غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (269)

267

ثم نبه على الأمر الذي لأجله يحصل ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان وهو الحكمة والعقل ، فإن وعد الشيطان إنما ترجحه الشهوة والنفس . عن مقاتل : إن تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه : أحدها : مواعظ القرآن

{ وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به }[ البقرة : 231 ] وثانيها الحكمة بمعنى الفهم { وآتيناه الحكم صبياً }[ مريم : 12 ] { ولقد آتينا لقمان الحكمة }[ لقمان : 12 ] وثالثها الحكمة بمعنى النبوة { وآتاه الله الملك والحكمة }[ البقرة : 251 ] ورابعها القرآن بما فيه من الأسرار { يؤتي الحكمة من يشاء } وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم . فتأمل يا مسكين شرف العلم فإن الله تعالى سماه الخير الكثير { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } والتنكير للتعظيم . وسمى الدنيا بأسرها قليلاً { قل متاع الدنيا قليل } وذلك أن الدنيا متناهية العدد ، متناهية المقدار ، متناهية المدة والعلوم ، لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها والسعادات الحاصلة منها . واعلم أن كمال الإنسان في شيئين : أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به . فمرجع الأول إلى العلم والإدراك المطلق ، ومرجع الثاني إلى فعل العدل والصواب ، ولذلك سأل إبراهيم صلى الله عليه وسلم { رب هب لي حكماً }[ الشعراء : 83 ] وهو الحكمة النظرية ، { وألحقني بالصالحين }[ الشعراء : 83 ] وهو الحكمة العملية . ونودي موسى عليه السلام { إني أنا الله لا إله إلا أنا } وهو الحكمة النظرية ثم قال :{ فاعبدني }[ طه : 14 ] وهو العملية . وحكي عن عيسى عليه السلام أنه { قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت }[ مريم : 30 ، 31 ] وكلها النظرية { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً }

[ مريم : 31 ، 32 ] وجميعها العملية . وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم :

{ فاعلم أنه لا إله إلا الله }[ محمد : 19 ] وهو النظرية ثم قال { واستغفر لذنبك }

[ محمد : 19 ] وهو العملية . وقال في حق جميع الأنبياء { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا }[ النحل : 2 ] وأنه الحكمة العلمية ثم قال{ فاتقون }[ النحل : 2 ] وهو الحكمة العملية . فعلم من هذه الآيات وأمثالها أن كمال حال الإنسان في هاتين القوتين . والحكمة فعلة من الحكم كالنحلة من النحل . ورجل حكيم إذا كان ذا حجا ولب وإصابة رأي ، فعيل بمعنى فاعل ويجيء بمعنى مفعول { فيها يفرق كل أمر حكيم }[ الدخان : 4 ] أي محكم . وفي الآية دليل على أن جميع العلوم النظرية والأخلاق المرضية إنما هي بإيتاء الله تعالى . والذين حملوا الإيتاء على التوفيق والإعانة كالمعتزلة ما زادوا إلا أن وسعوا الدائرة إذ لا بد من الانتهاء إليه أية سلكوا { وما يذكر إلا أولوا الألباب } الذين إذا حصل لهم الحكم والمعارف لم يقفوا عند المسببات ، فلم ينسبوا هذه الأحوال إلى أنفسهم بل يرقون إلى أسبابها حتى يصلوا إلى السبب الأول . وأما المعتزلة فإنهم لما فسروا الحكمة بقوة الفهم ووضع الدلائل قالوا : هذه الحكمة لا تفيد بنفسها وإنما ينتفع بها المرء إذا تدبر وتذكر فعرف ماله وما عليه ، وعند ذلك يقدم أو يحجم .

/خ274