البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (269)

{ يؤتي الحكمة من يشاء } قرأ الربيع بن خيثم بالتاء في : تؤتي ، وفي : تشاء ، على الخطاب ، وهو التفات إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ، والحكمة : القرآن ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد ، والضحاك ، ومقاتل في آخرين .

وقال ابن عباس فيما رواه عنه علي بن طلحة : معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدّمه ومؤخره .

وقال ، فيما رواه عنه أبو صالح : النبوّة ، وقاله السدي .

وقال إبراهيم ، وأبو العالية ، وقتادة : الفهم في القرآن .

وقال مجاهد فيما رواه عنه ليث : العلم والفقه ؛ وقال فيما رواه عنه ابن نجيح : الإصابة في القول والفعل ، وقاله مجاهد .

وقال الحسن : الورع في دين الله ، وقال الربيع بن أنس : الخشية ، وقال ابن زيد ، وأبوه زيد بن أسلم : العقل في أمر الله .

وقال شريك : الفهم .

وقال ابن قتيبة : العلم والعمل ، لا يسمى حكيماً حتى يجمعهما .

وقال مجاهد أيضاً : الكتابة .

وقال ابن المقفع : ما يشهد العقل بصحته ، وقال القشيري ، وقال فيما روى عنه ابن القاسم : التفكر في أمر الله والاتباع له ، وقال أيضاً : طاعة الله والفقه والدين والعمل به .

وقال عطاء : المغفرة .

وقال أبو عثمان : نور يفرق به بين الوسواس والمقام .

ووجدت في نسخة : والإلهام بدل المقام .

وقال القاسم بن محمد : أن يحكم عليك خاطر الحق دون شهوتك .

وقال بندار بن الحسين : سرعة الجواب مع إصابة الصواب .

وقال المفضل : الردّ إلى الصواب .

وقال الكتاني : ما تسكن إليه الأرواح .

وقيل إشارة بلا علة ، وقيل : إشهاد الحق على جميع الأحوال .

وقيل : صلاح الدين وإصلاح الدنيا .

وقيل : العلم اللدني .

وقيل : تجريد السر لورود الإلهام .

وقيل : التفكر في الله تعالى ، والاتباع له .

وقيل : مجموع ما تقدّم ذكره : فهذه تسع وعشرون مقالة لأهل العلم في تفسير الحكمة .

قال ابن عطية ، وقد ذكر جملة من الأقوال في تفسير الحكمة ما نصه : وهذه الأقوال كلها ، ما عدا قول السدي ، قريب بعضها من بعض ، لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في عمل أو قول ، وكتاب الله حكمة ، وسنة نبيه حكمة ، وكل ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس .

انتهى كلامه .

وقد تقدّم تفسير الحكمة في قوله : { ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم } فكان يغني عن إعادة تفسيرها هنا ، إلاَّ أنه ذكرت هنا أقاويل لم يذكرها المفسرون هناك ، فلذلك فسرت هنا .

{ ومن يؤت الحكمة } قرأ الجمهور مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو ضمير : من ، وهو المفعول الأول : ليؤت .

وقرأ يعقوب : ومن يؤت ، بكسر التاء مبنياً للفاعل .

قال الزمخشري : بمعنى ومن يؤته الله . انتهى .

فإن أراد تفسير المعنى فهو صحيح ، وإن أراد تفسير الإعراب فليس كذلك ، ليس في يؤت ضمير نصب حذف ، بل مفعوله مقدّم بفعل الشرط ، كما تقول : أياً تعط درهماً أعطه درهماً .

وقرأ الأعمش : ومن يؤته الحكمة ، بإثبات الضمير الذي هو المفعول الأول : ليؤت ، والفاعل في هذه القراءة ضمير مستكن في : يؤت ، عائد على الله تعالى .

وكرر ذكر الحكمة ولم يضمرها لكونها في جملة أخرى ، وللاعتناء بها ، والتنبيه على شرفها وفضلها وخصالها .

{ فقد أوتي خيراً كثيراً } هذا جواب الشرط ، والفعل الماضي المصحوب : بقد ، الواقع جواباً للشرط في الظاهر قد يكون ماضي اللفظ ، مستقبل المعنى . كهذا . فهو الجواب حقيقة ، وقد يكون ماضي اللفظ والمعنى ، كقوله تعالى { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } فتكذيب الرسل واقع فيما مضى من الزمان ، وإذا كان كذلك فلا يمكن أن يكون جواب الشرط ، لأن الشرط مستقبل ، وما ترتب على المستقبل مستقبل ، فالجواب في الحقيقة إنما هو محذوف ، ودل هذا عليه ، التقدير : وإن يكذبوك فتسلّ ، فقد كذبت رسل من قبلك ، فحالك مع قومك كحالهم مع قومهم .

قال الزمخشري : وخيراً كثيراً ، تنكير تعظيم ، كأنه قال : فقد أوتي أيّ خير كثير . انتهى .

وهذا الذي ذكره يستدعي أن في لسان العرب تنكير تعظيم ، ويحتاج إلى الدليل على ثبوته وتقديره ، أي خير كثير ، إنما هو على أن يجعل خير صفة لخير محذوف ، أي : فقد أوتي خيراً ، أي خير كثير .

ويحتاج إلى إثبات مثل هذا التركيب من لسان العرب ، وذلك أن المحفوظ أنه إذا وصف بأي ، فإنما تضاف للفظ مثل الموصوف ، تقول : مررت برجل أي رجل كما قال الشاعر :

دعوت امرأً ، أيّ امرىء ، فأجابني***

وكنت وإياه ملاذاً وموئلا

وإذا تقرر هذا ، فهل يجوز وصف ما يضاف إليه ؟ أي : إذا كانت صفة ، فتقول : مررت برجل أيّ رجل كريم ، أو لا يجوز ؟ يحتاج جواب ذلك إلى دليل سمعي ، وأيضاً ففي تقديره : أي خير كثير ، حذف الموصوف وإقامة أي الصفة مقامه ، ولا يجوز ذلك إلاَّ في ندور ، لا تقول : رأيت أي رجل ، تريد رجلاً ، أي رجل إلاّ في ندور .

نحو قول الشاعر :

إذا حارب الحجاج أيَّ منافق***

علاه بسيف كلما هُزَّ يقطع

يريد : منافقاً ، أي منافق ، وأيضاً : ففي تقديره : خيراً كثيراً أيّ كثير ، حذف أي الصفة ، وإقامة المضاف إليه مقامها ، وقد حذف الموصوف به ، أي : فاجتمع حذف الموصوف به وحذف الصفة ، وهذا كله يحتاج في إثباته إلى دليل .

{ وما يذكر إلاًَّ أولوا الألباب } .

أصله : يتذكر ، فأدغم التاء في الذال ، و : أولو الألباب ، هم أصحاب العقول السليمة ، وفي هذا حث على العمل بطاعة الله ، والامتثال لما أمر به من الإنفاق ، ونهى عنه من التصدّق بالخبيث ، وتحذير من وعد الشيطان وأمره ، ووثوق بوعد الله ، وتنبيه على أن الحكمة هي العقل المميز به بين الحق والباطل ، وذكر التذكر لما قد يعرض للعاقل من الغفلة في بعض الأحيان ، ثم يتذكر ما به صلاح دينه ودنياه فيعمل عليه .