معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡـٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ} (73)

قوله تعالى : { يا أيها الناس ضرب مثل } معنى ضرب : جعل ، كقولهم : ضرب السلطان البعث على الناس ، وضرب الجزية على أهل الذمة ، أي : جعل ذلك عليهم . ومعنى الآية : جعل لي شبه ، وشبه بي الأوثان ، أي : جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها ومعنى { فاستمعوا له } أي : فاستمعوا حالها وصفتها . ثم بين ذلك فقال : { إن الذين تدعون من دون الله } يعني : الأصنام ، قرأ يعقوب بالياء والباقون بالتاء { لن يخلقوا ذباباً } واحداً في صغره وقلته لأنها لا تقدر عليه . والذباب : واحد وجمعه القليل : أذبة ، والكثير : ذباب ، مثل غراب وأغربة ، وغربان { ولو اجتمعوا له } أي : لخلقه { وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه } قال ابن عباس : كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ، فإذا جف جاء الذباب فاستلب منه . وقال السدي : كانوا يضعون الطعام بين يدي الأصنام فتقع الذباب عليه فيأكلن منه . وقال ابن زيد : كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر ، ويطيبونها بألوان الطيب فربما تسقط منها واحدة فيأخذها طائر أو ذباب فلا تقدر اللآلهة على استردادها ، فذلك قوله : { وإن يسلبهم الذباب شيئاً } أي : وإن يسلب الذباب الأصنام شيئاً مما عليها لا يقدرون أن يستنقذوه منه ، { ضعف الطالب والمطلوب } قال ابن عباس : الطالب الذباب . يطلب ما يسلب من الطيب من الصنم ، والمطلوب الصنم يطلب الذباب منه السلب . وقيل : على العكس :الطالب الصنم و المطلوب الذباب . وقال الضحاك : الطالب العابد والمطلوب المعبود .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡـٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ} (73)

ثم وجه - سبحانه - نداء إلى الناس . بين فيه أن كل آلهة تعبد من دونه - عز وجل - فهى باطلة وهى أعجز من أن تدافع عن نفسها ، وأن كل عابد لها هو جاهل ظالم . فقال - تعالى - : { ياأيها الناس . . . } .

المثل : الشبيه والنظير ، ثم أطلق على القول السائر المعروف ، لمماثلة مضربه - وهو الذى يضرب - فيه - بمورده - وهو الذى ورد فيه أولا - ولا يكون إلا لما فيه غرابة .

وإنما تضرب الأمثال لإيضاح المعنى الخفى ، وتقريب الشىء المعقول من الشىء المحسوس ، وعرض الغائب فى صورة المشاهد ، فيكون المعنى الذى ضرب له المثل أوقع فى القلوب ، وأثبت فى النفوس .

وسمى الله - تعالى - ما ساقه فى هذه الآية الكريمة مثلا ، لأن ما يفعله المشركون من عبادتهم لآلهة عاجزة ، يشبه المثل فى غرابته وفى التعجب من فعله .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : الذى جاء به - سبحانه - ليس بمثل فكيف سماه مثلا ؟

قلت : قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملتقاة بالاستغراب مثلا ، تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة ، لكونها مستحسنة مستغربة عندهم .

والمعنى : يأيها الناس لقد بينا لكم قصة مستغربة وحالا عجيبة . لما يعبد من دون الله - تعالى - فاستمعوا إليها بتدبر وتعقل .

وقوله : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ . . } بيان للمثل وتفسير له .

والذباب : اسم جنس واحدة ذبابة - وهى حشرة معروفة بطيشها وضعفها وقذارتها .

أى : إن المعبودات الباطلة التى تعبدونها أيها المشركون ، لن تستطيع أن تخلق ذبابة واحدة ، حتى لو اشتركت جميعها فى محاولة خلق هذه الذبابة .

قال صاحب الكشاف : وهذا من أبلغ ما أنزله الله فى تجهيل قريش ، واستركاك عقولهم . والشهادة على أن الشيطان قد خزمهم بخزائمه - أى قد ربطهم برباطه ، حيث وصفوا بالإلهية - التى تقتضى الاقتدار على المقدورات كلها - صوروا وتماثيل ، يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه وأذله وأصغره وأحقره ، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا . . .

وقوله - سبحانه - { وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } بيان لعجز تلك الآلهة الباطلة من أمر آخر سوى الخلق .

أى : وفضلا عن عجز تلك الأصنام مجتمعة عن خلق ذبابة ، فإنها إذا اختطف الذباب منها شيئا من الأشياء لا تستطيع استرداده منه لعجزها عن ذلك .

قال القرطبى : وخص الذباب لأربعة أمور تخصه : لمهانته وضعفه ، ولاستقذاره وكثرته ، فإذا كان هذا الذى هو أضعف الحيوان وأحقره ، لا يقدر من عبدوه من دون الله - تعالى - على خلق مثله ، ودفع أذيته ، فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين ، وأربابا مطاعين ، وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على عجز الخاطف والمخطوف منه فقال : { ضَعُفَ الطالب والمطلوب } .

قال الآلوسى : والطالب : عابد غير الله - تعالى - والمطلوب : الالهة ، وكون عابد ذلك طالب لدعائه إياه ، واعتقاده نفعه ، وضعفه لطلبه النفع من غير جهته ، وكون الآخر مطلوبا ظاهرا كضعفه .

وقيل : " الطالب الذباب يطلب ما يسلبه من الآلهة ، والمطلوب : الآلهة على معنى المطلوب منه ما يسلب . . " .

وعلى آية حال فإن هذا التعليل يدل دلالة واضحة على عجز كل معبود باطل ، وأنه قد تساوى فى عجزه مع أضعف مخلوقات الله وأحقرها .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡـٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ} (73)

يقول تعالى منبها على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ } أي : لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به ، { فَاسْتَمِعُوا لَهُ } أي : أنصتوا وتفهموا ، { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } أي : لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك . كما قال الإمام أحمد .

حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شَرِيك ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زُرْعة ، عن أبي هريرة - رفع الحديث - قال : " ومن أظلم ممن خلق [ خلقا ]{[20415]} كخلقي ؟ فليخلقوا مثل خلقي ذَرّة ، أو ذبابة ، أو حَبَّة " {[20416]} .

وأخرجه صاحبا الصحيح ، من طريق عُمَارة ، عن أبي زُرْعةَ ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله عز وجل : " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ؟ فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة " {[20417]} .

ثم قال تعالى أيضا : { وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ } أي : هم عاجزون عن خلق ذباب واحد ، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه ، لو سلبها شيئًا من الذي عليها من الطيب ، ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك . هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها ولهذا [ قال : { ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } ] {[20418]} .

قال ابن عباس : الطالب : الصنم ، والمطلوب : الذباب . واختاره ابن جرير ، وهو ظاهر السياق . وقال السدي وغيره : الطالب : العابد ، والمطلوب : الصنم .


[20415]:- زيادة من ت ، ف ، والمسند.
[20416]:- المسند (2/391).
[20417]:- صحيح البخاري برقم (5953) وصحيح مسلم برقم (2111).
[20418]:- زيادة ، ت ، ف.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡـٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ} (73)

الخطاب بقوله { يا أيها الناس } قيل هو خطاب يعم العالم ، وقيل هو خطاب للمؤمنين حينئذ الذين أراد الله تعالى أن يبين عندهم خطأ الكافرين ولا شك أن المخاطب هم ولكنه خطاب يعم جميع الناس .

متى نظره أحد في عبادة الأوثان توجه له الخطاب واختلف المتأولون في فاعل ، { ضرب } ، من هو فقالت فرقة : المعنى { ضرب } أهل الكفر مثلاً لله أصنامهم وأوثانهم{[8434]} فاستمعوا أنتم أيها الناس لأمر هذه الآلهة ، وقالت فرقة : { ضرب } الله مثلاً لهذه الأصنام وهو كذا وكذا ، فالمثال والمثل في القول الأول هي الأصنام والذي جعل له المثال الله تعالى ، والمثال في التأويل الثاني هو في الذباب وأمره والذي جعل له هي الأصنام ، ومعنى { ضرب } أثبت وألزم وهذا كقوله { ضربت عليهم الذلة }{[8435]} [ آل عمران : 112 ] ، وكقولك ضربت الجزية ، وضرب البعث ، ويحتمل أن يكون «ضرب المثل » من الضريب الذي هو المثل ومن قولك هذا ضرب هذا فكأنه قال مثل مثل ، وقرأت فرقة «يدعون » بالياء من تحت والضمير للكفار ، وقرأت فرقة «يُدعون » بضم بالياء وفتح والعين{[8436]} على ما لم يسم فاعله والضمير للأصنام ، وبدأ تعالى ينفي الخلق والاختراع عنهم من حيث هي صفة ثابتة له مختصة به ، فكأنه قال ليس لهم صفتي ثم ثنى بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز ، وذكر تعالى أمر سلب الذباب لأنه كان كثيراً محسوساً عند العرب ، وذلك أنهم كانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك{[8437]} وكانوا متألمين من هذه الجهة فجعلت مثلاً ، و «الذباب » جمعه أذبة في القليل وذبان في الكثير كغراب وأغربة وغربان ولا يقال ذبابات إلا في الديون لا في الحيوان{[8438]} ، واختلف المتأولون في قوله تعالى ، { ضعف الطالب والمطلوب } ، فقالت فرقة أراد ب { الطالب } الأصنام وب { المطلوب } الذباب ، أي أنهم ينبغي أن يكونوا طالبين لما يسلب من طيبهم على معهود الأنفة من الحيوان ، وقالت فرقة معناه ضعف الكفار في طلبهم الصواب والفضيلة من جهة الأصنام ، وضعف الأصنام في إعطاء ذلك وإنالته ع ويحتمل أن يريد { ضعف الطالب } وهو الذباب في استلابه ما على الأصنام وضعف الأصنام في أن لا منفعة لهم وعلى كل قول ، فدل ضعف الذباب الذي هو محسوس مجمع عليه وضعف الأصنام عن هذا المجمع على ضعفه على أن الأصنام في أحط رتبة وأخس منزلة .


[8434]:يعني أن الكفار جعلوا لله مثلا حين عبدوا غيره، فكأنه قال: جعلوا لي شبيها في عبادتي، فاستمعوا خبر هذا الشبه، وليس ثم مثل، وهذا هو قول الأخفش.
[8435]:من الآية (61) من سورة (البقرة)، وتكررت في الآية (112) من سورة (آل عمران).
[8436]:القراءة الأولى قراءة الحسن، ويعقوب، وهارون، والخفاف، ومحبوب عن أبي عمرو، والثانية قراءة اليماني، وموسى الأسواري، أما قراءة الجمهور فهي بالتاء مع البناء للفاعل.
[8437]:يعني أن الذباب يأكل هذا الطيب ويذهب به من على الأصنام.
[8438]:يريد بالذيول الأطراف والنهايات؛ إذ ذباب السيف حد طرفه الذي يضرب به، والذباب من أذن الإنسان والفرس: ما حد من طرفها، فهذا ونحوه يقال يه: ذبابات، ولا يقال ذلك في الحيوان المعروف.