قوله تعالى : { يؤتي الحكمة من يشاء } . قال السدي : هي النبوة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة : علم القرآن ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله ، وقال الضحاك : القرآن والفهم فيه ، وقال : في القرآن مائة وتسع آيات ناسخة ومنسوخة وألف آية حلال وحرام ، لا يسع المؤمنين تركهن حتى يتعلموهن ، ولا يكونوا كأهل النهروان ، تأولوا آيات من القرآن في أهل القبلة ، وإنما أنزلت في أهل الكتاب ، جهلوا علمها فسفكوا بها الدماء ، وانتهبوا الأموال وشهدوا علينا بالضلالة ، فعليكم بعلم القرآن ، فإنه من علم فيم أنزل الله لم يختلف في شيء منه . وقال مجاهد : هي القرآن والعلم والفقه .
وروى ابن أبي نجيح عنه : الإصابة في القول والفعل ، وقال إبراهيم النخعي : معرفة معاني الأشياء وفهمها .
قوله تعالى : { ومن يؤت الحكمة } . من في محل الرفع على ما لم يسم فاعله ، والحكمة خبره ، وقرأ يعقوب : ( يؤت الحكمة ) بكسر التاء أي من يؤته الله الحكمة ، دليله قراءة الأعمش ، ( ومن يؤته الله ) حكي عن الحسن ( ومن يؤت الحكمة ) قال : الورع في دين الله .
قوله تعالى : { فقد أوتي خيراً كثيراً } . قال الحسن : كمن أعطي القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لم يوح إليه .
ثم قال - تعالى - : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } .
قال الإِمام الرازي : " اعلم أنه - تعالى - لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء ، وأن الرحمن يعد بالمغفرة والفضل نبه على أن الأمر الذي أوجب لأجله ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخيال والوهم .
ولا شك أن حكم الحكمة والعقل هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل ، وحكم الشهوة والنفس يوقع الإنسان في البلاء ، فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول ، فهذا هو وجه النظم " .
و { الْحِكْمَةَ } مشتقة من حكم بمعنى منع ، لأنها تمنع صاحبها من الوقوع في الخطأ والضلال ومنه سميت الحديدة التي في اللجام وتجعل في فم الفرس وحكمة لأنها تمنعه من الجموح . أو هي في الأصل مصدر من الإِحكام وهو الإِتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها .
والحكمة بالنسبة للإِنسان صفة نفسية هي أساس المعرفة السليمة التي توافق الحق ، وتوجه الإِنسان نحو عمل الخير ، وتمنعه من عمل الشر ، فهي فيه مانعة ضابطة تسير به نحو الكمال والاستقامة .
وللعلماء في المراد بها في الآية الكريمة أقوال كثيرة أرجحها أن المراد بها إصابة الحق في القول والعمل ، أو هي العلم النافع الذي يكون معه العمل به .
والمعنى : أن الله - تعالى - الفاعل لكل شيء يؤت الحكمة لمن يشاء من عباده { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } لأن الإِنسان إذا أوتي الحكمة يكون قد اهتدى إلى العلم النافع ، وإلى العمل الصالح الموافق لما علمه ، وإلى الإِيمان بالحق وإلى الاستجابة لكل خير والابتعاد عن كل شر ، وبذل كيكون سعيداً في دنياه وأخراه .
وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا حسد - أي لا غبطة - إلا في اثنتين : رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله - تعالى - الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " .
ثم قال - تعالى - : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } .
والألباب جمع لب وهو في الأصل خلاصة الشيء وقلبه ، وأطلق هنا على عقل الإِنسان لأنه أنفع شيء فيه .
والمراد بأولى الألباب هنا أصحاب العقول السليمة التي تخلصت من شوائب الهوى ، ودوافع الشر ، فقد جرت عادة القرآن ألا يستعمل هذا التعبير إلا مع أصحاب العقول المستقيمة .
أي : وما يتعظ بهذه التوجيهات القرآنية ، وينتفع بثمارها إلا أصحاب العقول الراجحة والنفوس الصافية التي اهتدت إلى الحق وعملت به ، والتي أنفقت في سبيل الله أجود الأموال وأطيبها لا أصحاب العقول الفاسدة التي استحوذ عليها الشيطان فأنساها ذكر الله ، والتي ترى أن البخل بالمال هو الحكمة ، وأن الإِنفاق في سبيل الله هو نوع من الإِسراف والتبذير .
فالجملة الكريمة تذييل قصد به مدح أولئك المؤمنين الصادقين ، الذين استجابوا لتوجيهات دينهم ، فأصابوا الحق في أقوالهم وأعمالهم .
وقوله : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله .
وروى جُوَيْبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس مرفوعًا : الحكمة : القرآن{[4479]} . يعني : تفسيره ، قال ابن عباس : فإنه [ قد ]{[4480]} قرأه البر والفاجر . رواه ابن مَرْدُويه .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : يعني بالحكمة : الإصابة في القول .
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء } ليست بالنبوة ، ولكنه العلم والفقه والقرآن .
وقال أبو العالية : الحكمة خشية الله ، فإن خشية الله رأس كل حكمة .
وقد روى ابن مَرْدُويه ، من طريق بقية ، عن عثمان بن زُفَر الجُهَني ، عن أبي عمار الأسدي ، عن ابن مسعود مرفوعًا : " رأس الحكمة مخافة الله " {[4481]} .
وقال أبو العالية في رواية عنه : الحكمة : الكتاب والفهم . وقال إبراهيم النخَعي : الحكمة : الفهم . وقال أبو مالك : الحكمة : السنة . وقال ابن وهب ، عن مالك ، قال زيد بن أسلم : الحكمة : العقل . قال مالك : وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله ، وأمْرٌ يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله ، ومما يبين ذلك ، أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا ذا نظر فيها ، وتجد آخر ضعيفًا في أمر دنياه ، عالمًا بأمر دينه ، بصيرًا به ، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا ، فالحكمة : الفقه في دين الله .
وقال السدي : الحكمة : النبوة .
والصحيح أن الحكمة - كما قاله الجمهور - لا تختص بالنبوة ، بل هي أعم منها ، وأعلاها النبوة ، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبَع ، كما جاء في بعض الأحاديث : " من حفظ القرآن فقد أدْرِجَت النبوة بين كتفيه{[4482]} غير أنه لا يوحى إليه " {[4483]} . رواه{[4484]} وَكِيع بن الجراح في تفسيره ، عن إسماعيل بن رافع{[4485]} عن رجل لم يسمه ، عن عبد الله بن عمر {[4486]} وقوله .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ويزيد{[4487]} قالا حدثنا إسماعيل - يعني ابن أبي خالد - عن قيس - وهو ابن أبي حازم - عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلَّطه على هَلَكته في الحق ، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها " {[4488]} .
وهكذا رواه البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجة - من طرق متعددة - عن إسماعيل بن أبي خالد ، به{[4489]} .
وقوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ } أي : وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام .
{ يؤتي الحكمة } تحقيق العلم وإتقان العلم . { من يشاء } مفعول أول أخر للاهتمام بالمفعول الثاني { ومن يؤت الحكمة } بناؤه للمفعول لأنه المقصود . وقرأ يعقوب بالكسر أي ومن يؤته الله الحكمة . { فقد أوتي خيرا كثيرا } أي : خير كثير ؟ إذ حيز له خير الدارين . { وما يذكر } وما يتعظ بما قص من الآيات ، أو ما يتفكر ، فإن المتفكر كالمتذكر لما أودع الله في قلبه من العلوم بالقوة . { إلا أولو الألباب } ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم والركون إلى متابعة الهوى .