معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإٖ يَقِينٍ} (22)

فقال الهدهد ما أخبر الله عنه في قوله : { فمكث }قرأ عاصم ، ويعقوب ( فمكث ) بفتح الكاف ، وقرأ الآخرون : بضمها وهما لغتان{ غير بعيد } أي : غير طويل ، { فقال أحطت بما لم تحط به } والإحاطة : العلم بالشيء من جميع جهاته ، يقول : علمت ما لم تعلم ، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك ، { وجئتك من سبإ } قرأ أبو عمرو ، والبزي عن ابن كثير من سبأ و لسبأ في سورة سبأ ، مفتوحة الهمزة ، وقرأ القواس عن ابن كثير : ساكنة بلا همز ، وقرأ الآخرون بالجر ، فمن لم يجره جعله اسم البلد ، ومن جره جعله اسم رجل ، فقد جاء في الحديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ فقال : كان رجلاً له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة " . { بنبأ } بخبر ، { يقين } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإٖ يَقِينٍ} (22)

ثم يحكى القرآن بعد ذلك ما كان من الهدهد ، فقال : { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } أى فمكث الهدهد زماناً غير بعيد من تهديد سليمان له ، ثم أتاه فقال له : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } أى : علمت أشياء أنت لم تعلمها . وابتدأ كلامه بهذه الجملة التى فيها ما فيها من المفاجآت لترغيبه فى الإصغاء إليه ، ولاستمالة قلبه لقبول عذره بعد ذلك .

قال صاحب الكشاف : " ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام ، على ما أوتى من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة ، والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ، ابتلاء له فى علمه ، وتنبيهاً على أن فى أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به ، لتتحاقر إليه نفسه ، ويتصاغر إليه علمه ، ويكون لطفاً له فى ترك الإعجاب الذى هو فتنة العلماء . . " .

وقوله : { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } تفسير وتوضيح لقوله قبل ذلك : أحطت بما لم تحط به ، وسبأ فى الأصل : اسم لسبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، ثم صار بعد ذلك اسما لحى من الناس سموا باسم أبيهم ، أو صار اسما للقبيلة ، أو لمدينة تعرف بمأرب باليمن .

بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال .

وقد قرأ بعضهم هذا اللفظ بالتنوين باعتباره اسم رجل ، وقرأه آخرون بغير تنوين لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث .

أى : قال الهدهد لسليمان بادئاً حديثه بما يشير إلى قبول عذره : علمت شيئاً أنت لم تعلمه ، وجئتك من جهة قبيلة سبأ بنبأ عظيم خطير ، أنا متيقن من صدقه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإٖ يَقِينٍ} (22)

يقول تعالى : { فَمَكَثَ } الهدهد { غَيْرَ بَعِيدٍ } أي : غاب زمانًا يسيرًا ، ثم جاء فقال لسليمان : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } أي : اطلعت على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك ، { وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } أي : بخبر صدق حق يقين .

وسبأ : هم : حِمْير ، وهم ملوك اليمن .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإٖ يَقِينٍ} (22)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : فَمَكَثَ غيرَ بَعِيدٍ فمكث سليمان غير طويل من حين سأل عن الهدهد ، حتى جاء الهدهد .

واختلف القرّاء في قراءة قوله : فَمَكَثَ فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى عاصم : «فَمَكُثَ » بضمّ الكاف ، وقرأه عاصم بفتحها ، وكلتا القراءتين عندنا صواب ، لأنهما لغتان مشهورتان ، وإن كان الضمّ فيها أعجب إليّ ، لأنها أشهر اللغتين وأفصحهما .

وقوله : فَقالَ أحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ يقول : فقال الهدهد حين سأله سليمان عن تخلفه وغيبته : أحطب بعلم ما لم تحط به أنت يا سليمان . كما :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أحَطْتُ بِمَا لَمْ تحِطْ بِهِ قال : ما لم تعلم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه فمَكَثَ غيرَ بَعيدٍ ثم جاء الهدهد ، فقال له سليمان : ما خلّفك عن نوبتك ؟ قال : أحطت بما لم تحط به .

وقوله : وَجِئْتُكَ مِنْ سَبإ بِنَبإ يَقِينٍ يقول : وجئتك من سبإ بخبر يقين . وهو ما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه وَجِئْتُكَ مِنْ سَبإٍ بِنَبإٍ يَقِينٍ : أي أدركت ملكا لم يبلغه ملكك .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : مِنْ سَبإٍ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة مِنْ سَبإٍ بالإجراء . المعني أنه رجل اسمه سبأ . وقرأه بعض قرّاء أهل مكة والبصرة مِنْ سَبإٍ بترك الإجراء ، على أنه اسم قبيلة أو لامرأة .

والصواب من القول في ذلك أن يُقال : إنهما قراءتان مشهورتان ، وقد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب فالإجراء في سبأ ، وغير الإجراء صواب ، لأن سبأ إن كان رجلاً كما جاء به الأثر ، فإنه إذا أريد به اسم الرجل أُجري ، وإن أريد به اسم القبيلة لم يُجْرَ ، كما قال الشاعر في إجرائه :

الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ في ذَرَا سَبإٍ *** قَدْ عَضّ أعْناقَهُمْ جِلدُ الجَوَاميسِ

يروى : ذرا ، وذرى ، وقد حُدثت عن الفرّاء عن الرؤاسي أنه سأل أبا عمرو بن العلاء كيف لم يجر سبأ ؟ قال : لست أدري ما هو فكأن أبا عمرو ترك إجراءه ، إذ لم يدرِ ما هو ، كما تفعل العرب بالأسماء المجهولة التي لا تعرفها من ترك الإجراء . حكي عن بعضهم : هذا أبو معرورَ قد جاء ، فترك إجراءه إذ لم يعرفه في أسمائهم . وإن كان سبأ جبلاً ، أجري لأنه يُراد به الجبل بعينه ، وإن لم يجر فلأنه يجعل اسما للجبل وما حوله من البقعة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإٖ يَقِينٍ} (22)

{ فمكث غير بعيد } زمانا غير مديد يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفا منه ، وقرأ عاصم بفتح الكاف . { فقال أحطت بما لم تحط به } يعني حال سبأ ، وفي مخاطبته إياه بذلك تنبيه له على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علما بما لم يحط به لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر لديه علمه ، وقرئ بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق . { وجئتك من سبأ } وقرأ ابن كثير برواية البزي وأبو عمرو غير مصروف على تأويل القبيلة والبلدة والقواس بهمزة ساكنة . { بنبأ يقين } بخبر متحقق روي أنه عليه الصلاة والسلام لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج فوافى الحرم وأقام بها ما شاء ، ثم توجه إلى اليمن فخرج من مكة صباحا فوافى صنعاء ظهيرة فأعجبته نزاهة أرضها فنزل بها ثم لم يجد الماء -وكان الهدهد رائده لأنه يحسن طلب الماء- فتفقده لذلك فلم يجده إذ حلق حين نزل سليمان فرأى هدهدا واقعا فانحط الهي فتواصفا وطار معه لينظر ما وصف له ، ثم رجع بعد العصر وحكى ما حكى ، ولعل في عجائب قدرة الله وما خص به خاصة عباده أشياء أعظم من ذلك يستكبرها من يعرفها ويستنكرها من ينكرها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإٖ يَقِينٍ} (22)

وقرأ جمهور القراء ، «فمكُث » بضم الكاف ، وقرأ عاصم وحده «فمكَث » بفتحها ، ومعناه في القراءتين أقام ، والفتح في الكاف أحسن لأنها لغة القرآن في قوله { ماكثين }{[4]} [ الكهف : 3 ] إذ هو من مكَث بفتح الكاف ، ولو كان من مكُث بضم الكاف لكان جمع مكيث{[5]} ، والضمير في «مكث » يحتمل أن يكون لسليمان أو ل { الهدهد } ، وفي قراءة ابن مسعود «فتمكث ثم جاء فقال » وفي قراءة أبي بن كعب «فتمكث » ثم قال { أحطت } وقوله { غير بعيد } كما في مصاحف الجمهور يريد به في الزمن والمدة ، وقوله { أحطت } أي علمت علماً تاماً ليس في علمك ، واختلف القراء في { سبأ } ، فقرأ جمهور القراء «سبأ » بالصرف .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «سبأ » بفتح الهمزة وترك الصرف ، وقرأ الأعمش «من سبإ » بالكسر وترك الصرف وروى ابن حبيب عن اليزيدي «سبا » بألف ساكنة ، وقرأ قنبل عن النبال بسكون الهمزة ، فالأولى على أنه اسم رجل وعليه قول الشاعر : [ البسيط ]

الواردون وتيم في ذرى سبإ . . . قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس{[6]}

وقال الآخر : «من سبأ الحاضرين مآرب »{[7]} ، وهذا على أنها قبيلة والثانية{[8]} على أنها بلدة ، قاله الحسن وقتادة ، وكلا القولين قد قيل ، ولكن روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث فروة بن مسيك وغيره أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد تيامن منهم ستة ، وتشاءم أربعة{[9]} ، وخفي{[10]} هذا الحديث على الزجاج فخبط عشوى ، والثالثة على البناء والرابعة والخامسة لتوالي الحركات السبع فسكن تخفيفاً للتثقيل في توالي الحركات ، وهذه القراءة لا تبنى على الأولى بل هي إما على الثانية أو الثالثة .

وقرأت فرقة «بنبأ » وقرأت فرقة دون تنوين على الإضافة ، وقرأت فرقة «بنبا » بالألف مقصورة{[11]}


[4]:- هو أبو هاشم المكي الليثي، وردت الرواية عنه في حروف القرآن، يروي عن أبيه ابن عمر.
[5]:- من الآية رقم (7) من سورة آل عمران.
[6]:- رواه الترمذي وصححه، والإمام أحمد ولفظه: (الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني)، وهذا الحديث يرد على القولين معا.
[7]:- رواه الإمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، ونص الترمذي: (والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها. وإنها السبع من المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته)، وقد يكون هذا الحديث سندا لما اعتاده الناس من قراءة الفاتحة، وقد أخرج أبو الشيخ في الثواب عن عطاء قال: إذا أردت حاجة فاقرأ فاتحة الكتاب حتى تختمها تقض إن شاء الله، نقله الجلال السيوطي. وللغزالي في الانتصار ما نصه: فاستنزل ما عند ربك وخالقك من خير، واستجلب ما تؤمله من هداية وبر، بقراءة السبع المثاني المأمور بقراءتها في كل صلاة، وتكرارها في كل ركعة، وأخبر الصادق المصدوق أن ليس في التوراة ولا في الإنجيل والفرقان مثلها، قال الشيخ زروق: وفيه تنبيه بل تصريح أن يكثر منها لما فيها من الفوائد والذخائر. انتهى.
[8]:- رواه عبد الله بن حميد في مسنده، والفريابي في تفسيره عن ابن عباس بسند ضعيف.
[9]:- من الناس من يذهب إلى أن هذا من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، ومنهم الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، قال ابن عبد البر: السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام وأسلم. وحديث : (قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن) رواه الإمام مالك في الموطأ، والبخاري، والترمذي، وروى الترمذي عن أنس وابن عباس قالا: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن). ومن الناس من يؤول ذلك باعتبار المعاني التي تشتمل عليها، وقد أشار المؤلف رحمه الله إلى هذين القولين، ويشير بذلك إلى أنه لا تفاضل بين كلام الله لأنه صفة ذاتية، وإنما التفاضل في المعاني باعتبار الأجر والثواب. والله أعلم.
[10]:- رواه الإمام أحمد، والحاكم، عن أبي سعيد، وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فمن قال: سبحان الله كتبت له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر مثل ذلك. ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة) ومن تمام الحديث كما في الجامع الصغير: (وحط عنه ثلاثون خطيئة).
[11]:- في بعض النسخ (رفْع) بالراء.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإٖ يَقِينٍ} (22)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فمكث غير بعيد} يقول: لم يلبث إلا قليلا، حتى جاء الهدهد، فوقع بين يدي سليمان، عليه السلام... {فقال} لسليمان: {أحطت بما لم تحط به} يقول: علمت ما لم تعلم به {وجئتك} بأمر لم تخبرك به الجن، ولم تنصحك فيه، ولم يعمل به الإنس، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك، وجئتك {من} أرض {سبإ} باليمن {بنبإ يقين}، يقول: بحديث لا شك فيه، فقال سليمان: وما ذلك؟.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بقوله:"فَمَكَثَ غيرَ بَعِيدٍ" فمكث سليمان غير طويل من حين سأل عن الهدهد، حتى جاء الهدهد...

وقوله: "فَقالَ أحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ "يقول: فقال الهدهد حين سأله سليمان عن تخلفه وغيبته: أحطت بعلم ما لم تحط به أنت يا سليمان... وقوله: "وَجِئْتُكَ مِنْ سَبإ بِنَبإ يَقِينٍ" يقول: وجئتك من سبإ بخبر يقين...: أي أدركت ملكا لم يبلغه ملكك...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

" بنبأ يقين "أي بخبر لا شك فيه، وانه يحتاج إلى معرفته، لما فيه من الإصلاح لقوم قد تلاعب بهم الشيطان في ذلك، فعذره عند ذلك سليمان. وقيل: عذر الهدهد بما أخبره بما يحبه لما فيه من الأجر وإصلاح الملك الذي وهبه الله ثم شرح الخبر فقال:"إني وجدت امرأة تملكهم...".

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{غَيْرَ بَعِيدٍ} غير زمان بعيد، كقوله: عن قريب. ووصف مكثه بقصر المدّة للدلالة على إسراعه خوفاً من سليمان، وليعلم كيف كان الطير مسخراً له، ولبيان ما أعطي من المعجزة الدالة على نبوّته وعلى قدرة الله تعالى.

{أَحَطتُ} بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق: ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوّة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له في علمه، وتنبيهاً على أنّ في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفاً له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة، والإحاطة بالشيء علمها: أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم...

والنبأ: الخبر الذي له شأن. وقوله: {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} من جنس الكلام الذي سماه المحدّثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ، بشرط أن يجيء مطبوعاً، أو يصنعه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء ههنا زائداً على الصحة فحسن وبدع لفظاً ومعنى. ألا ترى أنه لو وضع مكان بنبإ بخبر، لكان المعنى صحيحاً، وهو كما جاء أصح، لما في النبإ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ يَقُولُ لِلْكَبِيرِ، وَالْمُتَعَلِّمُ لِلْعَالِمِ: عِنْدِي مَا لَيْسَ عِنْدَك، إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ وَتَيَقَّنَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي آدَابِ الْعِلْمِ.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{فَمَكَثَ} الهدهد {غَيْرَ بَعِيدٍ} أي: غاب زمانًا يسيرًا..وسبأ: هم: حِمْير، وهم ملوك اليمن.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{فمكث} أي فترتب على ذلك أنه مكث بعد الحلف بالتهديد زماناً قريباً {غير بعيد} من زمان التهديد، وأتى خوفاً من هيبة سليمان عليه السلام، وقياماً بما يجب عليه من الخدمة، قرأه عاصم وروح عن يعقوب بفتح الكاف على الأغلب في الأفعال الماضية، وضمه الجماعة إشارة إلى شدة الغيبة عن سليمان عليه السلام ليوافق إفهام حركة الكلمة ما أفهمه تركيب الكلام {فقال} عقب إتيانه مفخماً للشأن ومعظماً لرتبة العلم ودافعاً لما علم أنه أضمر من عقوبته: {أحطت} أي علماً {بما لم تحط به} أي أنت من اتساع علمك وامتداد ملكك، والإحاطة: العلم بالشيء من جميع جهاته، وفي هذه المكافحة التنبيه على أن أضعف الخلق قد يؤتي ما لا يصل إليه أقواهم لتتحاقر إلى العلماء علومهم ويردوا العلم في كل شيء إلى الله، وفيه إبطال لقول الرافضة: إن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه من هو أعلم منه.

ولما أبهمه تشويقاً، وأخذ بمجامع القلب إلى تعرفه، ثنى بمدح الخبر مجلياً بعض إبهامه، هزاً للنفس إلى طلب إتمامه، فقال: {وجئتك} أي الآن {من سبإ} قيل: إنه اسم رجل صار علماً لقبيلة، وقيل: أرض في بلاد اليمن... {بنبإ} أي خبر عظيم {يقين} وهو من أبدع الكلام موازنة في اللفظ ومجانسة في الخط مع ما له من الانطباع والرونق.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

{فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي علماً ومعرفة وحفظته من جميع جهاته، وابتداء كلامه بذلك لترويجه عنده عليه السلام وترغيبه في الإصغاء إلى اعتذاره واستمالة قلبه نحو قبوله فإن النفس للاعتذار المنبئ عن أمر بديع أقبل وإلى تلقي ما لا تعلمه أميل، وأيد ذلك بقوله: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} حيث فسر إبهامه السابق نوع تفسير وأراه عليه السلام أنه كان بصدد إقامة خدمة مهمة له حيث عبر عما جاء به بالنبأ الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير ووصفه بما وصفه..

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إنه يعرف حزم الملك وشدته. فهو يبدأ حديثه بمفاجأة تطغى على موضوع غيبته، وتضمن إصغاء الملك له: (أحطت بما لم تحط به، وجئتك من سبأ بنبأ يقين).. فأي ملك لا يستمع وأحد رعاياه يقول له: (أحطت بما لم تحط به)؟!

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ولكن غيبة الهدهد لم تطل (فمكث غير بعيد) عاد الهدهد وتوجه نحو سليمان: (فقال أحطت بما لم تُحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين).

وكأن الهدهد قد رأى آثار الغضب في وجه سليمان، ومن أجل أن يزيل ذلك التهجم، أخبره أوّلاً بخبر مقتضب مهم إلى درجة أن سليمان نفسه كان غير مطّلع عليه، برغم ما عنده من علم، ولما سكن الغضب عن وجه سليمان، فصّلَ الهدهد له الخبر، وسيأتي بيانه في الآيات المقبلة.

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ جنود سليمان حتى الطيور الممتثلة لأوامره كانت عدالة سليمان قد أعطتهم الحرية والأمن والدعة بحيث يكلمه الهدهد دون خوف وبصراحة لا ستار عليها فيقول: (أحطت بما لم تحط به).

فتعامل الهدهد «وعلاقته» مع سليمان لم يكن كتعامل الملأ المتملقين للجبابرة الطغاة.. إذ يتملقون في البدء مدة طويلة، ثمّ يتضرعون ويعدون أنفسهم كالذرّة أمام الطود، ثمّ يهوون على أقدام الجبابرة ويبدون حاجتهم في حالة من التضرع والتملق، ولا يستطيعون أن يصرّحوا في كلامهم أبداً، بل يكنّون كنايةً أرق من الورد لئلا يخدش قلب السلطان غبار كلامهم!!.

أجل، إنّ الهُدهد قال بصراحة: غيابي لم يكن اعتباطاً وعبثاً... بل جئتك بخبر يقين «مهم» لم تحط به!

وهذا التعبير درس كبير للجميع، إذ يمكن أن يكون موجود صغير كالهدهد يعرف موضوعاً لا يعرفه أعلم من في عصره، لئلا يكون الإنسان مغروراً بعلمه... حتى لو كان ذلك سليمان مع ما عنده من علم النبوّة الواسع.