قوله تعالى : { فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً } وهم قوم لوط ، والحاصب : الريح التي تحمل الحصب وهي الحصا الصغار ، { ومنهم من أخذته الصيحة } يعني ثمود ، { ومنهم من خسفنا به الأرض } يعني قارون وأصحابه ، { ومنهم من أغرقنا } يعني : قوم نوح ، وفرعون وقومه . { وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون* }
ثم ختم - سبحانه - الحديث عن هؤلاء المكذبين ، ببيان سنة من سننه التى لا تتخلف ، فقال : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } .
أى : فكلا من هؤلاء المذكورين كقوم نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وهود وصالح ، وكقارون وفرعون وهامان وأمثالهم : كلا من هؤلاء الظالمين أخذناه وأهلكناه بسبب ذنوبه التى اصر عليها دون أن يرجع عنها .
{ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } أى : فمن هؤلاء الكافرين من أهلكناه ، بأن أرسلنا عليه ريحا شديدة رمته بالحصباء فأهلكته .
قال القرطبى : قوله : { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } يعنى قوم لوط . والحاصب ريح يأتى بالحصباء ، وهى الحصى الصغار . وتستعمل فى كل عذاب .
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة } كما حدث لقوم صالح وقوم شعيب - عليهما السلام - .
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض } وهو قارون .
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } كما فعلنا مع قوم نوح ومع فرعون وقومه .
{ وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } أى : وما كان الله - تعالى - مريدا لظلمهم ، لأنه - سبحانه - اقتضت رمته وحكمته ، أن لا يعذب أحدا بدون ذنب ارتكبه .
{ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أى : ما ظلم الله - تعالى - هؤلاء المهلكين ، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم ، وعرضوها للدمار ، بسبب إصرارهم على كفرهم ، واتباعهم للهوى والشيطان .
وبذلك نرى الآيات قد قصت على الناس مصارع الغاربين ، الذين كذبوا الرسل ، وحاربوا دعوة الحق ، ليكون فى هذا القصص عبرة للمعتبرين ، وذكرى للمتذكرين .
{ فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } أي : كانت عقوبته بما يناسبه ، { فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا } ، وهم عاد ، وذلك أنهم قالوا : مَنْ أشدُّ منا قوة ؟ فجاءتهم ريح صرصر باردة شديدة البرد ، عاتية شديدة الهبوب جدا ، تحمل عليهم حصباء الأرض فتقلبها عليهم ، وتقتلعهم من الأرض فترفع الرجل منهم إلى عَنَان السماء ، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه فيبقى بدنًا بلا رأس ، كأنهم أعجاز نخل منقعر{[22584]} . { وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ } ، وهم ثمود ، قامت عليهم الحجة وظهرت لهم{[22585]} الدلالة ، من تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة ، مثل ما سألوا سواء بسواء ، ومع هذا ما آمنوا بل استمروا على طغيانهم وكفرهم ، وتهددوا نبي الله صالحا ومَنْ آمن معه ، وتوعَّدوهُم بأن يخرجوهم ويرجموهم ، فجاءتهم صيحة أخمدت الأصوات منهم والحركات . { وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ } ، وهو قارون الذي طغى وبغى وعتا ، وعصى الرب الأعلى ، ومشى في الأرض مرحًا ، وفرح ومرح وتاه بنفسه ، واعتقد أنه أفضل من غيره ، واختال في مشيته ، فخسف الله به وبداره الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة . { وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } ، وهم{[22586]} فرعون ووزيره هامان ، وجنوده عن آخرهم ، أغرقوا في صبيحة واحدة ، فلم ينج منهم مخبر ، { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } أي : فيما فعل بهم ، { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي : إنما فعل ذلك بهم جزاء وفاقا بما كسبت أيديهم .
وهذا الذي ذكرناه ظاهر سياق الآية ، وهو من باب اللف والنشر ، وهو أنه ذكر الأمم المكذبة ، ثم قال : { فَكُلا{[22587]} أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } [ الآية ]{[22588]} ، أي : من هؤلاء المذكورين ، وإنما نبهتُ على هذا لأنه قد روي أن ابن جريج قال : قال{[22589]} ابن عباس في قوله : { فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا } ، قال : قوم لوط . { وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } ، قال : قوم نوح .
وهذا{[22590]} منقطع عن ابن عباس ؛ فإن ابن جُرْيَج لم يدركه . ثم قد ذكر في هذه السورة إهلاك قوم نوح بالطوفان ، وقوم لوط بإنزال الرجز من السماء ، وطال السياقُ والفصلُ بين ذلك وبين هذا السياق .
وقال قتادة : { فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا } قال : قوم لوط ، { وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ } ، قوم شعيب . وهذا بعيد أيضا لما تقدم ، والله أعلم .
والذين أرسل عليهم الحاصب قال ابن عباس : هم قوم لوط .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويشبه أن يدخل قوم عاد في «الحاصب » لأن تلك الريح لا بد أنها كانت تحصبهم بأمور مؤذية ، و «الحاصب » هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمى بشيء ومنه قول الفرزدق :
مستقبلين شمال الشام تضربنا *** بحاصب كنديف القطن منثور{[1]}
ترمي العضاة بحاصب من ثلجها . . . حتى يبيت على العضاة جفالا{[2]}
مستقبلين شمال الشام تضربهم . . . بحاصب كنديف القطن منثور
والذين أخذتهم { الصيحة } قوم ثمود ، قاله ابن عباس وقال قتادة : هم قوم شعيب ، و «الخسف » كان بقارون ، قاله ابن عباس .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويشبه أن يكون أصحاب الرجفة في هذا النوع من العذاب ، والغرق كان في قوم نوح ، وبه فسر ابن عباس وفي فرعون وحزبه ، وبه فسر قتادة ، وظلمهم أنفسهم كان بالكفر ووضع العبادة في غير موضعها وقدم المفعول على { يظلمون } للاهتمام وهذا نحو { إياك نعبد }{[3]} [ الفاتحة : 5 ] وغيره ، وحكى الطبري عن قتادة أن رجفة قوم شعيب كان صيحة أرجفتهم على هذا مع ثمود .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.