قوله تعالى : { وامرأته } ، سارة بنت هاران بن أحور وهي ابنة عم إبراهيم . { قائمة } من وراء الستر تسمع كلامهم . وقيل : كانت قائمة تخدم الرسل ، وإبراهيم جالس معهم . { فضحكت } ، قال مجاهد وعكرمة : ضحكت أي : حاضت في الوقت ، تقول العرب : ضحكت الأرنب ، أي : حاضت والأكثرون على أن المراد منه الضحك المعروف . واختلفوا في سبب ضحكها ، قيل : ضحكت لزوال الخوف عنها وعن إبراهيم حين قالوا لا تخف . وقال السدي : لما قرب إبراهيم الطعام إليهم فلم يأكلوا خاف إبراهيم وظنهم لصوصا فقال لهم : ألا تأكلون ؟ قالوا : إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن ، قال إبراهيم : فإن له ثمنا ، قالوا وما ثمنه ؟ قال تذكرون اسم الله على أوله وتحمدونه على آخره ، فنظر جبريل إلى ميكائيل وقال : حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا . فلما رأى إبراهيم وسارة أيديهم لا تصل إليه ضحكت سارة ، وقالت : يا عجبا لأضيافنا إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا . وقال قتادة : ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم . وقال مقاتل و الكلبي : ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة في بيته وهو فيما بين خدمه وحشمه . وقيل : ضحكت سرورا بالبشارة . وقال ابن عباس ووهب : ضحكت تعجبا من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها . وعلى هذا القول تكون الآية على التقديم والتأخير ، تقديره : وأمرأته قائمة فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، فضحكت ، وقالت : يا ويلتي أألد وأنا عجوز ؟ . قوله تعالى : { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق } ، أي : من بعد إسحاق ، { يعقوب } ، أراد به والد الولد فبشرت أنها تعيش حتى ترى ولد ولدها قرأ ابن عامر وحمزة و حفص ويعقوب بنصب الباء ، أي : من وراء إسحاق يعقوب . وقيل : بإضمار فعل ، أي : ووهبنا له من وراء يعقوب . وقرأ الباقون بالرفع على حذف حرف الصفة . وقيل : ومن بعد إسحاق يحدث يعقوب ، فلما بشرت بالولد ضحكت فصكت وجهها ، أي : ضربت وجهها تعجبا .
ثم حكى - سبحانه - ما حدث بعد ذلك فقال : { وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } .
والمراد بامرأته - كما يقول القرطبى - " سارة بنت هاران بن ناحور ، ابن شاروع ، بن أرغو ، ابن فالغ ، وهى بنت عم إبراهيم " .
وقيامها كان لأجل قضاء مصالحها ، أو لأجل خدمة الضيوف . . . أو لغير ذلك من الأمور التى تحتاجها المرأة فى بيتها .
والمراد بالضحك هنا حقيقته . أى : فضحكت سروراً وابتهاجاً بسبب زوال الخوف عن إبراهيم ، أو بسبب علمها بأن الضيوف قد أرسلهم الله لإِهلاك قوم لوط ، أو بهما معا . . .
قال الشوكانى : والضحك هنا هو الضحك المعروف الذى يكون للتعجب والسرور كما قاله الجمهور .
وقال مجاهد وعكرمة : إنه الحيض ، ومنه قول الشاعر :
وإنى لآتى العرس عند طهورها . . . وأهجرها يوماً إذا تك ضاحكا
وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون فى كلام العرب ضحكت بمعنى ضاحت .
أى : وفى أعقاب قول الملائكة لإِبراهيم لا تخف . . . كانت امرأته قائمة لقضاء بعض حاجاتها ، فلما سمعت ذلك " ضحكت " سروراً وفرحاً لزوال خوفه { فَبَشَّرْنَاهَا } عقب ذلك بمولودها { إسحاق } كما بشرناها بأن إسحاق سيكون من نسله { يعقوب } ، فهى بشارة مضاعفة . إذ أنها تحمل فى طياتها أنها ستعيش حتى ترى ابن ابنها . . .
وقوله : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } تَنَكرهم ، { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } وذلك أن الملائكة لا همة لهم إلى الطعام ولا يشتهونه ولا يأكلونه ؛ فلهذا رأى حالهم معرضين{[14726]} عما جاءهم به ، فارغين عنه بالكلية فعند ذلك نَكرهم ، { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } .
قال السدّي : لما بعث الله الملائكة لقوم لوط{[14727]} أقبلت تمشي في صُور رجال شبان{[14728]} حتى نزلوا على إبراهيم فتضيفوه ، فلما رآهم [ إبراهيم ]{[14729]} أجَلَّهم ، { فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } فذبحه ثم شواه في الرضف{[14730]} . [ فهو الحنيذ حين شواه ]{[14731]} وأتاهم به فقعد معهم ، وقامت سارة تخدمهم{[14732]} فذلك حين يقول : " وامرأته قائمة وهو جالس " في قراءة ابن مسعود : " فلما قَربه إليهم قال ألا تأكلون قالوا : يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن . قال فإن لهذا ثمنا . قالوا{[14733]} وما ثمنه ؟ قال : تذكرون اسم الله على أوله ، وتحمدونه على آخره فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال : حُق لهذا أن يتخذه ربه خليلا " ، { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } يقول : فلما رآهم لا يأكلون فزع منهم ، وأوجس منهم خيفة ، فلما نظرت إليه{[14734]} سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم ، ضحكت وقالت : عجبا لأضيافنا هؤلاء ، [ إنا ]{[14735]} نخدمهم بأنفسنا كرامة{[14736]} لهم ، وهم لا يأكلون طعامنا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا نصر بن علي ، [ حدثنا ]{[14737]} نوح بن قيس ، عن عثمان بن مِحْصن في ضيف إبراهيم قال : كانوا أربعة : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، ورفائيل . قال نوح بن قيس : فزعم نوح بن أبي شداد أنهم لما دخلوا على إبراهيم ، فقرب إليهم العجل ، مسحه جبريل بجناحه ، فقام يدرج حتى لحق بأمه ، وأم العجل في الدار .
وقوله تعالى إخبارا عن الملائكة : { قَالُوا لا تَخَفْ [ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ ] } {[14738]} أي قالوا : لا تخف منا ، إنا ملائكة أرسلنا إلى قوم لوط لنهلكهم{[14739]} . فضحكت{[14740]} سارة استبشارًا [ منها ]{[14741]} بهلاكهم ، لكثرة فسادهم ، وغِلَظ كفرهم وعنادهم ، فلهذا جوزيت بالبشارة
وقال قتادة : ضحكت [ امرأته ]{[14742]} وعجبت [ من ]{[14743]} أن قوما يأتيهم{[14744]} العذاب وهم في غفلة [ فضحكت من ذلك وعجبت فبشرناها بإسحاق ] .
وقوله : { وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } قال العوفي ، عن ابن عباس : { فَضَحِكَتْ } أي : حاضت .
وقول محمد بن قيس : إنها إنما ضحكت من أنها ظنت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط ، وقول الكلبي إنها إنما ضحكت لما رأت من الروع بإبراهيم - ضعيفان جدا ، وإن كان ابن جرير قد رواهما بسنده إليهما ، فلا يلتفت إلى ذلك ، والله أعلم .
وقال وهب بن مُنَبِّه : إنما ضحكت لما بشرت بإسحاق . وهذا مخالف لهذا السياق ، فإن البشارة صريحة مُرتبة على .
{ فَبَشَّرْنَاهَا{[14745]} بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } أي : بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل ؛ فإن يعقوب ولد إسحاق ، كما قال في آية البقرة : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 133 ] .
ومن هاهنا استدل من استدل بهذه الآية ، على أن الذبيح إنما هو إسماعيل ، وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق ؛ لأنه وقعت البشارة به ، وأنه سيولد له يعقوب ، فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل{[14746]} صغير ، ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده . ووعد الله حق لا خُلْفَ فيه ، فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه ، فتعين أن يكون هو إسماعيل وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه ، ولله الحمد .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } .
يقول تعالى ذكره : وَامْرأتُهُ سارّة بنت هاران بن ناحور بن ساروج بن راعو بن فالغ ، وهي ابنة عم إبراهيم . قائمَةٌ قيل : كانت قائمة من وراء الستر تستمع كلام الرسل وكلام إبراهيم عليه السلام . وقيل : كانت قائمة تخدم الرسل وإبراهيم جالس مع الرسل .
وقوله : فَضَحِكَتْ اختلف أهل التأويل في معنى قوله فَضَحِكَتْ وفي السبب الذي من أجله ضحكت ، فقال بعضهم : ضحكت الضحك المعروف تعجبا من أنها وزوجها إبراهيم يخدمان ضيفانهم بأنفسهما تكرمة لهم ، وهم عن طعامهم ممسكون لا يأكلون . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : بعث الله الملائكة لتهلك قوم لوط أقبلت تمشي في صورة رجال شباب ، حتى نزلوا على إبراهيم فتضيّفوه . فلما رآهم إبراهيم أجلّهم فراغَ إلى أهله ، فجاء بعجل سمين ، فذبحه ثم شواه في الرّضْف ، فهو الحنيذ حين شواه . وأتاهم فقعد معهم ، وقامت سارَة تخدمهم ، فذلك حين يقول : وَامْرأتُهُ قائمَةٌ وهو جالس . في قراءة ابن مسعود «فلما قرّبه إليهم قال ألا تأكلون » قالوا : يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن قال : فإن لهذا ثمنا . قالوا : وما ثمنه ؟ قال : تذكرون اسم الله على أوّله وتحمدونه على آخره . فنظر جبرئيل إلى ميكائيل فقال : حقّ لهذا أن يتخذه ربه خليلاً . فَلَمّا رَأى أيْدَيهُمْ لا تَصِلُ إلَيْهِ يقول : لا يأكلون ، فزع منهم وأوجس منهم خيفة فلما نظرت إليه سارّة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم ، ضحكت وقالت : عجبا لأضيافنا هؤلاء ، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا
وقال آخرون : بل ضحكت من أن قوم لوط في غفلة وقد جاءت رسل الله لهلاكهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : لما أوجس إبراهيم خيفة في نفسه حدّثوه عند ذلك بما جاءوا فيه ، فضحكت امرأته وعجِبت من أن قوما أتاهم العذاب وهم في غفلة ، فضحكت من ذلك وعجبت ، فبشرناها بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أنه قال : ضحكت تعجبا مما فيه قوم لوط من الغفلة ومما أتاهم من العذاب .
وقال آخرون : بل ضحكت ظنا منها بهم أنهم يريدون عمل قوم لوط . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن قيس ، في قوله : وامرأتهُ قائمَةٌ فَضَحكَتْ قال : لما جاءت الملائكة ظنت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط .
وقال آخرون : بل ضحكت لِمَا رأت بزوجها إبراهيم من الرّوع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الكلبي : فضَحِكَتْ قال : ضحكت حينَ راعُوا إبراهيم مما رأت من الرّوع بإبراهيم .
وقال آخرون : بل ضحكت حين بشرت بإسحاق تعجبا من أن يكون لها ولد على كِبَر سنها وسنّ زوجها . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما أتى الملائكة إبراهيم عليه السلام فرآهم ، راعه هيئتهم وجمالهم ، فسلموا عليه ، وجلسوا إليه ، فقام فأمر بعجل سمين ، فحنذ له ، فقرّ إليهم الطعام . فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ، وسارَة وراء البيت تسمع قالوا : لا تخف إنا نبشرك بغلام حليم مبارك وبشّر به امرأته سارة ، فضحكت وعجبت كيف يكون لي ولد وأنا عجوز وهو شيخ كبير فقالوا : أتعجبين من أمر الله ؟ فإنه قادر على ما يشاء ، فقد وهبه الله لكم فأبشروا به .
وقد قال بعض من كان يتأوّل هذا التأويل : إن هذا من المقدّم الذي معناه التأخير ، وكأن معنى الكلام عنده : وامرأته قائمة ، فبشّرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، فضحكت وقالت : يا ويلتا أألد وأنا عجوز .
وقال آخرون : بل معنى قوله : «فضحكت » في هذا الموضع : فحاضت . ذكر من قال ذلك :
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن عليّ بن هارون ، عن عمرو بن الأزهر ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : فَضَحِكَتْ قال : حاضت ، وكانت ابنة بضع وتسعين سنة . قال : وكان إبراهيم ابن مئة سنة .
وقال آخرون : بل ضحكت سرورا بالأمن منهم لما قالوا لإبراهيم : لا تخف ، وذلك أنه قد كان خافهم وخافتهم أيضا كما خافهم إبراهيم فلما أمنت ضحكت ، فأتبعوها البشارة بإسحاق . وقد كان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أنه لم يسمع ضحكت بمعنى حاضت من ثقة . وذكر بعض أهل العربية من البصريين أن بعض أهل الحجاز أخبره عن بعضهم أن العرب تقول ضحكت المرأة : حاضت ، قال : وقد قال : الضحك : الحيض ، وقد قال بعضهم : الضحك : العجب ، وذكر بيت أبي ذؤيب :
فجاءَ بِمَزْجٍ لَمْ يَرَ النّاسُ مِثْلَهُ *** هُوَ الضّحْكُ إلاّ أنّهُ عَمَلُ النّحْلِ
وذكر أن بعض أصحابه أنشده في الضحك بمعنى الحيض :
وَضَحْكُ الأرَانِبِ فَوْقَ الصّفا *** كمِثْلِ دَمِ الجَوْفِ يَوْمَ اللّقا
قال : وذكر له بعض أصحابه أنه سمع للكُمَيت :
فأضْحَكَتِ الضبّاعَ سيُوفُ سَعْدٍ *** بقَتْلَى ما دُفِنّ وَلا وُدِينا
وقال : يريد الحيض . قال : وبالحرث بن كعب يقولون : ضحكت النخلة : إذا أخرجت الطلع أو البسر . وقالوا : الضحك : الطلع . قال : وسمعنا من يحكي : أضحكت حوضا : أي ملأته حتى فاض . قال : وكأنّ المعنى قريب بعضه من بعض كله ، لأنه كأنه شيء يمتلىء فيفيض .
وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بالصواب قول من قال : معنى قوله : «فضحكت » : فعجبت من غفلة قوم لوط عما قد أحاط بهم من عذاب الله وغفلته عنه .
وإنما قُلْنا هذا القول أولى بالصواب لأنه ذكر عقيب قولهم لإبراهيم : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط . فإذْ كان ذلك كذلك ، وكان لا وجه للضحك والتعجب من قولهم لإبراهيم : لا تخف ، كان الضحك والتعجب إنما هو من أمر قوم لوط .
القول في تأويل قوله تعالى : فَبَشّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } .
يقول تعالى ذكره : فبشّرنا سارة امرأة إبراهيم ثوابا منا لها على نكيرها وعجبها من فعل قوم لوط بإسحاق ولدا لها . ومِنْ وَرَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ يقول : ومن خلف إسحاق يعقوب من ابنهاإسحاق . والوراء في كلام العرب : ولد الولد ، وكذلك تأوّله أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، قال : وَمِنْ وَرَاءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ قال : الوراء : ولد الولد .
حدثنا عمرو بن عليّ محمد بن المثنى ، قال كل واحد منهما : حدثني أبو اليسع إسماعيل بن حماد بن أبي المغيرة مولى الأشعري ، قال : كنت إلى جنب جدي أبي المغيرة بن مهران في مسجد عليّ بن زيد ، فمرّ بنا الحسن بن أبي الحسن ، فقال : يا أبا المغيرة من هذا الفتى ؟ قال : ابني من ورائي ، فقال الحسن : فَبَشّرناها بإسْحاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ .
حدثنا عمرو بن عليّ محمد بن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن أبي عديّ ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، في قوله : فَبَشّرْناها بإسْحاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ قال : ولد الولد هو الوراء .
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد ، عن داود ، عن عامر ، في قوله : وَمِنْ وَرَاءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ قال : الوراء : ولد الولد .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبيّ ، مثله .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو عمرو الأزدي ، قال : سمعت الشعبيّ يقول : ولد الولد : هم الولد من الوراء .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس ومعه ابن ابنه ، فقال : من هذا معك ؟ قال : هذا ابني ، قال : هذا ولدك من الوراء . قال : فكأنه شقّ على ذلك الرجل ، فقال ابن عباس : إن الله يقول : فَبَشّرْناها بإسْحاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ فولد الولد : هم الوراء .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما ضحكت سارّة وقالت : عجبا لأضيافنا هؤلاء ، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا قال لها جبريل : أبشري بولد اسمه إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب . فضربت وجهها عجبا ، فذلك قوله : فَصكّتْ وَجْهَها وقالت : أألِدُ وأنا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلى شَيْخا إنّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أتَعْجَبينَ منْ أمْرِ اللّهِ رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أهْلَ البَيْتِ إنّهُ حَميدٌ مَجِيدٌ قالت سارّة : ما آية ذلك ؟ قال : فأخذ بيده عودا يابسا فلواه بين أصابعه ، فاهتزّ أخضر ، فقال إبراهيم : هو لله إذا ذبيحا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فضحكت يعني سارّة لما عرفت من أمر الله جلّ ثناؤه ولما تعلم من قوم لوط فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يقعوب بابن وبابن ابن ، فقالت وصكّت وجهها يقال : ضربت على جبينها : يا وَيْلَتا ءألِدُ وأنا عَجُوز . . . . إلى قوله : إنّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء العراق والحجاز : «ومِنْ وَرَاءِ إسحاقَ يَعْقُوبُ » برفع «يعقوب » ، ويعيد ابتداء الكلام بقوله . وَمِنْ وَرَاءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ . وذلك وإن كان خبرا مبتدأ ، ففيه دلالة على معنى التبشير . وقرأه بعض قراء أهل الكوفة والشأم : وَمِنْ وَرَاءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ نصبا فأما الشامي منهما فذكر أنه كان ينحو بيعقوب نحو النصب بإضمار فعل آخر مشاكل للبشارة ، كأنه قال : ووهبنا له من وراء إسحاق يعقوب ، فلما لم يظهر «وهبنا » عمل فيه التبشير وعطف به على موضع «إسحاق » ، إذ كان إسحاق وإن كان مخفوضا فإنه بمعنى المنصوب بعمل «بشرنا » فيه ، كما قال الشاعر :
جِئْنِي بِمِثْلِ بني بَدْرٍ لقَومِهِمِ *** أوْ مِثْلَ أُسْرَةِ مَنْطُورِ بنِ سَيّارِ
أوْ عامِرِ بْنِ طُفَيْلٍ في مُرَكّبهِ *** أوْ حارِثا يَوْمَ نادَى القَوْمُ يا حارِ
وأما الكوفيّ منهما فإنه قرأه بتأويل الخفض فيما ذُكِر عنه ، غير أنه نصبه لأنه لا يُجْرَى . وقد أنكر ذلك أهل العلم بالعربية من أجل دخول الصفة بين حرف العطف والاسم ، وقالوا : خَطأ أن يقال : مررت بعمرو في الدار وفي الدار زيد ، وأنت عاطف بزيد على عمرو ، إلا بتكرير الباء وإعادتها ، فإن لم تعد كان وجه الكلام عندهم الرفع وجاز النصب ، فإن قدم الاسم على الصفة جاز حينئذ الخفض ، وذلك إذا قلت : مررت بعمرو في الدار وزيد في البيت . وقد أجاز الخفض والصفة معترضة بين حرف العطف والاسم بعض نحويي البصرة .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه رفعا ، لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب ، والذي لا يتناكره أهل العلم بالعربية ، وما عليه قراءة الأمصار . فأما النصب فيه فإن له وجها ، غير أني لا أحبّ القراءة به ، لأن كتاب الله نزل بأفصح ألسن العرب ، والذي هو أولى بالعلم بالذي نزل به من الفصاحة .
{ وامرأته قائمة } وراء الستر تسمع محاورتهم أو على رؤوسهم للخدمة . { فضحكت } سرورا بزوال الخيفة أو بهلاك أهل الفساد أو بإصابة رأيها فإنها كانت تقول لإبراهيم : اضمم إليك لوطا فإني أعلم أن العذاب ينزل بهؤلاء القوم . وقيل فضحكت فحاضت قال الشاعر :
وعهدي بسلمي ضاحكاً في لُبابةٍ *** ولم يعدُ حُقَا ثديُها أن تَحلّمَا
ومنه ضحكت السمرة إذا سال صمغها وقرئ بفتح الحاء . { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } نصبه ابن عامر وحمزة وحفص بفعل يفسره ما دل عليه الكلام وتقديره : ووهبناها من وراء إسحاق يعقوب . وقيل إنه معطوف على موضع { بإسحاق } أو على لفظ { إسحاق } ، وفتحته للجر فإنه غير مصروف ورد للفصل بينه وبين ما عطف عليه بالظرف . وقرأ الباقون بالرفع على أنه مبتدأ .
وخبره الظرف أي و{ يعقوب } مولود من بعده . وقيل الوراء ولد الولد ولعله سمي به لأنه بعد الولد وعلى هذا تكون إضافته إلى { إسحاق } ليس من حيث أن يعقوب عليه الصلاة والسلام وراءه ، بل من حيث إنه وراء إبراهيم من جهته وفيه نظر . والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة كيحيى ، ويحتمل وقوعهما في الحكاية بعد أن ولدا فسميا به ، وتوجيه البشارة إليها للدلالة على أن الولد المبشر به يكون منها لا من هاجر ولأنها كانت عقيمة حريصة على الولد .
جملة { وامرأته قائمة فضحكت } في موضع الحال من ضمير { أوجس } ، لأنّ امرأة إبراهيم عليه السّلام كانت حاضرة تقدّم الطّعام إليهم ، فإن عادتهم كعادة العرب من بعدهم أنّ ربة المنزل تكون خادمة القوم . وفي الحديث « والعروس خادمهم » وقال مرّة بن محكان التميمي :
يا ربّة البيت قومي غير صاغرة *** ضُمّي إليك رجال القوم والغربا
وقد اختصرت القصة هنا اختصاراً بديعاً لوقوعها في خلال الحوار بين الرسل وإبراهيم عليهم السّلام ، وحكاية ذلك الحوار اقتضت إتمامه بحكاية قولهم : { لا تخف إنّا أرسلنا إلى قوم لوط } .
وأمّا البشرى فقد حصلت قبل أن يخبروه بأنّهم أرسلوا إلى قوم لوط كما في آية سورة [ الذاريات : 28 ] { فأوجس منهم خيفةً قالوا لا تخَف وبشّروه بغلامٍ عليمٍ } . فلمّا اقتضى ترتيب المحاورة تقديم جملة { قالوا لا تخف } حكيت قصة البشرى وما تبعها من المحاورة بطريقة الحال ، لأنّ الحال تصلح للقبْليّة وللمقارنَة وللبعدية ، وهي الحال المقدّرة .
وإنّما ضحكت امرأة إبراهيم عليه السّلام من تبشير الملائكة إبراهيم عليه السّلام بغلام ، وكان ضحكها ضحك تعجّب واستبعاد . وقد وقع في التّوراة في الإصحاح الثامن عشر من سفر التكوين « وقالوا له : أين سارة امرأتك ؟ فقال : ها هي في الخيمة . فقالوا : يكون لسارة امرأتك ابن ، وكانت سارة سامعة في باب الخيمة فضحكت سارة في باطنها قائلة : أفبالحقيقة ألِدُ وأنا قد شِخت ؟ فقال الربّ : لماذا ضحكتْ سارة ؟ فأنكرت سارة قائلة لم أضحك ، لأنّها خافت ، قال : لا بل ضحكت » .
وتفريع { فبشّرناها بإسحاق } على جملة { ضحكت } باعتبار المعطوف وهو { ومن وراء إسحاق يعقوب } لأنّها ما ضحكت إلاّ بعد أن بشّرها الملائكة بابن ، فلمّا تعجبت من ذلك بشّروها بابن الابن زيادة في البشرى . والتّعجيب بأن يولد لها ابن ويعيش وتعيش هي حتّى يولد لابنها ابن . وذلك أدخل في العجب لأن شأن أبناء الشيوخ أن يكونوا مهزولين لا يعيشون غالباً إلاّ معلولين ، ولا يولد لهم في الأكثر ولأن شأن الشيوخ الذين يولد لهم أن لا يدركوا يفع أولادهم بله أولاد أولادهم .