الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (269)

قوله تعالى : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ } : الجمهورُ على " يُؤْتِي " " ومَنْ يُؤْتَ " بالياءَ فيهما ، وقرأ الربيع بن خيثم بالتاءِ على الخطاب فيهما . وهو خطابٌ للباري على الالتفاتِ . وقرأ الجمهور : " ومن يُؤْتَ " مبنياً للمفعول ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ ضميرُ " مَنْ " الشرطيةِ ، وهو المفعولُ الأولُ ، و " الحكمةَ " مفعولٌ ثانٍ . وقرأ يعقوب : " يُؤْتِ " مبنياً للفاعل ، والفاعلُ ضميرُ الله تعالى ، و " مَنْ " مفعولٌ مقدمٌ ، و " الحكمة " مفعولٌ ثان كقولِك ؛ " يَّاً يُعْطِ زيدٌ درهماً أُعْطِه درهماً " .

وقال الزمخشري : بمعنى " ومَنْ يُؤتِهِ اللهُ " . قال الشيخ : " إن أرادَ تفسيرَ المعنى فهو صحيحٌ ، وإن أرادَ الإِعرابَ فليس كذلك ، إذ ليس ثَمَّ ضميرُ نصبٍ محذوفٌ ، بل مفعولٌ " يُؤْتِ " مَنْ الشرطيةُ المتقدمةُ . قلت : ويؤيِّدُ تقديرَ الزمخشري قراءةُ الأعمش : { ومَنْ يُؤْتِه الحكمةَ } بإثباتِ هاءِ الضمير ، و " مَنْ " في قراءتِه مبتدأٌ لاشتغالِ الفعلِ بمعمولهِ ، وعند مَنْ يجوِّزُ الاشتغالَ في أسماء الشرطِ والاستفهامِ يجُّوز في " مَنْ " النصبَ بإضمارِ فعلٍ ، ويقدِّرُه متأخراً ، والرفعُ على الابتداءِ ، وقد تقدَّم تحقيق هذهِ في غضونِ هذا الإِعرابِ .

وقوله : { أُوتِيَ } جوابُ الشرطِ ، والماضي المقترنُ بقد الواقعُ جواباً للشرطِ تارةً يكونُ ماضيَ اللفظِ مستقبلَ المعنى كهذه الآية ، فهو الجوابُ حقيقةً ، وتارةً يكونُ ماضيَ اللفظِ والمعنى نحو : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ } [ فاطر : 4 ] فهذا ليسَ جواباً ، بل الجوابُ محذوفٌ أي : فَتَسَلَّ فقد كُذِّبَتْ رسلٌ ، وسيأتي له مزيدُ بيانٍ .

والتنكيرُ في " خيراً " قال الزمخشري : " يفيدُ التعظيمَ كأنه قال : فقد أُوتِي أيَّ خيرٍ كثير " . قال الشيخ : " وتقديرُه هكذا يُؤدي إلى حَذْفِ الموصوفِ ب " أي " وإقامةِ الصفةِ مُقامَه ، فإنَّ التقديرَ : فقد أوتي خيراً أيَّ خيرٍ كثيرٍ ، وإلى حذفِ " أيَّ " الواقعةِ صفةً ، وإقامةِ المُضاف إليها مُقامَها ، وإلى وصفِ ما يُضاف إليه " أي " الواقعةُ صفةً نحو : مَرَرْتُ برجلٍ أيِّ رجلٍ كريمٍ ، وكلُّ هذا يَحْتاج إثباتُه إلى دليل ، والمحفوظُ عن العربِ أنَّ " أياً " الواقعةَ صفةً تُضاف إلى ما يُماثِلُ الموصوف نحو : " دَعَوْتُ أمرَأً أيَّ امرىءٍ ، فأجابني " وقد يُحْذَفُ الموصوفُ بأيّ كقوله :

إذا حارَب الحَجَّاجُ أيَّ منافقٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . .

تقديرُهُ : منافقاً أيَّ منافقٍ ، وهذا نادرٌ ، وقد تقدَّم أَنَّ تقديرَ الزمخشري كذلك ، أعني كونَه حَذَفَ موصوفَ أيّ . وأصلُ " يَذَّكَّرُ " : يَتَذَكَّر فَأَدْغَمَ .