات موسى عليه السلام ثم مبالغة في التنفير عنه لما أن كل طبع سليم يقتضي النفرة عن السحر وكراهة رؤية الساحر، ومن حيث إن الإنسان يعلم أن السحر لا بقاء له فإذا اعتقدوا فيه السحر قالوا: كيف نتبعه فإنه لا بقاء له ولا لدينه ولا لمذهبه...
قوله: {يريدان أن يخرجاكم من أرضكم} وهذا في نهاية التنفير لأن المفارقة عن المنشأ، والمولد شديدة على القلوب، وهذا هو الذي حكاه الله تعالى عن فرعون في قوله: {أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى} وكأن السحرة تلقفوا هذه الشبهة من فرعون ثم أعادوها...
قوله: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} وهذا أيضا له تأثير شديد في القلب فإن العدو إذا جاء واستولى على جميع المناصب والأشياء التي يرغب فيها فذلك يكون في نهاية المشقة على النفس فهم ذكروا هذه الوجوه للمبالغة في التنفير عن موسى والترغيب في دفعه وإبطال أمره... فالمراد أنهم كانوا يحرضون القوم بأن موسى وهارون عليهما السلام يريدان أن يذهبا بأشراف قومكم وأكابركم وهم بنو إسرائيل لقول موسى عليه السلام: {أرسل معنا بني إسرائيل} وإنما سموا بني إسرائيل بذلك لأنهم كانوا أكثر القوم يومئذ عددا وأموالا ومن المفسرين من فسر الطريقة المثلى بالدين سموا دينهم بالطريقة المثلى: {وكل حزب بما لديهم فرحون} ومنهم من فسرها بالجاه والمنصب والرياسة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وجعل بعضهم يحمس بعضا، وراحوا يهيجون في المترددين الخوف من موسى وهارون، اللذين يريدان الاستيلاء على مصر وتغيير عقائد أهلها؛ مما يوجب مواجهتهما يدا واحدة بلا تردد ولا نزاع. واليوم هو يوم المعركة الفاصلة والذي يغلب فيها الفالح الناجح:
"قالوا: إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى".
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {قَالُوا إنْ هذان لساحران} بدل اشتمال من جملة {وأسَرُّوا النجوى}، لأن إسرار النجوى يشتمل على أقوال كثيرة ذُكر منها هذا القول، لأنّه القول الفصل بينهم والرأي الذي أرسوا عليه، فهو زبدة مخيض النجوى. وذلك شأن التشاور وتنازع الآراء أن يسفر عن رأي يصدر الجميع عنه.
وإسناد القول إلى ضمير جمعهم على معنى: قال بعضهم: هذان لساحران، فقال جميعهم: نعم هذان لسَاحران، فأسند هذا القول إلى جميعهم، أي مقالة تداولوا الخوض في شأنها فأرسوا عليها. وقال بعضهم لبعض: نعم هو كذلك، ونطقوا بالكلام الذي استقرّ عليه رأيهم، وهو تحققهم أنّ موسى وأخاه ساحران...
وتأكيد السحرة كونَ موسى وهارون ساحرين بحرف (إنّ) لتحقيق ذلك عند من يخامره الشكّ في صحّة دعوتهما.
وجعل ما أظهره موسى من المعجزة بين يدي فرعون سحراً لأنّهم يطلقون السحر عندهم على خوارق العادات، كما قالت المرأة الّتي شاهدت نبع الماء من بين أصابع النبي لقومها: جئتكم من عندِ أسْحر النّاس، وهو في كتاب المغازي من « صحيح البخاري».
والقائلون: قد يكون بعضهم ممن شاهد ما أتى به موسى في مجلس فرعون، أو ممن بلغهم ذلك بالتسامع والاستفاضة.
والخطاب في قوله {أن يُخْرِجَاكُم} لملئهم. ووجه اتهامهما بذلك هو ما تقدم عند قوله تعالى: {قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى} [طه: 57]. ونزيد هنا أن يكون هذا من النجوى بين السحرة، أي يريدانِ الاستئثار بصناعة السحر في أرضكم فتخرجوا من الأرض بإهمال الناس لكم وإقبالهم على سحر موسى وهارون.
والطريقة: السُّنّة والعادة؛ شبهت بالطريق الذي يسير فيه السائر، بجامع الملازمة.
والمثلى: مؤنّث الأمثل. وهو اسم تفضيل مشتقّ من المَثَالة، وهي حسن الحالة يقال: فلان أمثل قومِه، أي أقربهم إلى الخير وأحسنهم حالاً.
وأرادوا من هذا إثارة حمية بعضهم غيرة على عوائدهم، فإن لكلّ أمّة غيرة على عوائدها وشرائعها وأخلاقها. ولذا فرّعوا على ذلك أمرهم بأن يجمعوا حيلهم وكل ما في وسعهم أن يغلبوا به موسى.
والباء في {بطريقتكم} لتعدية فعل {يذهبا}. والمعنى: يُذهبانها، وهو أبلغ في تعلّق الفعل بالمفعول من نصب المفعول. وتقدّم عند قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} في سورة البقرة (17).
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالُواْ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} لا يملكان أية صفة للرسالة أو للنبوة، ولكنهما يتظاهران بذلك ليسيطرا على الناس بطريقة الإيحاء بقداسة موقعهما ليحققا أهدافهما العدوانية، فإنهما {يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} ليكون لهما ولشعبهما السيطرة على الأرض كلها، {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} ويغيِّرا كل أوضاعكم التي درجتم عليها مئات السنين، فأصبحت جزءاً من شخصيتكم القومية وحققت لكم الغلبة على من حولكم، وحصلت لكم بها، الامتيازات في الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فماذا تنتظرون منهما؟ هل تنتظرون منهما أن يحققا ما يريدان فتندموا على ذلك من حيث لا ينفعكم الندم،