ثم أمر - تعالى - رسوله - صلى الله عليه - بقبول السلم والمصالحة ، إذا ما رغب أعداؤه في ذلك ، وكانت ظواهرهم وأفعالهم تدل على صدق نواياهم فقال - تعالى - : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ . . . عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
قوله { جَنَحُواْ } من الجنوح بمعنى الميل ، يقال : جنح فلان للشئ وإليه - يجنح - مثلث النون - جنوحاً . أى : مال إليه .
قال القرطبى : والجنح : الميل . وجنح الرجل إلى الآخر : مال إليه . ومنه قيل للأضلاع جوانح ، لأنها مالت على الحشوة - بضم الحاء وكسرها - أى : الأمعاء .
وجنحت الإِبل : إذا مالت أعناقها في السير قال ذو الرمة :
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه . . . بذكراك والعيس المراسيل جنح
وقرأ الأعمش وأبو بكر وابن محيص " للسلم " - بكسر السين - وقرأ الباقون بالفتح . وإنما قال { لَهَا } لأن السلم مؤنثة - تأنيث نقيضها وهى الحرب . . ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة .
والمعنى : عليك - أيها الرسول الكريم - أن تنكل في الحرب بأولئك الكافرين الناقضين لعهودهم في كل مرة ، وأن تهيئ ما استطعت من قوة لإِرهابهم فإن مالوا بعد ذلك إلى { لِلسَّلْمِ } أى : المسالمة والمصالحة فوافقهم ومل إليها ما دامت المصلحة في هذه المسالمة .
وقوله { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } معطوف على { فاجنح لَهَا } لقصد التثبيت وبعث الطمأنينة في قلبه .
أى : اقبل المسالمة ما دام فيها مصلحتك ، وفوض أمرك إلى الله - تعالى - ولا تخش مكرهم وكيدهم وغدرهم ، إنه - سبحانه - { هُوَ السميع } لأقوالهم { العليم } بأحوالهم ، فيجازيهم بما يستحقون ، ويرد كيدهم في نحورهم .
وعبر - سبحانه - عن جنوحهم إلى السلم بحرف { إِن } الذي يعبر به عن الشئ المشكوك في وقوعه ، للإِشارة إلى أنهم ليسوا أهلاً لاختيار المسالمة أو المصالحة لذاتها ، وإنما هم جنحوا إليها لحاجة في نفوسهم ، فعلى المؤمنين أن يكونوا دائماً على حذر منهم ، وألا يأمنوا مكرهم .
هذا وقد اختلف العلماء فيمن عنى بهذه الآية ، فمنهم من يرى أن المعنى بها أهل الكتاب ، ومنهم من يرى أن الآية عامة ، أي تشمل أهل الكتاب والمشركين . ثم اختلفوا بعد ذلك في كونها منسوخة أولاً ؟
وقد حكى ابن جرير معظم هذه الخلافات ورجح أن المقصود بهذه الآية جماعة من أهل الكتاب ، وأن الآية ليست منسوخة فقال ما ملخصه :
عن قتادة أن قوله { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا } منسوخة بقوله في سورة براءة { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } وبقوله { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً } فقد كانت هذه - أي الآية التي معنا وهى قوله - تعالى - { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ . . . } قبل براءة . كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يوادع القول إلى أجل ، فإما أن يسلموا ، وإما أن يقاتلهم ، ثم نسخ ذلك بعد براءة فقال : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } وعن عكرمة والحسن البصرى قالا : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ . . . } نسختها الآية التي في براءة وهى قوله - تعالى - { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر }
ثم قال ابن جرير : فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله من أن الآية منسوخة ، فقول لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل .
لأن قوله { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا . . } إنما عنى به بنو قريظة - كما قال مجاهد - وكانوا يهودا أهل كتاب وقد أذن الله - جل ثناؤه - للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ، ومتاركتهم الحرب ، على أخذ الجزية منهم ، وأما قوله : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } فإنما عنى به مشركي العرب من عبدة الأوثان ، الذين لا يجوز قبول الجزية منهم ، فليس في إحدى الآتين نفي حكم الأخرى ، بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه . .
هذا ما يراه ابن جرير . أما ابن كثير فقد وافقه على أن الآية ليست منسوخة ، وخالفه في أن المقصود بها بنو قريظة ، فهو يرى أن الآية عامة فقد قال - رحمه الله - :
قوله : { وَإِن جَنَحُواْ } أى : مالوا { لِلسَّلْمِ } أي المسالمة والمصالحة والمهادنة { فاجنح لَهَا } أى : فمل إليها واقبل منهم ذلك . ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر . .
وقال مجاهد : نزلت في بنى قريظة ، وهذا فيه نظر ، لأن السياق كله في موقعه بدر ، وذكرها مكتنف لها كله .
وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراسانى وعكرمة والحسن وقتادة : إن الآية منسوخة بآية السيف في براءة ، وهى قوله - تعالى - { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وفيه نظر أيضاً ، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك ، فأما إذا كان العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة { وَإِن جَنَحُواْ } وكما فعل النبى - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية ، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص . .
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن كثير أرجح ، لأن الآية الكريمة تقرر مبدأ عاماً في معاملة الأعداء ، وهو أنه من الجائز مهادنتهم ومسالمتهم ما دام ذلك في مصلحة المسلمين .
ولعل هذا هو ما قصده صاحب الكشاف بقوله عند تفسير الآية - " والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإِمام صلاح الإِسلام وأهله من حرب أو سلم . وليس يحتم أن يقاتلوا أبداً . أو يجابوا إلى الهدنة أبداً " .
يقول تعالى : إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء ، فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم ، { وَإِنْ جَنَحُوا } أي : مالوا { لِلسَّلْمِ } أي : المسالمة والمصالحة والمهادنة ، { فَاجْنَحْ لَهَا } أي : فمل إليها ، واقبل منهم ذلك ؛ ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين ؛ أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا فضيل بن سليمان - يعني : النميري - حدثنا محمد بن أبي يحيى ، عن إياس بن عمرو الأسلمي ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه سيكون بعدى اختلاف - أو : أمر - فإن استطعت أن يكون السلم ، فافعل " {[13126]}
وقال مجاهد : نزلت في بني قريظة .
وهذا فيه نظر ؛ لأن السياق كله في وقعة بدر ، وذكرها مكتنف لهذا كله .
وقول ابن عباس ، ومجاهد ، وزيد بن أسلم ، وعطاء الخراساني ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في " براءة " : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية [ التوبة : 29 ] فيه نظر أيضًا ؛ لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك ، فأما إذا كان العدو كثيفًا ، فإنه تجوز مهادنتهم ، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص ، والله أعلم .
وقوله : { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي : صالحهم وتوكل على الله ، فإن الله كافيك وناصرك ،
وقوله تعالى : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } الآية ، الضمير في { جنحوا } هو للذين نبذ إليهم على سواء ، وجنح الرجل إلى الأمر إذا مال إليه وأعطى يده فيه ، ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحشوة{[5450]} وللخباء جناح وجنحت الإبل إذا مالت أعناقها في السير وقال ذو الرمة :
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه*** بذكراك والعيس المراسيل جنح{[5451]}
وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه{[5452]} على الأرض ومنه قول النابغة : [ الطويل ]
جوانح قد أيقنَّ أن قبيله*** إذا ما التقى الجمعان أول غالب{[5453]}
أي موائل ، وقال لبيد : [ الوافر ]
جنوح الهالكيِّ على يديه*** مكبّاً يجتلي نُقَبَ النصال{[5454]}
وقرأ جمهور الناس «للسَّلم » بفتح السين وشدها وقرأ عاصم في رواية بكر «للسِّلم » بكسرها وشدها هما لغتان في المسالمة ، ويقال أيضاً «السَّلَم » بفتح السين واللام ولا أحفظها قراءة ، وقرأ جمهور الناس «فاجنَح » بفتح النون وهي لغة تميم ، وقرأ الأشهب العقيلي «فاجنُح » وهي لغة قيس بضم النون ، قال أبو الفتح وهذه القراءة هي القياس ، لأن فعل إذا كان غير متعد فمستقبله{[5455]} يفعل بضم العين أقيس قعد يقعد أقيس من جلس يجلس ، وعاد الضمير في { لها } مؤنثاً إذ السلم بمعنى المسالمة والهدنة ، وقيل السلم مؤنثة كالحرب ذكره النحاس ، وقال أبو حاتم يذكر السلم ، وقال قتادة والحسن بن أبي الحسن وعكرمة وابن زيد : هذه الآية منسوخة بآيات القتال في براءة{[5456]} .
قال القاضي أبو محمد : وقد يحتمل ألا يترتب نسخها بأن يعني بهذه من تجوز مصالحته وتبقى تلك في براءة في عبدة الأوثان وإلى هذا ذهب الطبري وما قالته الجماعة صحيح أيضاً إذا كان الجنوح إلى سلم العرب مستقراً في صدر الإسلام فنسخت ذلك آية براءة ونبذت إليهم عهودهم ، وروي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون }{[5457]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول بعيد من أن يقوله ابن عباس رضي الله عنه ، لأن الآيتين مبينتان ، وقوله { وتوكل على الله } أمر في ضمنه وعد .
انتقال من بيان أحوال معاملة العدوّ في الحرب : من وفائهم بالعهد ، وخيانتهم ، وكيف يحلّ المسلمون العهد معهم إن خافوا خيانتهم ، ومعاملتهم إذا ظفروا بالخائنين ، والأمر بالاستعداد لهم ؛ إلى بيان أحكام السلم إن طلبوا السلم والمهادنة ، وكفّوا عن حالة الحرب . فأمر الله المسلمين بأن لا يأنفوا من السلم وأن يوافقوا من سأله منهم .
والجنوح : المَيْل ، وهو مشتقّ من جناح الطائِر : لأنّ الطائِر إذا أراد النزول مال بأحد جناحيه ، وهو جناح جانبه الذي ينزل منه ، قال النابغة يصف الطير تتبع الجيش :
قد أيقنَّ أنّ قبيلَه *** إذا ما التقى الجمعان أوَّلُ غالب
فمعنى { وإن جنحوا للسلم } إن مالوا إلى السلم ميل القاصد إليه ، كما يميل الطائِر الجانح . وإنّما لم يقل : وإن طلبوا السلم فأجبهم إليهم ، للتنبيه على أنّه لا يسعفهم إلى السلم حتى يعلم أن حالهم حال الراغب ، لأنّهم قد يظهرون الميل إلى السلم كيداً ، فهذا مقابل قوله : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } [ الأنفال : 58 ] فإن نبذ العهد نبذ لحال السلم .
واللام في قوله : { للسلم } واقعة موقع ( إلى ) لتقوية التنبيه على أنّ ميلهم إلى السلم ميل حق ، أي : وإن مالوا لأجل السلم ورغبة فيه لا لغرض آخر غيره ، لأنّ حقّ { جَنح } أن يعدّى ب ( إلى ) لأنّه بمعنى مال الذي يعدّى بإلى فلا تكون تعديته باللام إلاّ لغرض ، وفي « الكشّاف » : أنّه يقال جنح له وإليه .
والسلم بفتح السين وكسرها ضدّ الحرب . وقرأه الجمهور بالفتح ، وقرأه حمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلَف بكسر السين وحقّ لفظه التذكير ، ولكنّه يؤنّث حملاً على ضدّه الحرب وقد ورد مؤنّثاً في كلامهم كثيراً .
والأمر بالتوكّل على الله ، بعد الأمر بالجنوح إلى السلم ، ليكون النبي صلى الله عليه وسلم معتمداً في جميع شأنه على الله تعالى ، ومفوّضاً إليه تسيير أموره ، لتكون مدّة السلم مدّة تقوّ واستعداد ، وليكفيه الله شرّ عدوّه إذا نقضوا العهد ، ولذلك عُقب الأمر بالتوكّل بتذكيره بأنّ الله السميع العليم ، أي السميع لكلامهم في العهد ، العليمُ بضمائرهم ، فهو يعاملهم على ما يعلم منهم . وقوله : { فاجنح لها } جيء بفعل { اجنح } لمشاكلة قوله { جنحوا . . . } .
وطريق القصر في قوله : { هو السميع العليم } أفاد قصر معنى الكمال في السمع والعلم ، أي : فهو سميع منهم ما لا تسمع ويعلم ما لا تعلم . وقصر هذين الوصفين بهذا المعنى على الله تعالى عقب الأمر بالتوكل عليه يفضي إلى الأمر بقصر التوكّل عليه لا على غيره . وفي الجمع بين الأمر بقصر التوكل عليه وبين الأمر بإعداد ما استطاع من القوة للعدوّ : دليل بَيِّن على أنّ التوكّل أمر غير تعاطي أسباب الأشياء ، فتعاطي الأسباب فيما هي من مقدور الناس ، والتوكّل فيما يخرج عن ذلك .
واعلم أنّ ضمير جمع الغائبين في قوله : { وإن جنحوا للسلم } وقع في هذه الآية عقب ذكر طوائف في الآيات قبلَها ، منهم مشركون في قوله تعالى : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } [ الأنفال : 48 ] ، ومنهم من قيل : إنّهم من أهل الكتاب ، ومنهم من تردّدت فيهم أقوال المفسّرين : قيل : هم من أهل الكتاب ، وقيل : هم من المشركين ، وذلك قوله : { إن شر الدوآب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم } [ الأنفال : 55 ، 56 ] الآية . قيل : هم قريظة والنضير وبنو قينقاع ، وقيل : هم من المشركين ، فاحتمل أن يكون ضمير { جنحوا } عائداً إلى المشركين . أو عائداً إلى أهل الكتاب ، أو عائداً إلى الفريقين كليهما .
فقيل : عاد ضمير الغيبة في قوله : { وإن جنحوا للسلم } إلى المشركين ، قاله قتادة ، وعكرمة ، والحسن ، وجابر بن زيد ، ورواه عطاء عن ابن عبّاس ، وقيل : عاد إلى أهل الكتاب ، قاله مجاهد .
فالذين قالوا : إنّ الضمير عائِد إلى المشركين ، قالوا : كان هذا في أوّل الأمر حين قلّة المسلمين ، ثم نسخ بآية سورة براءة ( 5 ) { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } الآية . ومن قالوا الضمير عائد إلى أهل الكتاب قالوا هذا حكم باق ، والجنوح إلى السلم إمّا بإعطاء الجزية أو بالموادعة .
والوجه أن يعود الضمير إلى صنفي الكفار : من مشركين وأهل الكتاب ، إذ وقع قبله ذكر الذين كفروا في قوله : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } [ الأنفال : 55 ] فالمشركون من العرب لا يقبل منهم إلاّ الإسلام بعد نزول آية براءة ، فهي مخصّصة العمومَ الذي في ضمير { جنحوا } أو مبيّنة إجمالَه ، وليست من النسخ في شيء . قال أبو بكر بن العربي : « أما من قال إنها منسوخة بقوله : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] فدعوى ، فإنّ شروط النسخ معدومة فيها كما بيّنّاه في موضعه » .
وهؤلاء قد انقضى أمرهم . وأمّا المشركون من غيرهم ، والمجوس ، وأهل الكتاب ، فيجري أمر المهادنة معهم على حسب حال قوّة المسلمين ومصالحهم وأنّ الجمع بين الآيتين أوْلى : فإن دَعَوا إلى السلم قبل منهم ، إذا كان فيه مصلحة للمسلمين . قال ابن العربي : فإذا كان المسلمون في قوّة ومنعة وعدّة :
فلاَ صلح حتى تُطعَن الخيل بالقنا *** وتضربَ بالبيض الرقاقِ الجماجمُ
وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يجلب به أو ضرّ يندفع بسببه فلا بأس أن يبتدىء المسلمون به إذا احتاجوا إليه ، وأن يجيبوا إذا دُعوا إليه . قد صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهلَ خيبر ، ووادع الضمري ، وصالح أكيد رَدُومة ، وأهلَ نجران ، وهادن قريشاً لعشرة أعوام حتى نَقضوا عهده » .
أمّا ما همّ به النبي صلى الله عليه وسلم من مصالحة عُيَينة بن حصن ، ومن معه ، على أن يعطيهم نصف ثِمار المدينة فذلك قدْ عدَل عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قال سعد بن عبادة ، وسعد بن مُعاذ ، في جماعةِ الأنصار : لا نعطيهم إلاّ السيف .
فهذا الأمر بقبول المهادنة من المشركين اقتضاه حال المسلمين وحاجتهم إلى استجمام أمورهم وتجديد قوتهم ، ثم نسخ ذلك ، بالأمر بقتالهم المشركين حتى يؤمنوا ، في آيات السيف . قال قتادة وعِكرمة : نَسختْ براءة كلّ مواعدة وبقي حكم التخيير بالنسبة لمن عدا مشركي العرب على حسب مصلحة المسلمين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإما تخافنّ من قوم خيانة وغدرا، فانبذ إليهم على سواء وآذنهم بالحرب. "وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فاجْنَحْ لَهَا": وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحرب، إما بالدخول في الإسلام، وإما بإعطاء الجزية، وإما بموادعة، ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح "فاجْنَحْ لَهَا "يقول: فمل إليها، وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألوكه...
وأما قوله: "وَتَوَكّلْ على اللّهِ" يقول: فوّض إلى الله يا محمد أمرك، واستكفه واثقا به أنه يكفيك...وقوله: "إنّهُ هُوَ السّمِيِعُ العَلِيمُ" يعني بذلك: إن الله الذي تتوكل عليه سميع لما تقول أنت، ومن تسالمه وتتاركه الحرب من أعداء الله وأعدائك عند عقد السلم بينك وبينه، ويشرط كل فريق منكم على صاحبه من الشروط، والعليم بما يضمره كلّ فريق منكم للفريق الآخر من الوفاء بما عاقده عليه، ومن المضمِر ذلك منكم في قلبه والمنطوي على خلافه لصاحبه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يقول: لا يمنعك عن الصلح معهم ما كان منهم من النقض ونكث العهود (وتوكل على الله) ولا تخف خيانتهم ونقضهم العهد فإن الله يطلعك، ويكفيك على ذلك. والوجه فيه ما ذكرنا أن الإمام إذا رأى الصلح والموادعة نصرا للمسلمين أجابهم إلى ذلك، وصالحهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بعث الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالرحمة والشفقة على الخلْق، وبمسالمة الكفار رَجَاء أن يُؤمِنوا في المُسْتَأنف فإِنْ أَبَوْا فليس يخرج أَحدٌ عن قبضة العِزَّة. {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} في الحالين فإنه يختار لك ما فيه الخيرة، فيوفِّقُك لِمَا فيه الأَوْلى، ويختار لك ما فيه من قِسمي الأمر -في الحربِ وفي الصُّلحِ- ما هو الأعلى.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} ولا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم، فإنّ الله كافيك وعاصمك من مكرهم وخديعتهم. قال مجاهد، يريد قريظة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} الآية، الضمير في {جنحوا} هو للذين نبذ إليهم على سواء، وجنح الرجل إلى الأمر إذا مال إليه وأعطى يده فيه، ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحشوة وللخباء جناح وجنحت الإبل إذا مالت أعناقها في السير...
أما قوله تعالى: {وتوكل على الله} فالمعنى فوض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله ليكون عونا لك على السلامة، ولكي ينصرك عليهم إذا نقضوا العهد وعدلوا عن الوفاء، ولذلك قال: {إنه هو السميع العليم} تنبيها بذلك على الزجر عن نقض الصلح، لأنه عالم بما يضمره العباد، وسامع لما يقولون قال مجاهد الآية نزلت في قريظة والنضير. وورودها فيهم لا يمنع من إجرائها على ظاهر عمومها. والله أعلم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ولما كان السلم هو المقصود الأول كما أفاد مفهوم الآية السابقة، أكده بمنطوق الآية اللاحقة، فقال جلت حكمته، وسبقت رحمته: {وإن جنحوا إلى السلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم}. قرأ الجمهور السلم بفتح السين وأبو بكر بكسرها وهما لغتان. وهي كالسلام والصلح ضد الحرب، والإسلام دين السلم والسلام {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} [البقرة:208] ولفظ السلم مؤنث كمقابله [الحرب] وبعض العرب يذكرهما. وجنح للشيء وإليه مال أو هو خاص بالميل إلى أحد الجناحين أي الجانبين المتقابلين كجناحي الطير والإنسان والسفينة والعسكر وقالوا أجنحت الشمس للغروب أي مالت إلى جانب الغرب الذي تغيب في أفقه وهو مقابل لجانب الشرق الذي تطلع منه، ولا يقال جنحت للشرق لأننا لا نراها قبل شروقها مائلة إلى جانب غير الذي انقلبت عنه، ولكن يقال جنح الليل بمعنى مال للذهاب وللمجيء. والمعنى: وإن مالوا عن جانب الحرب إلى جانب السلم خلافا للمعهود منهم في حال قوتهم، فاجنح لها أيها الرسول لأنك أولى بالسلم منهم. وعبر عن جنوحهم ب (إنْ) التي يعبر بها عن المشكوك في وقوعه أو ما من شأنه ألا يقع للإشارة إلى أنهم ليسوا أهلا لاختياره لذاته وأنه لا يؤمن أن يكون جنوحهم إليه كيدا وخداعا ولذلك قال:
{وتوكل على الله إنه هو السميع العليم} اقبل منهم السلم وفوض أمرك إلى الله تعالى، فلا تخف كيدهم ومكرهم وتوسلهم بالصلح إلى العذر، كما فعلوا بنقض العهد، إنه عز وجل هو السميع لما يقولون، العليم بما يفعلون، فلا يخفى عليه ما يخفى عليك من ائتمارهم وتشاورهم، ولا من كيدهم وخداعهم.
قيل إن الآية خاصة بأهل الكتاب لأنها نزلت في بني قريظة الذين نقضوا العهد كما تقدم في أول هذا السياق وإن نظر فيه ابن كثير محتجا بأن السورة كلها نزلت في وقعة بدر، وتقدم أنها من أنباء الغيب، ويرد التخصيص قبوله صلوات الله وسلامه عليه الصلح من المشركين في الحديبية وترك الحرب إلى مدة عشر سنين مع ما اشترطوا فيه من الشروط الثقيلة التي كرهها جميع الصحابة رضوان الله عليهم وكادت تكون فتنة، وقيل إنها عامة ولكنها نسخت بآية السيف في سورة المائدة، لأن مشركي العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام، وروي القول بنسخها عن ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة. نقله ابن كثير وتعقبه بقوله: وفيه نظر أيضا لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك فأما إذا كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص والله أعلم. اه.
وقد يقال في الجواب أيضا إن المشركين لم يثبت أنهم جنحوا إلى السلم وأباه عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بل أجابهم إليه في الحديبية كما تقدم آنفا ثم ظلوا يقاتلونه إلى ما بعد فتح مكة عاصمة دينهم ودنياهم كما فعلوا في الطائف، إلى أن ذهبت ريحهم، وخضدت شوكة زعمائهم، وصار سائر العرب يدخلون في دين الله أفواجا، وتم ما أراد الله من إسلام أهل جزيرة العرب إلا قليلا من أهل الكتاب، لأجل أن يكون مهد الإسلام حصنا ومأرزا للإسلام.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ْ} أي: أجبهم إلى ما طلبوا متوكلا على ربك، فإن في ذلك فوائد كثيرة. منها: أن طلب العافية مطلوب كل وقت، فإذا كانوا هم المبتدئين في ذلك، كان أولى لإجابتهم. ومنها: أن في ذلك إجماما لقواكم، واستعدادا منكم لقتالهم في وقت آخر، إن احتيج لذلك. ومنها: أنكم إذا أصلحتم وأمن بعضكم بعضا، وتمكن كل من معرفة ما عليه الآخر، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه،. فكل من له عقل وبصيرة إذا كان معه إنصاف فلا بد أن يؤثره على غيره من الأديان، لحسنه في أوامره ونواهيه، وحسنه في معاملته للخلق والعدل فيهم، وأنه لا جور فيه ولا ظلم بوجه، فحينئذ يكثر الراغبون فيه والمتبعون له،. فصار هذا السلم عونا للمسلمين على الكافرين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح، تعبير لطيف، يلقي ظل الدعة الرقيق. فهي حركة جناح يميل إلى جانب السلم، ويرخي ريشه في وداعة! كما أن الأمر بالجنوح إلى السلم مصحوب بالتوكل على الله السميع العليم الذي يسمع ما يقال ويعلم ما وراءه من مخبآت السرائر. وفي التوكل عليه الكفاية والأمان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والأمر بالتوكّل على الله، بعد الأمر بالجنوح إلى السلم، ليكون النبي صلى الله عليه وسلم معتمداً في جميع شأنه على الله تعالى، ومفوّضاً إليه تسيير أموره، لتكون مدّة السلم مدّة تقوّ واستعداد، وليكفيه الله شرّ عدوّه إذا نقضوا العهد.
وطريق القصر في قوله: {هو السميع العليم} أفاد قصر معنى الكمال في السمع والعلم، أي: فهو سميع منهم ما لا تسمع ويعلم ما لا تعلم. وقصر هذين الوصفين بهذا المعنى على الله تعالى عقب الأمر بالتوكل عليه يفضي إلى الأمر بقصر التوكّل عليه لا على غيره. وفي الجمع بين الأمر بقصر التوكل عليه وبين الأمر بإعداد ما استطاع من القوة للعدوّ: دليل بَيِّن على أنّ التوكّل أمر غير تعاطي أسباب الأشياء، فتعاطي الأسباب فيما هي من مقدور الناس، والتوكّل فيما يخرج عن ذلك.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
فالإسلام لا يريد الغلب لذات الغلب، فليست فروسية، إنما يريد دفع الأسرى وتسهيل الدعوة، وإزالة كل العقبات المانعة للدعوة، فإن كان ذلك بسلم فهو أولى بالأخذ والاتباع.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لا بد من دراسة الظروف والشروط والمعطيات على أساس الحاضر والمستقبل، لئلا تكون المسألة مسألة استغفالٍ وخديعةٍ، تتخذ من السلام ستاراً تختفي خلفه، وتستعد من خلاله لهجمةٍ مستقبليّةٍ قويّةٍ، تستفيد من فرص السلام لمصلحة الحرب. فإذا أعد وليّ الأمر العدة لذلك كله، فإن له أن يطمئن لما فعل، على أساس وضوح الرؤية، ولا يلقي بالاً للتهاويل ولاحتمالات الخوف التي قد تثور في النفس، لتثير القلق والارتباك في المسيرة، بل لا بد من التوكل على الله أمام كل تهاويل الغيب الذي لا يعلمه إلا الله... وهذا هو خط التوكّل الذي يرتكز على دراسة كل ظروف الواقع ومعطياته، وكل شروط العمل ومقتضياته، وكل الوسائل الواقعية للوصول إلى الأهداف