اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (269)

قال السَّدِّي : هي النبوة{[4596]} .

وقال ابن عباس ، وقتادة : علم القرآن : ناسخه ، ومنسوخه ، ومحكمه ، ومتشابهه ، ومقدّمه ، ومؤخره ، وحلاله ، وحرامه ، وأمثاله{[4597]} .

قال الضحاك : في القرآن مائةٌ وتسع آياتٍ ، ناسخةٌ ومنسوخةٌ ، وألف آية حلالٌ وحرامٌ ، لا يسع المؤمنين تركهن ، حتى يتعلموهنَّ ، ولا يكونوا كأهل النهروان فإنهم تأوَّلوا آيات من القرآن في أهل القبلة ، وإنما أنزلت في أهل الكتاب ، جهلوا علمها ، فسفكوا بها الدماء ، وانتهبوا الأموال ، وشهدوا علينا بالضلال ، فعليكم تعلم القرآن ؛ فإنه من علم فيما أُنزل ؛ لم يختلف في شيء منه .

وقال مجاهد : هي القرآن ، والعلم ، والفقه{[4598]} ، وروى ابن أبي نجيح عنه هي الإصابة في القول ، والفعل{[4599]} .

وقال إبراهيم النخعيُّ : هي معرفة معاني الأشياء ، وفهمها{[4600]} .

وروي عن مقاتل ، قال : تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه :

أحدها : مواعظ القرآن . قال : { وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ } [ البقرة :231 ] وفي النساء { وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [ النساء :113 ] يعني المواعظ ومثلها في آل عمران .

وثانيها : الحكمة بمعنى : الفهم ، والعلم قال { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً } [ مريم :12 ] وفي لقمان : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } [ لقمان :12 ] يعني الفهم ، والعلم ، وفي الأنعام { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ } [ الأنعام :89 ] وفي " ص " { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ } [ ص :20 ] .

وثالثها : النبوة .

ورابعها : القرآن بما فيه من عجائب الأسرار ، قال في النحل : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ }{[4601]} [ النحل :125 ] وفي هذه الآية { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } وعند التحقيق ترجع هذه الوجوه إلى العلم .

قال أبو مسلم : الحكمة : فعلةٌ من الحكم ، وهي كالنَّحلة : من النَّحل ، ورجلٌ حكيمٌ إذا كان ذا حِجًى ، ولُبٍّ ، وإصابة رأي وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل ، ويقال : أمر حكيمٌ ، أي : محكمٌ .

قوله تعالى : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ } : الجمهور على " يُؤْتِي " " وَمَنْ يُؤْتَ " بالياء فيهما ، وقرأ{[4602]} الريع بن خيثم : بالتاء على الخطاب فيهما . وهو خطابٌ للباري ؛ على الالتفات .

وقرأ الجمهور : " وَمَنْ يُؤْتَ " مبنياً للمفعول ، والقائم مقام الفاعل ضمير " مَنْ " الشرطية ، وهو المفعول الأول فتكون في محل رفع ، و " الحكمة " مفعول ثانٍ .

وقرأ{[4603]} يعقوب : " يُؤْتِ " مبنياً للفاعل ، والفاعلُ ضميرُ الله تعالى ، و " مَنْ " مفعولٌ مقدمٌ ، و " الحكمة " مفعولٌ ثانٍ ؛ كقولك : " أَيّاً يُعْطِ زيداً دِرْهماً أُعْطِه درهماً " ويدل لهذه القراءة قراءة الأعمش{[4604]} .

وقال الزمخشريُّ : بمعنى " وَمْن يُؤْتِهِ اللهُ " . قال أبو حيان : " إِن أرادَ تفسير المعنى ، فهو صحيحٌ ، وإن أراد الإعراب ، فليس كذلك ؛ إذ ليس ثمَّ ضمير نصب محذوفٌ ، بل مفعول " يُؤْتِ " من الشرطية المتقدمة " . قال شهاب الدين : ويؤيِّد تقدير الزمخشري قراءة الأعمش .

قوله : { فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } جواب الشرط ، والماضي المقترن بقد ، الواقع جواباً للشرط ، تارةً يكون ماضي اللفظ مستقبل المعنى ، كهذه الآية الكريمة ، فهو الجواب حقيقةً ، وتارةً يكون ماضي اللفظ ، والمعنى نحو : وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ } [ فاطر :4 ] فهذا ليس جواباً ، بل الجواب محذوفٌ ، أي : فتسلَّ ، فقد كذِّبت رسلٌ ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى .

والتنكير في " خَيْراً " قال الزمخشريُّ : يفيد التعظيم ، كأنه قال : فقد أُوتي [ أيَّ ] خير كَثيرٍ " . قال أبو حيَّان{[4605]} : وتقديره هكذا ، يؤدي إلى حذف الموصوف ب " أَيَّ " وإقامة الصفة مقامه ، فإنَّ التقدير : فقد أُوتِيَ خيراً أي خيرٍ كثيرٍ ، وحذف " أيَّ " الواقعة صفةً ، وإقامة المضاف إليها مقامها ، وكذلك وصف ما يضاف إليه " أيَّ " الواقعة صفةً ، نحو : مررت برجلٍ أيِّ رجلٍ كريم ، وكلُّ هذا يحتاج في إثباته إلى دليلٍ ، والمحفوظ عن العرب : أنَّ " أيّاً " الواقعة صفةً تضاف إلى ما يماثل الموصوف نحو :

ب- دَعَوْتُ امْرَأً أَيَّ امْرِئٍ فَأَجَابَنِي *** وَكُنْتُ وَإِيَّاهُ مَلاَذاً وَمَوْئِلاً{[4606]}

وقد يحذف الموصف ب " أي " ؛ كقوله : [ الطويل ]

أ- إِذَا حَارَبَ الحَجَّاجُ أَيَّ مُنَافِقٍ *** عَلاَهُ بِسَيْفٍ كُلَّما هُزَّ يَقْطَعُ{[4607]}

تقديره : منافقاً أيَّ منافقٍ ، وهذا نادرٌ ، وقد تقدم أنَّ تقدير الزمخشريِّ كذلك ، أعني كونه حذف موصوف " أيّ " كقراءة الأعمش بإثبات " ها " الضمير و " مَنْ " في قراءته مبتدأٌ ، لاشتغال الفعل بمعموله ، وعند من يجوِّز الاشتغال في أسماء الشَّرط ، والاستفهام ، يجوز في " مَنْ " النصب بإضمار فعلٍ ، وتقديره متأخراً والرفع على الابتداء ، وقد تقدم نظائر هذا .

فصل في دفع شبهة للمعتزلة

احتجُّوا بهذه الآية الكريمة على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى ؛ لأن الحكمة إن فسرناها بالعلم ، لم تكن مفسرة بالعلوم الضرورية ؛ لأنها حاصلة للبهائم ، والمجانين ، والأطفال ، وهذه الأشياء لا توصف بأنها حكمة ، فهي مفسرة بالعلوم النظرية ، وإن فسرناها بالأفعال الحسية فالأمر ظاهرٌ ، وعلى التقديرين : فيلزم أن يكون حصول العلوم النظرية ، والحسية ثابتاً من غيرهم ، وبتقدير مقدِّرٍ من غيرهم ، وذلك الغير ليس إلا الله تعالى بالاتفاق .

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة النبوة أو القرآن ، أو قوة الفهم أو الخشية ، على ما قال الرَّبيع بن أنسٍ{[4608]} ؟

فالجواب : إنَّ الدليل الذي ثبت بالتواتر أنه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء فتكون الحكمة مغايرة للنبوة والقرآن ، بل هي مفسرة : إمَّا بمعرفة حقائق الأشياء ، أو بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة ، وعلى التقديرين ، فالمقصود حاصلٌ فإن حاولت حمل الإيتاء على التوفيق ، والإعانة ، والألطاف ، قلنا : كل ما فعله من هذا الجنس في حق المؤمنين ، فقد فعل مثله في حق الكفَّار ، مع أن هذا المدح العظيم لا يتناولهم ، فعلمنا أن الحكمة المذكورة في هذه الآية شيءٌ آخر سوى فعل الألطاف .

قوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } وأصل " يَذَّكَّرُ " : يتذكر ، فأدغم .

" وأُولُوا الأَلْبَابِ " ذوو العقول ، ومعناه : أن الإنسان إذا تأمَّل ، وتدبر هذه الأشياء ، وعرف أنها لم تصل إلاَّ بإيتاء الله تعالى ، وتيسيره ، كان من أولي الألباب .


[4596]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/579) عن السدي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/616) وعزاه لعبد بن حميد عن ابن عباس.
[4597]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/576) وزاد السيوطي نسبته في "الدر المنثور" (1/616) لابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه عن ابن عباس موقوفا.
[4598]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/576).
[4599]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/577) عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/616) وعزاه لعبد بن حميد عن مجاهد.
[4600]:- ينظر: تفسير البغوي 1/257.
[4601]:- انظر: "التفسير الكبير" للفخر الرازي (7/59).
[4602]:- الذي ذكر عن الربيع أنه قرأ بالتاء في "تؤتي" و"تشاء". انظر: الشواذ 17، والبحر المحيط 2/334، والدر المصون 1/648.
[4603]:- انظر: الشواذ 17، والبحر المحيط 2/334، والدر المصون 1/648، وإتحاف فضلاء البشر 1/455.
[4604]:- انظر: الشواذ 17، والتخريجات النحوية 80، 277، والبحر المحيط 2/334، والدر المصون 1/648.
[4605]:- ينظر: البحر المحيط 2/355.
[4606]:- ينظر: الدرر 1/70، وهمع الهوامع 1/92، البحر المحيط 2/335.
[4607]:- البيت للفرزدق: ينظر ديوانه (360)، والدرر 1/71، همع الهوامع 1/93، والبحر المحيط 2/335، والدر المصون 1/649.
[4608]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي.