قوله تعالى : { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } ، أي : للوقت الذي ضربنا له أن نكلمه فيه ، قال أهل التفسير : إن موسى عليه السلام تطهر وطهر ثيابه لميعاد ربه لما أتى طور سيناء . وفي القصة : أن الله عز وجل وأنزل ظلمة على سبعة فراسخ ، وطرد عنه الشيطان ، وطرد عنه هوام الأرض ، ونحى عنه الملكين ، وكشط له السماء ، فرأى الملائكة قياماً في الهواء ، ورأى العرش بارزاً ، وكلمه الله وناجاه حتى أسمعه ، وكان جبريل عليه السلام معه فلم يسمع ما كلمة ربه ، وأدناه حتى سمع صرير القلم ، فاستحلى موسى عليه السلام كلام ربه ، واشتاق إلى رؤيته .
قوله تعالى : { قال رب أرني أنظر إليك } ، فقال الزجاج : فيه اختصار تقديره : أرني نفسك أنظر إليك ، قال ابن عباس : أعطني النظر إليك . فإن قيل : كيف سأل الرؤية وقد علم أن الله تعالى لا يرى في الدنيا ؟ قال الحسن : هاج به الشوق فسأل الرؤية . وقيل : سأل الرؤية ظناً منه أنه يجوز أن يرى في الدنيا .
قوله تعالى : { قال } الله تعالى .
قوله تعالى : { لن تراني } وليس لبشر أن يطيق النظر إليّ في الدنيا ، من نظر إلي في الدنيا مات ، فقال : إلهي سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك ، ولأن أنظر إليك ثم أموت ، أحب إلي من أن أعيش ولا أراك . فقال الله عز وجل : { لم تراني ولكن انظر إلى الجبل } ، وهو أعظم جبل بمدين يقال له زبير . قال السدي : لما كلم الله موسى غاص الخبيث إبليس في الأرض حتى خرج بين قدمي موسى ، فوسوس إليه وقال : أن من كلمك شيطان ، فعند ذلك سأل موسى الرؤية ، فقال الله عز وجل : { لن تراني } ، وتعلقت نفاة الرؤية بظاهر هذه الآية ، وقالوا : قال الله تعالى : { لن تراني } ، ولن تكون للتأبيد ، ولا حجة لهم فيها ، ومعنى الآية : لن يراني في الدنيا أو في الحال ، لأنه كان يسأل الرؤية في الحال ، و( لن ) لا تكون للتأبيد ، كقوله تعالى { ولن يتمنوه أبداً } [ البقرة : 95 ] إخباراً عن اليهود ، ثم أخبر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرة ، كما قال الله تعالى : { ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك } [ الزخرف : 77 ] ، و{ يا ليتها كانت القاضية } [ الحاقة : 27 ] ، والدليل عليه أنه لم ينسبه إلى الجهل بسؤال الرؤية ، ولم يقل إني لا أرى حتى تكون لهم حجة ، بل علق الرؤية على استقرار الجبل ، واستقرار الجبل على التجلي غير مستحيل إذا جعل الله تعالى له تلك القوة ، والمعلق بما لا يستحيل لا يكون مجالاً .
قوله تعالى : { ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني } ، قال وهب وابن إسحاق : لما سأل موسى ربه الرؤية أرسل الله الضباب ، والصواعق ، والظلمة ، والرعد ، والبرق ، وأحاطت بالجبل الذي عليه موسى أربعة فراسخ من كل جانب ، وأمر الله ملائكة السموات أن يعترضوا على موسى ، فمرت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقر ، تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ، ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية أن اهبطوا على موسى ، فاعترضوا عليه ، فهبطوا عليه أمثال الأسود ، لهم لجب بالتسبيح والتقديس ، ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى وسمع ، واقشعرت كل شعرة في رأسه وجسده ، ثم قال : لقد ندمت على مسألتي فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء ؟ فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا موسى اصبر لما سألت ، فقليل من كثير ما رأيت . ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة أن اهبطوا على موسى ، فاعترضوا عليه ، فهبطوا أمثال النسور ، لهم قصف ورجف ولجب شديد ، وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس كجلب الجيش العظيم ، ألوانهم كلهب النار ، ففزع موسى واشتد فزعه ، وأيس من الحياة ، فقال له خير الملائكة : مكانك يا ابن عمران ، حتى ترى ما لا تصبر عليه ، ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى بن عمران فهبطوا عليه لا يشبههم شيء من الذين مروا من قبلهم ، ألوانهم كلهب النار ، وسائر خلقهم كالثلج الأبيض ، أصواتهم عالية بالتقديس والتسبيح ، لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به من قبلهم ، فاصطكت ركبتاه ، وارتعد قلبه ، واشتد بكاؤه ، فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا ابن عمران ، اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت . ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الخامسة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى ، فهبطوا عليه ، لهم سبعة ألوان ، فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره ، لم ير مثلهم ، ولم يسمع مثل أصواتهم ، فامتلأ جوفه خوفاً ، واشتد حزنه ، وكثر بكاؤه ، فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا بن عمران مكانك حتى ترى بعض ما لا تصبر عليه ، ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه ، فهبطوا عليه ، في يد كل ملك منهم مثل النخلة الطويلة نارا ، أشد ضوءاً من الشمس ، ولباسهم كلهب النار ، إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السموات ، كلهم يقولون بشدة أصواتهم : ( سبوح قدوس ، رب الملائكة والروح ، رب العزة أبداً لا يموت " في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه ، فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم حين سبحوا وهو يبكي ويقول : رب اذكرني ولا تنس عبدك ، لا أدري أأنفلت مما أنا فيه أم لا ؟ إن خرجت احترقت ، وإن مكثت مت ، فقال له كبير الملائكة ورأسهم : قد أوشكت يا بن عمران أن يشتد خوفك ، وينخلع قلبك ، فاصبر للذي سألت . ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه في ملائكة السماء السابعة ، فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب جل جلاله ، ورفعت ملائكة السموات أصواتهم جميعاً يقولون : " سبحان الملك القدوس ، رب العزة أبداً لا يموت " بشدة أصواتهم ، فارتج الجبل ، واندكت كل شجرة كانت فيه وخر العبد الضعيف موسى صعقاً ، على وجهه ليس معه روحه ، فأرسل الله برحمته الروح ، فتغشاه ، وقلب عليه الحجر الذي كان عليه موسى ، وجعله كهيئة القبة لئلا يحترق موسى ، فأقامه الروح مثل اللامة ، فقام موسى يسبح الله تعالى ويقول : آمنت بك ربي ، وصدقت أنه لا يراك أحد فيحيا ، من نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه ، فما أعظمك وأعظم ملائكتك ، أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك ، ولا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء ، رب تبت إليك الحمد لله لا شريك لك ما أعظمك وما أجلك رب العالمين ، فذلك قوله تعالى : { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً } ، قال ابن عباس : ظهر نور ربه للجبل ، جبل زبير . وقال الضحاك : أظهر الله من نور الحجب مثل منخر ثور . وقال عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار : ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سم الخياط حتى صار دكاً . وقال السدي : ما تجلى إلا قدر الخنصر ، يدل عليه ما روى ثابت ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : هكذا ، ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر ، فساخ الجبل . وحكي عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نوراً قدر الدرهم ، فجعل الجبل دكاً ، أي : مستوياً بالأرض . قرأ حمزة والكسائي ( دكاء ) ممدوداً غير منون هاهنا وفي سورة الكهف ، ووافق عاصم في الكهف ، وقرأ الآخرون ( دكا ) مقصوراً منوناً ، فمن قصره فمعناه جعله مدقوقاً ، والدك والدق واحد ، وقيل : معناه دكه الله دكاً ، أي : فتقه ، كما قال : { إذا دكت الأرض دكاً دكاً } [ الفجر :21 ] ، ومن قرأ بالمد أي : جعله مستوياً أرضاً دكاء ، وقيل معناه : جعله مثل دكاء ، وهي الناقة التي لا سنام لها ، قال ابن عباس : جعله تراباً ، وقال سفيان : ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب فيه . وقال عطية العوفي : صار رملاً هائلاً . وقال الكلبي : جعله دكاً أي كسراً جبالاً صغاراً . ووقع في بعض التفاسير : صارت لعظمته ستة أجبل ، وقعت ثلاثة بالمدينة : أحد ، وورقان ، ورضوى ، ووقعت ثلاثة بمكة : ثور ، وتبير ، وحراء . قوله تعالى : { وخر موسى صعقاً } . قال ابن عباس والحسن : مغشياً عليه . وقال قتادة : ميتاً . وقال الكلبي : خر موسى صعقاً يوم الخميس يوم عرفة ، وأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر . قال الواقدي : لما خر موسى صعقاً قالت ملائكة السموات : ما لابن عمران وسؤال الرؤية ؟ وفي بعض الكتب أن ملائكة السموات أتوا موسى وهو مغشي عليه ، فجعلوا يركلونه بأرجلهم ويقولون : يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة ؟
قوله تعالى : { فلما أفاق } موسى من صعقته ، وثاب إليه عقله ، عرف أنه قد سأل أمراً عظيما لا ينبغي له .
قوله تعالى : { قال سبحانك تبت إليك } عن سؤال الرؤية .
قوله تعالى : { وأنا أول المؤمنين } بأنك لا ترى في الدنيا ، وقال مجاهد والسدي : وأنا أول من آمن بك من بني إسرائيل .
ثم حكى القرآن ما كان من موسى عندما وصل إلى طور سيناء لمناجاة ربه فقال : { وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } أى : وحين حضر موسى لموقتنا الذي وقتناه له وحددناه ، وكلمه ربه ، أى : خاطيه من غير واسطة ملك { قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } أى : قال موسى حين كلمه ربه وسمع منه : رب أرنى ذاتك الجليلة . والمراد مكنى من رؤيتك .
و { أرني } فعل أمر مبنى على حذف الياء . وياء المتكلم مفعول ، والمفعول الثانى محذوف أى : ذاتك أو نفسك ولم يصرح به لأنه معلوم ، وزيادة في التأدب مع الخالق - عز وجل - .
وجملة { قَالَ لَن تَرَانِي } أى : لن تطيق رؤيتى ، وأنت في هذه النشأة وعلى الحالة التي أنت عليها في هذه الدنيا فنفى الرؤية منصب على الحالة الدنيوية ، أما في الآخرة فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن المؤمنين يرون ربهم في روضات الجنات .
ثم قال - تعالى - { ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } أى : لن تطيق رؤيتى يا موسى وأنت في هذه الحياة الدنيا ، ولكن انظر إلى الجبل الذي هو أقوى منك ، فإن استقر مكانه أى ثبت مكانه حيت أتجلى له لوم يتفتت من هذا التجلى ، فسوف ترانى أى تثبت لرؤيتى إذا تجليت لك وإلا فلا طاقة لك برؤيتى .
وفى هذا الاستدراك { ولكن انْظُرْ } . . . الخ ، تسلية لموسى - عليه السلام - وتلطف معه في الخطاب ، وتكريم له ، وتعظيم لأمر الرؤية ، وأنه لا يقوى عليها إلا من قواه الله بمعونته .
ثم بين - سبحانه - ما حدث للجبل عند التجلى فقال : { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً } أى : فحين ظهر نوره - سبحانه - للجبل على الوجه اللائق بجلاله { جَعَلَهُ دَكّاً } أى مدقوقا مفتتا ، فنبه - سبحانه - بذلك على أن الجبل مع شدته وصلابته ما دام لم يستقر عند هذا التجلى ، فالآدمى مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر . والدك والدق بمعنى ، وهو تفتيت الشىء وسحقه وفعله من باب رد .
قال الآلوسى : وهذا كما لا يخفى من المتشابهات التي يسلك فيها طريق التسليم وهو أسلم وأحكم ، أو التأويل بما يليق بجلال ذاته - تعالى - .
وقوله { وَخَرَّ موسى صَعِقاً } أى : سقط من هول ما رأى من النور الذي حصل به التجلى مغشيا عليه ، كمن أخذته الصاعقة .
يقال : صعقتهم السماء تصعقهم صعقا فهو صعق أى : غشى عليه .
وقوله : { فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } أى : فلما أفاق موسى من غشيته ، وعاد إلى حالته الأولى التي كان عليها قبل أن يخر مغشيا عليه ، قال تعظيما لأمر الله { سُبْحَانَكَ } أى تنزيها لك من مشابهة خلقك في شىء { تُبْتُ إِلَيْكَ } من الإقدام على السؤال بغير إذن { وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } بعظمتك وجلالك أو وأنا أول المؤمنين بأنه لا يراك أحد .
قال أبو العالية : قد كان قبله مؤمنون : ولكن يقول أنا أول المؤمنين أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة . قال ابن كثير : وهو قول حسن .
هذا ، وقد توسع بعض المفسرين عند تفسيره لهذه الآية في الحديث عن رؤية الله - تعالى - وعلى رأس هذا البعض الإمام الآلوسى ، فقد قال - رحمه الله - : " واستدل أهل السنة المجوزون لرؤيته - سبحانه - بهذه الآية على جوازها في الجملة ، واستدل بها المعتزلة النفاة على خلاف ذلك ، وقامت الحرب بينهما على ساق ، وخلاصة الكلام في ذلك أن أهل السنة قالوا : إن الآية تدل على إمكان الرؤية من وجهين .
الأول : أن موسى - عليه السلام - سألها بقوله { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } ولو كانت مستحيلة فإن كان موسى عالما بالاستحالة فالعالم - فضلا عن النبى مطلقا ، فضلا عمن هو من أولى العزم - لا يسأل المحال ولا يطلبه . وإن لم يكن عالما بذلك ، لزم أن يكون آحاد المعتزلة أعلم بالله وما يجوز عليه وما لا يجوز من النبى الصفى ، والقول بذلك غاية الجهل والرعونة و حيث بطل القول بالاستحالة تعين القول بالجواز .
والثانى : أن فيها تعليق الرؤية على استقرار الجبل وهو ممكن في ذاته وما علق على الممكن ممكن " .
ثم قال ما ملخصه : واعترض الخصوم على الوجه الأول بوجوه منها أنا لا نسلم أن موسى سأل الرؤية وإنما سأل العلم الضرورى به - تعالى - إلا أنه عبر عنه بالرؤية مجازاً . أو أنه سأل رؤية علم من أعلامه الساعة بطريق حذف المضاف ، أى : أرنى أنظر إلى علم من أعلامك الدالة على الساعة . أو أنه سأل الرؤية لا لنفسه ولكن لدفع قومه القائلين { أَرِنَا الله جَهْرَةً } وإنما أضاف الرؤية إليه دونهم ليكون منعه أبلغ في دفعهم وردعهم عما سألوه تنبيها بالأدنى على الأعلى .
واعترضوا على الوجه الثانى بأنا لا نسلم أنه علق الرؤية على أمر ممكن ، لأن التعليق لم يكن على استقرار الجبل حال سكونه وإلا لوجدت الرؤية ضرورة وجود الشرط ، لأن الجبل حال سكونه كان مستقرا ، بل على استقراره حال حركته وهو محال لذاته .
ثم أورد الآلوسى بعد ذلك ما رد به كل فريق على الآخر مما لا مجال لذكره هنا .
والذى نراه أن رؤية الله في الآخرة ممكنة كما قال أهل السنة لورود الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة التي تشهد بذلك ، أما في الدنيا فقد منع العلماء وقوعها ، وقد بينا ذلك بشىء من التفصيل عند تفسيرنا لقوله - تعالى - { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار }
{ ولما جاء موسى لميقاتنا } لو قتنا الذي وقتناه ، واللام للاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا . { وكلّمه ربه } من غير وسيط كما يكلم الملائكة ، وفيما روي : أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين . { قال رب أرني أنظر إليك } أرني نفسك بأن تمكنني من رؤيتك ، أو يتجلى لي فأنظر إليك وأراك . وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لان طلب المستحيل من الأنبياء محال ، وخصوصا ما يقتضي الجهل بالله ولذلك رده بقوله تعالى : { لن تراني } دون لن أرى أو لن أريك أو لن تنظر إليّ ، تنبيها على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي لم يوجد فيه بعد ، وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا : { أرنا الله جهرة } خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا : { اجعل لنا إلها } ولا يتبع سبيلهم كما قال لأخيه { ولا تتبع سبيل المفسدين } والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته إياه على أن لا يراه أبدا وأن لا يراه غيره أصلا فضلا عن أن يدل على استحالتها ودعوى الضرورة فيه مكابرة أو جهالة بحقيقة الرؤية . { قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني } استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيقه ، وفي تعليق الرؤية بالاستقرار أيضا دليل على الجواز ضرورة أن المعلق على الممكن ممكن ، والجبل قيل هو جبل زبير . { فلما تجلّى ربه للجبل } ظهر له عظمته وتصدى له اقتداره وأمره . وقيل أعطى
له حياة ورؤية حتى رآه . { جعله دكّاً } مدكوكا مفتتا والدك والدق أخوان كالشك والشق ، وقرأ حمزة والكسائي " دكاء " أي أرضا مستوية ومنه ناقة دكاء التي لا سنام لها . وقرئ { دكا } أي قطعا جمع دكاء . { وخرّ موسى صعقا } مغشيا عليه من هول ما رأى . { فلما أفاق قال } تعظيما لما رأى . { سبحانك تبت إليك } من الجراءة والإقدام على السؤال من غير إذن . { وأنا أول المؤمنين } مر تفسيره . وقيل معناه أنا أول من أمن بأنك لا ترى في الدنيا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولما جاء موسى} الجبل {لميقاتنا}، يعني لميعادنا لتمام الأربعين يوما، {وكلمه ربه}، فلما سمع كلام ربه، استحلاه واشتاق إلى رؤية ربه، {قال}: يا {رب أرني أنظر إليك} قال له ربه: إنك {لن تراني ولكن}، اجعل بيني وبينك علما هو أقوى منك، يعني الجبل، {انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني}، وإن لم يستقر الجبل مكانه، فإنك لن تطيق رؤيتي، {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا}، يعني قطعا... {وخر موسى صعقا}... {فلما أفاق}، يعني رد عليه نفسه، {قال} موسى: {سبحانك تبت إليك} من قولي: {رب أرني أنظر إليك}، {وأنا أول المؤمنين}: يعني أول المصدقين بأنك لن تُرى في الدنيا...
قوله تعالى: {قال لن تراني} [الأعراف: 143]. 423- القاضي عياض: قال مالك، لم ير في الدنيا لأنه باق. ولا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة، ورزقوا أبصارا باقية رُئي الباقي بالباقي. 704
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولما جاء موسى للوقت الذي وعدنا أن يلقانا فيه، وكلّمه ربه وناجاه، قال موسى لربه:"أرِني أنْظُرْ إلَيْكَ" قال الله له مجيبا: "لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ"... عن ابن عباس، قوله: "أرِني أنْظُرْ إلَيْكَ "قال: أعطني...
"فَلَمّا تَجَلّى رَبّهُ للْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وَخَرّ مِوسَى صَعِقا" يقول تعالى ذكره: فلما اطلع الربّ للجبل جعل الله الجبل "دكّا": أي مستويا بالأرض. "وخَرّ مُوسَى صَعِقا" أي مغشيّا عليه... حدثني المثنى، قال: ثني الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الاَية: فَلَمّا تَجَلّى رَبّهُ للْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا قال: «هكذا» بأصبعه ووضع النبيّ صلى الله عليه وسلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر، «فسَاخَ الجَبَلُ»...
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: دَكّا. فقرأته عامّة قرّاء أهل المدينة والبصرة: دَكّا مقصورا بالتنوين، بمعنى: دك الله الجبل دكّا أي فَتّتَه، واعتبارا بقول الله: "كَلاّ إذَا دُكّتِ الأرْضِ دَكّا دَكّا"، وقوله: "وحُمِلَتِ الأرْضُ والجِبالُ فَدُكّتا دَكّةً وَاحِدَةً"...
وقرأته عامّة قرّاء الكوفيين: «جَعَلَهُ دَكّاءَ» بالمدّ وترك الجرّ والتنوين، مثل حمراء وسوداء...عن عكرمة، قال: دكّاء من الدكّاوات. وقال: لما نظر الله تبارك وتعالى إلى الجبل صار صخره ترابا.
واختلف أهل العربية في معناه إذا قرئ كذلك. فقال بعض نحويي البصرة: العرب تقول: ناقة دكاء: ليس لها سنام... وكان بعض نحويي الكوفة يقول: معنى ذلك: جعل الجبل أرضا دكّاء، ثم حذفت الأرض وأقيمت الدكاء مقامها إذ أدّت عنها.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأ: «جعله دكاء» بالمدّ، وترك الجرّ لدلالة الخبر الذي رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على صحته وذلك أنه رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فَساخَ الجَبَلُ» ولم يقل: فتفتّت، ولا تحوّل ترابا. ولا شكّ أنه إذا ساخ فذهب ظهر وجه الأرض، فصار بمنزلة الناقة التي قد ذهب سنامها، وصارت دكاء بلا سنام. وأما إذا دكّ بعضه فإنما يكسر بعضه بعضا ويتفتّت ولا يسوخ. وأما الدكاء فإنها خَلَفٌ من الأرض، فلذلك أُنثت على ما قد بينت. فمعنى الكلام إذن: فلما تجلى ربه للجبل ساخ، فجعل مكانه أرضا دكاء...
"فَلَمّا أفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ" يقول تعالى ذكره: فلما ثاب إلى موسى عليه السلام فهمه من غشيته، وذلك هو الإفاقة من الصعقة التي خرّ لها موسى صلى الله عليه وسلم، قال: "سُبْحانَكَ" تنزيها لك يا ربّ وتبرئة أن يراك أحد في الدنيا ثم يعيش. "تُبْتُ إلَيْكَ" من مسألتي إياك ما سألتك من الرؤية. "وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ" بك من قومي أن لا يراك في الدنيا أحد إلا هلك...
وقال آخرون: معناه قوله: وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ بك من بني إسرائيل...
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في قوله: "وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ" على قول من قال: معناه: أنا أوّل المؤمنين من بني إسرائيل لأنه قد كان قبله في بني إسرائيل مؤمنون وأنبياء، منهم ولد إسرائيل لصلبه، وكانوا مؤمنين وأنبياء، فلذلك اخترنا القول الذي قلناه قبل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وكلّمه ربه} لا يجوز لنا أن نصف كيفية الكلام وماهيّته سوى أنه أنشأ كلاما وصوتا أسمعه موسى كيف شاء بما شاء...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى عن موسى، عليه السلام، أنه لما جاء لميقات الله تعالى، وحصل له التكليم من الله [تعالى] سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} وقد أشكل حرف "لن "هاهنا على كثير من العلماء؛ لأنها موضوعة لنفي التأبيد، فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة. وهذا أضعف الأقوال؛ لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة، كما سنوردها عند قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة: 22، 23].
وقوله تعالى إخبارًا عن الكفار: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] وقيل: إنها لنفي التأبيد في الدنيا، جمعا بين هذه الآية، وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة. وقيل: إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وقد تقدم ذلك في الأنعام [الآية: 103].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر سبحانه مواعدته واحتياطه في إصلاح قومه، شرح أمره حال المواعدة وحالهم بعد غيبته عنهم فقال: {ولما جاء موسى لميقاتنا} أي عند أول الوقت الذي قدرناه للمناجاة؛ ولما كان مقام الجلال مهولاً لا يستطاع وعي الكلام معه، التفت إلى مقام الإكرام فقال: {وكلمه} أي من غير واسطة {ربه} أي المحسن إليه بأنواع الإحسان المتفضل على قومه بأنواع الامتنان، والذي سمعه موسى عليه السلام... ولما كلمه بصفة الربوبية الناظر إلى العطف واللطف، وكانت الرؤية جائزة، اشتاق إلى الرؤية شوقاً لم يتمالك معه لما استحلاه من لذاذة الخطاب فسألها لعلمه أنها جائزة {قال} مسقطاً الأداة كعادة أهل القرب -{رب أرني} أي ذاتك الأقدس بأن ترفع عني الحجاب فتجعلني متمكناً من النظر، وهو معنى قول الحبر ابن عباس: أعطني، وحقق أنها رؤية العين بقوله في جواب الأمر- {أنظر} أي أصوب تحديق العين وأشار إلى عظمته سبحانه وعلو شأنه علو العظمة لا المسافة -بالتعدية بحرف النهاية بعد أن أشار بحذف أداة النداء إلى غاية القرب بالإحسان- فقال: {إليك} أي فأراك. ولما كان سبحانه قد قضى أنه عليه السلام لا يراه في الدنيا {قال} نافياً المقصود، وهو الرؤية لا مقدمتها، وهو النظر الذي هو التحديق بالعين {لن تراني} ودل سبحانه بهذه العبارة على جواز رؤيته حيث لم يقل: لن أُرى، أو لن يراني أحد؛ ثم زاد ذلك بياناً بتعليقه بممكن فقال: {ولكن انظر إلى الجبل} إشارة جبل بعهده، وهو أعظم جبل هناك، وزاد في الإشارة إلى إمكان الرؤية بالتعبير بأداة الشك وإتباعها بأمر ممكن فقال -: {فإن استقر مكانه} أي وجد قراره وجوداً تاماً، وأشار إلى بعد الرؤية أيضاً وجلالة المطلوب منها بقوله: {فسوف تراني} أي بوعد لا خلف فيه {فلما تجلى ربه} أي المحسن إليه بكل عطاء ومنع وبين بتعبيره باللام أنه تجلى قربه وخصوصيته، ولو عبر بعلى مثلاً لكان أمر آخر فقال -: {للجبل} أي بأن كشف للجبل عما شاء من حجب عظمته {جعله دكاً} أي مدكوكاً، والدك والدق أخوان {وخر} أي وقع {موسى صعقاً} أي مغشياً عليه مع صوت هائل، فعلم أن معنى الاستدراك أنك لن تثبت لرؤيتي في هذه الدار ولا تعرف ذلك الآن، ولكنك تعرفه بمثال أريكه وهو الجبل، فإن الفاني -كما نقل عن الإمام مالك- لا ينبغي له أن يرى الباقي -{فلما أفاق} أي من غشيته {قال سبحانك} أي تنزيهاً لك عن أن أطلب منك ما لم تأذن فيه {تبت إليك} أي من ذلك {وأنا أول المؤمنين} أي مبادر غاية المبادرة إلى الإيمان بكل ما أخبرت به كل ما تضمنته هذه الآيات، فتعبيره بالإيمان في غاية المناسبة لعدم الرؤية لأن شرط الإيمان أن يكون بالغيب، فقد ورد في نبينا صلى الله عليه وسلم آيتان: إحداهما يمكن أن تشير إلى الرؤية بالتعبير بالمسلمين دون المؤمنين في قوله {وأنا أول المسلمين} والثانية تومئ إلى عدمها وهي {آمن الرسول} إلى قوله: {كل آمن بالله}- والله أعلم -، وكل هذا تبكيت على قومه وتبكيت لهم في عبادتهم العجل وردع لهم عن ذلك، وتنبيه لهم على أن الإلهية مقرونة بالعظمة والكبر بعيدة جداً عن ذوي الأجسام لما يعلم سبحانه من أنهم سيكررون عبادة الأصنام، فأثبت للإله الحق الكلام والتردي عن الرؤية بحجاب الكبر والعظمة واندكاك الجبل عند تجليه ونصب الشرع الهادي إلى أقوم سبيل تعريضاً بالعجل، وإلى ذلك يرشد قوله تعالى: {ألم يروا أنه لا يكلمهم} الآية...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني} أي إنك لا تراني الآن، ولا فيما تستقبل من الزمان، ثم استدرك تبارك وتعالى على ذلك بما يدل على تعليل النفي، ويخفف عن موسى شدة وطأة الرد، بإعلامه ما لم يكن يعلم من سنته، وهو أنه لا يقوى شيء في هذا الكون على رؤيته كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى عن مسلم (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) فقال:"ولكن انظر إلى الجبل" فإنني سأتجلى له فإن ثبت لدى التجلي وبقي مستقرا في مكانه فسوف تراني، لمشاركتك له في مادة هذا العالم الفاني، وإذا كان الجبل في قوته ورسوخه لا يثبت ولا يستقر لهذا التجلي لعدم استعداد مادته لقوة تجلي خالقه وخالق كل شيء فاعلم أنك لن تراني أيضا وأنت مشارك له في كونك مخلوقا من هذه المادة وخاضعا للسنن الربانية في قوتها وضعف استعدادها {وخلق الإنسان ضعيفا} [النساء: 28] وقبولها للفناء...
{فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّا وخرّ موسى صعقا} يقال جلا الشيء والأمر وانجلى وتجلى بنفسه أو بغيره وجلاه فتجلى- إذا انكشف وظهر ووضح بعد خفاء في نفسه ذاتي أو إضافي أو خفاء على مجتليه وطالبه. ويكون ذلك التجلي والظهور بالذات وبغير الذات من صفة أو فعل يزول به اللبس والخفاء، وفي صيغة التجلي ما ليس في صيغة الجلاء والانجلاء من معنى التدريج والكثرة النوعية أو الشخصية قال تعالى: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى} [الليل: 1، 2] فالليل يغشى النهار ويستره ثم يتجلى النهار ويظهر بالتدريج... الدك الدق أو ضرب منه. قال في الأساس: دككته دققته، ودك الركية كبسها، وحمل أدك وناقة دكاء: لا سنام لهما، واندك السنام: افترش على الظهر ونزلنا بدكداك: رمل متلبد بالأرض اه. وأقول: إن الفرق بين الدق والدك كما يؤخذ من استعمال العالم الموروث عن العرب أن الدق ما يخبط به الشيء ليتفتت ويكون أجزاء دقيقة ومنه الدقيق. وكان القمح في عصور البداوة الأولى يدق بالحجارة فيكون دقيقا ثم اهتدوا إلى الأرحية التي تسحقه وتطحنه. وأما الدك فهو الهدم والخبط الذي يكون به الشيء المدكوك ملبدا ومستويا، يقال أرض مدكوكة وطريق مدكوكة، ودك الحفرة والركية...
أحسن ما ورد في التفسير المأثور لهذه الآية مطابقا لمتن اللغة ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الرؤية عن ابن عباس {فلما تجلى ربه للجبل} قال: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر (جعله دكا) قال ترابا (وخر موسى صعقا) قال مغشيا عليه. اه. وما رواه ابن المنذر عن عكرمة أنه – أي الجبل- كان حجرا أصم فلما تجلى له صار تلا ترابا دكا من الدكاوات –أي مستويا بالأرض. ولولا ذلك لجاز أن يقال إن صيرورته ترابا وإن كان بمعنى الدكاء والمدكوك لا ينافي استقرار الجبل مكانه وقد ورد في بعض الآثار والأحاديث المرفوعة أيضا أنه ساخ أي غاص في الأرض، وهو يتفق مع المعنى الأول، أي أنه رج بالتجلي رجا، بست بها حجارته بساً، وساخ في الأرض كله أو بعضه في أثناء ذلك حتى صار كما قال بعضهم ربوة دكاء كالرمل المتلبد. والمعنى فلما تجلى ربه للجبل أقل التجلي وأدناه انهدَّ وهبط من شدته وعظمته وصار كالأرض المدكوكة أو الناقة الدكاء –وسقط موسى على وجهه مغشيا عليه كمن أخذته الصاعقة، والتجلي إنما كان للجبل دونه فكيف لو كان له؟ وقد روي في تفسير هذه الآيات من الأخبار والآثار الواهية والموضوعة غرائب وعجائب أكثرها من الإسرائيليات...
{فلمّا أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين} أي (فلما أفاق) موسى من غشيه والتعبير بالإفاقة يدل على صحة تفسير ابن عباس والجمهور للصعق بالغشي وبطلان تفسير قتادة له بالموت وقال به بعض شذاذ الصوفية وادّعوا أنه رأى ربه فمات، أو مات ثم رأى ربه، ولو مات لقال تعالى: (فلما بعث)... خلاصة معنى الآية أن موسى عليه السلام لما نال فضيلة تكليم الله تعالى له بدون واسطة فسمع ما لم يكن يسمع قبل ذلك وهو من الغيب الذي لا شبه له ولا نظير في هذا العالم طلب من الرب تبارك وتعالى أن يمنحه شرف رؤيته وهو يعلم حتما أنه تعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته التي منها كلامه عز وجل فكما أنه سمع كلاما ليس كمثله كلام بتخصيص رباني –استشرف لرؤية ذات ليس كمثلها شيء من الذوات، كما فهم من ترتيب السؤال على التكليم، فلم يكن عقل موسى- وهو في الذروة العليا من العقول البشرية بدليلي العقل والنقل- مانعا له من هذا الطلب، ولم يكن دينه وعلمه بالله تعالى وهما في الذروة العليا أيضا مانعين له منه. ولكن الله تعالى قال له: {لن تراني} ولكي يخفف عليه ألم الرد وهو كليمه الذي قال له في أول العهد بالوحي إليه {واصطنعتك لنفسي} أراه بعينيه ومجموع إدراكه من تجليه للجبل بما لا يعلمه سواه أن المانع من جهته هو لا من جانب الجود الرباني، فنزه الله وسبحه وتاب إليه من هذا الطلب، فبشره الله تعالى بأنه اصطفاه على الناس برسالته وبكلامه أي دون رؤيته، وأمره بأن يأخذ ما أعطاه، ويكون من الشاكرين له...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...جُعل مجيءُ موسى في الوقت المعين أمراً حاصلاً غير محتاج للإخبار عنه، للعلم بأن موسى لا يتأخر ولا يترك ذلك، وجُعل تكليمُ الله إياه في خلال ذلك الميقات أيضاً حاصلاً غير محتاج للإخبار عن حلوله...
وقوله: {قال رب أرني}... وسؤالُ موسى رؤية الله تعالى تطلّع إلى زيادة المعرفة بالجلال الإلهي، لأنه لما كانت المواعدة تتضمن الملاقاة. وكانت الملاقاة تعتمد رؤية الذات وسماع الحديث، وحصل لموسى أحد ركني الملاقاة وهو التكليم، أطمعه ذلك في الركن الثاني وهو المشاهدة، وممّا يؤذن بأن التكليم هو الذي أطمع موسى في حصول الرؤية جعْلُ جملة {وكلمه ربه} شرطاً لحرف (لمّا) لأن (لمّا) تدل على شدة الارتباط بين شرطها وجوابها، فلذلك يكثر أن يكون علة في حصول جوابها كما تقدم في قوله تعالى: {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما} في هذه السورة (22)، هذا على جعل {وكَلمه} عطفاً على شرط لمّا، وليسَ جوابَ لما، ولا نشك في أنه سأل رؤية تليق بذات الله تعالى، وهي مثل الرؤية الموعود بها في الآخرة، فكان موسى يحسب أن مثلِها ممكن في الدنيا حتى أعلمه الله بأن ذلك غير واقع في الدنيا، ولا يمتنع على نبي عدمُ العلم بتفاصيل الشؤون الإلهية قبل أن يُعلمها الله إياه، وقد قال الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم {وقُل رب زدني علماً} [طه: 114]، ولذلك كان أيمة أهل السنة محقين في الاستدلال بسؤال موسى رؤية الله على إمكانها بكيفية تليق بصفات الإلاهية لا نعلم كنهها وهو معنى قولهم: « بلا كيف».
وأعلم أن سؤال موسى رؤية الله تعالى طلبٌ على حقيقته كما يؤذن به سياق الآية وليس هو السؤالَ الذي سأله بنوا اسرائيل المحكي في سورة البقرة (55) بقوله: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}... ومفعول {أرني} محذوف لدلالة الضمير المجرور عليه في قوله: {إليك}. وفصل قوله: {قالَ لنْ تراني} لأنه واقع في طريق المحاورة.
و {لَن} يستعمل لتأبيد النفي ولتأكيد النفي في المستقبل، وهما متقاربان، وإنما يتعلق ذلك كله بهذه الحياة المعبر عنها بالأبد، فنفت (لن) رؤية موسى ربّه نفياً لا طمع بعده للسائِل في الإلحاح والمراجعة بحيث يَعلم أن طلبته متعذرة الحصول، فلا دلالة في هذا النفي على استمراره في الدار الآخرة. والاستدراك المستفاد من {لكن} لرفع توهم المخاطَب الاقتصارَ على نفي الرؤية بدون تعليل ولا إقناع، أو أن يتوهم أن هذا المنع لغضب على السائِل ومنقصة فيه، فلذلك يعلم من حرف الاستدراك أن بعض ما يتوهمه سيُرفع، وذلك أنه أمره بالنظر إلى الجبل الذي هو فيه هل يثبت في مكانه، وهذا يعلم منه أن الجبل سيتوجه إليه شيءٌ من شأن الجلال الإلهي، وأن قوة الجبل لا تستقر عند ذلك التوجه العظيم، فيعلم موسى أنه أحرى بتضاؤل قواه الفانية لو تجلى له شيء من سُبُحات الله تعالى.
وعلق الشرط بحرف (إنْ) لأن الغالب استعمالها في مقام ندرة وقوع الشرط أو التعريض بتعَذره، ولما كان استقرار الجبل في مكانه معلوماً لله انتفاؤه، صح تعليق الأمر المرادِ تعذُر وقوعُه عليه بقطع النظر عن دليل الانتفاء، فلذلك لم يكن في هذا التعليق حجَة لأهل السنة على المعتزلة تقتضي أن رؤية الله تعالى جائزة عليه تعالى، خلافاً لما اعتاد كثيرٌ من علمائنا من الاحتجاج بذلك.
...وقوله: {فسوف تراني} ليس بوعد بالرؤية على الفرض لأن سُبق قوله: {لن تراني} أزال طماعية السائل الرؤية، ولكنه إيذان بأن المقصود من نظرِه إلى الجبل أن يرى رأي اليقين عجزَ القوة البشرية عن رؤية الله تعالى بالأحرى، من عدم ثبات قوة الجبل، فصارت قوة الكلام: أن الجبل لا يستقر مكانه من التجلي الذي يحصل عليه فلست أنت بالذي تراني، لأنك لا تستطيع ذلك، فمنزلة الشرط هنا منزلة الشرط الامتناعي الحاصل بحرف (لو) بدلالة قرينة السابِق.
والتجلي حقيقة الظهور وإزالة الحجاب، وهو هنا مجاز، ولعله أريد به إزالة الحوائِل المعتادة التي جعلها الله حجاباً بين الموجودات الأرضية وبين قوى الجبروت التي استأثر الله تعالى بتصريفها على مقاديرَ مضبوطة ومتدرجة في عوالم مترتبة ترتيباً يعلمه الله.
وتقريبُه للإفهام شبيه بما اصطلح عليه الحكماء في ترتيب العقول العشرة، وتلك القوى تنسب إلى الله تعالى لكونها آثاراً لقدرته بدون واسطة، فإذا أزال الله الحجاب المعتاد بين شيء من الأجسام الأرضية وبين شيء من تلك القوى المؤثرة تأثيراً خارقاً للعادة اتصلت القوة بالجسم اتصالاً تظهرُ له آثار مناسبة لنوع تلك القوة، فتلك الإزالة هي التي استعير لها التجلي المسندُ إلى الله تعالى تقريباً للإفهام، فلما اتصلت قوة ربانية بالجبل تُماثل اتصال الرؤية اندّك الجبل، ومما يقرب هذا المعنى، ما رواه الترمذي وغيره، من طرق عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قوله تعالى: {فلما تجلى ربه} فوضع إبهامه قريباً من طرف خنصره يُقلل مقدار التجلي.
وصَعِق موسى من اندكاك الجبل فعلم موسى أنه لو توجه ذلك التجلي إليه لانتثر جسمه فُضاضاً.
والصعق: وصف بمعنى المصعوق، ومعناه المغشي عليه من صيحة ونحوها، مشتق من اسم الصاعقة وهي القطعة النارية التي تبلغ إلى الأرض من كهرباء البرق، فإذا أصابت جسماً أحرقته، وإذا أصابت الحيوان من قريب أماتته، أو من بعيد غُشي عليه من رائحتها، وسُمي خويلدُ بن نُفيْل الصِعقَ عَلماً عليه بالغلبة، وإنما رجحنا أن الوصف والمصدر مشتقان من اسم الصاعقة دون أن نجعل الصاعقة مشتقاً من الصعق؛ لأن أيمة اللغة قالوا: إن الصعْق الغشيُ من صيحة ونحوها، ولكن توسعوا في إطلاق هذا الوصف على من غشي عليه بسبب هدة أو رجَة، وإن لم يكن ذلك من الصاعقة.
والإفاقة: رجوع الإدراك بعد زواله بغشْي، أو نوم، أو سُكر، أو تخبط جنون.
و {سبحانك} مصدر جاء عوضاً عن فعله أي أسبحك، وهو هنا إنشاء ثناء على الله وتنزيه عما لا يليق به، لمناسبة سؤاله منه مَا تبين له أنه لا يليق به سؤالهُ دون استيذانه وتحققِ إمكانه كما قال تعالى لنوح: {فلا تسألني ما ليس لك به علم} في سورة هود (46).
وقوله: {تبت إليك} إنشاء لتوبة من العود إلى مثل ذلك دون إذن من الله، وهذا كقول نوح عليه السلام: {رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم} [هود: 47] وصيغة الماضي من قوله: {تُبت} مستعملة في الإنشاء فهي مستعملة في زمن الحال مثل صيغ العقود في قولهم بعْتُ وزَوّجْتُ. مبالغة في تحقق العقد.
وقوله: {وأنا أول المؤمنين} أطلق {الأول} على المُبادر إلى الإيمان، وإطلاق الأول على المبادر مجاز شائع مساو للحقيقة، والمرادُ به هنا وفي نظائره الكناية عن قوة إيمانه، حتى أنه يبادر إليه حين تردد غيره فيه، فهو للمبالغة، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {ولا تكونوا أولَ كافر به} في سورة البقرة (41)، وقوله: {وأنا أول المسلمين} في سورة الأنعام (163)...