اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإٖ يَقِينٍ} (22)

قوله : «فَمَكَثَ » قرأ عاصم بفتح الكاف ، والباقون بضمها{[38621]} ، وهما لغتان ، إلا أن الفتح أشهر ، ولذلك جاءت الصفة{[38622]} على ماكث ، دون مكيث{[38623]} ، واعتذر عنه بأن فاعلاً قد جاء لفَعُل بالضم ، نحو : حَمُضَ فهو حامض ، وخَثُر فهو خاثر ، وفَرُهَ فهو فاره .

قوله : «غَيْرَ بعِيدٍ » ، يجوز أن يكون صفة للمصدر ، أي مكثاً غير بعيد ، وللزمان أي : زماناً غير بعيد{[38624]} ، وللمكان أي : مكاناً غير بعيد{[38625]} ، والظاهر أن الضمير في مكث للهدهد{[38626]} ، وقيل : لسليمان{[38627]} - عليه السلام{[38628]} - فقال : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } ، والإحاطة : العلم بالشيء من جميع جهاته ، يقول : علمت ما لم تعلم ، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك .

قوله : «مِنْ سَبَأ » ، قرأ البزِّيّ{[38629]} ، وأبو عمرو بفتح الهمزة{[38630]} ، جعلاه اسماً للقبيلة أو البقعة ، فمنعاه من الصرف للعلمية والتأنيث ، وعليه قوله :

3946 - مِنْ سَبَأَ الحَاضِرِينَ مَأْربَ إِذْ *** يَبْنُونَ مِنْ دُون سَيْلِهِ العَرِمَا{[38631]}

وقرأ قُنْبُل بسكون الهمزة{[38632]} ، كأنه نوى الوقف وأجرى الوصل مجراه ، والباقون بالجر والتنوين{[38633]} ، جعلوه اسماً للحيِّ أو المكان ، وعليه قوله :

3947 - الوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ *** قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الجَوَامِيسِ{[38634]}

وهذا الخلاف جارٍ بعينه في سورة سبأ{[38635]} .

وفي قوله : { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } فيه من البديع التجانس ، وهو : تجنيس التصريف ، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف{[38636]} كهذه الآية ، ومثله : { تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ }{[38637]} .

وفي الحديث : «الخَيْلُ مَعْقُود بِنَواصِيهَا الخَيْرُ »{[38638]} ، وقال آخر :

3948 - لِلَّهِ مَا صَنَعَتْ بِنَا *** تِلْكَ المَعَاجِرُ وَالمَحَاجِرْ{[38639]}

وقال الزمخشري : وقوله { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } من جنس الكلام الذي سماه المحدثون{[38640]} البديع ، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعاً ، أو يصنعه عالم بجوهر هذا الكلام ، يحفظ معه صحة المعنى وسداده ، ولقد جاء هنا زائداً على الصحة ، فحسن وبدع لفظاً ومعنى ، ألا ترى أنه لو وضع مكان : «بنبأ » : «بخبر » لكان المعنى صحيحاً ، وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال{[38641]} .

يريد بالزيادة : أن النبأ أخص من الخبر ، لأنه لا يقال إلا فيما له شأن من الأخبار ، بخلاف الخبر ، فإنه يطلق على ما له شأن ، وعلى ما لا شأن له ، فكلّ نبأ خبر من غير عكس . وبعضهم يعبر عن نحو : { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } في علم البديع بالترديد ، قاله صاحب التحرير{[38642]} ، وقال غيره{[38643]} : إن الترديد عبارة عن رد أعجاز البيوت على صدورها ، أو ردّ كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني ، فمثال الأول قوله :

3949 - سَرِيعٌ إِلَى ابْنِ العَمِّ يَلْطمُ وَجْهَهُ *** وَلَيْسَ إلَى دَاعِي الخَنَا بِسَرِيعِ{[38644]}

ومثال الثاني قوله :

3950 - وَاللَّيَالِي إِذَا نَأَيْتُمْ طِوَالٌ *** واللَّيَالِي إذَا دَنَوْتُمْ قِصَارُ{[38645]}

وقرأ ابن كثير في رواية : «مِنْ سباً » مقصوراً منوناً{[38646]} ، وعنه أيضاً : «مِنْ سَبْأَ » بسكون الباء وفتح{[38647]} الهمزة{[38648]} ، جعله على فَعْل ومنعه من الصرف{[38649]} ، لما تقدم . وعن الأعمش : «من سَبَإِ » بهمزة مكسورة غير منونة{[38650]} ، وفيها إشكال ؛ إذ لا وجه للبناء ، والذي يظهر أن تنوينها لا بد وأن يقلب ميماً وصلاً ، ضرورة ملاقاته للباء ، فسمعها الراوي ؛ فظن أنه كسر من غير تنوين{[38651]} . وروي عن أبي عمرو : «مِنْ سَبَا » بالألف صريحة{[38652]} ، كقولهم : تفرقوا أيدي سبا{[38653]} . وكذلك قرئ «بِنَبَا » بألف خالصة{[38654]} ، وينبغي أن يكونا لقارئ واحد{[38655]} وسبأ في الأًصل : اسم رجل من قحطان ، واسمه : عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وسبأ لقلب له ، وإنما لقلب به : لأنه أول من سبأ{[38656]} .


[38621]:السبعة (480)، الكشف 2/155، النشر(336)، الإتحاف (335).
[38622]:يقصد اسم الفاعل من هذا الفعل.
[38623]:انظر الكشف 2/155.
[38624]:انظر البيان 2/220.
[38625]:انظر التبيان 2/1006.
[38626]:انظر البحر المحيط 7/65.
[38627]:انظر تفسير ابن عطية 11/190، القرطبي 13/180.
[38628]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[38629]:في الأصل: اليزيدي.
[38630]:السبعة (480)، الكشف 2/155، النشر (337)، الإتحاف (335).
[38631]:البيت من بحر المنسرح، قاله النابغة الجعدي، وهو في الكتاب 3/253، الكشاف 3/139، تفسير ابن عطية 11/191، الإنصاف 2/502، القرطبي 13/181، اللسان (سبأ، عرم).
[38632]:السبعة(480)، الكشف 2/155، النشر (337)، الإتحاف (335-336).
[38633]:السبعة(480)، الكشف 2/155، النشر (337)، الإتحاف (335-336).
[38634]:البيت من بحر البسيط، قاله جرير في هجاء عمرو بن لجأ التيمي، وهو في معاني القرآن للفراء 2/139، تفسير ابن عطية 11/191، أمالي ابن الشجري 2/38، 343، القرطبي 13/181، البحر المحيط 7/66 معنى: (عض أعناقهم جلد الجواميس): أن الجلود المصنوعة من جلد الجواميس قد أثرت في أعناقهم. والشاهد فيه هنا أن (سبأ) جعل اسما للحي أو المكان، ولهذا صرف.
[38635]:يشير إلى قوله تعالى: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية}[سبأ:15].
[38636]:انظر الإيضاح (396-397).
[38637]:[غافر: 75].
[38638]:أخرجه البخاري (مناقب) 2/683، مسلم (زكاة) 2/683، (إمارة) 3/1492-1493، أبو داود (جهاد) 2/933. ومالك (جهاد) 2/467، أحمد 3/39، 5/181.
[38639]:البيت من مجزوء الكامل، لم أهتد إلى قائله، وهو في البحر المحيط 7/66. المعاجر: جمع معجر: وهو غطاء الرأس من المرأة والعمامة من الرجل. والمحاجر: جمع محجر- بكسر الميم وفتحها-: ما دار بالعين وظهر من البرقع من جميع العين. والشاهد فيه قوله: (المعاجر والمحاجر) فإنه جناس تصريف لاختلاف اللفظين في حرف واحد.
[38640]:في النسختين: النحويون. والتصويب من الكشاف.
[38641]:الكشاف 3/139.
[38642]:انظر البحر المحيط 7/66، وكتاب التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير من جمع الشيخ جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان نن حسن بن حسين المقدسي، عرف بابن النقيب-رحمه الله تعالى- هو أحد مصادر أبي حيان في كتابه البحر المحيط.
[38643]:هو صاحب كتاب التفريع بفنون البديع. انظر البحر المحيط 7/66.
[38644]:البيت من بحر الطويل، قاله الأقيشر الأسدي، وهو في الإيضاح للقزويني (400)، البحر المحيط 7/66، معاهد التنصيص 2/82، الخزانة 4/488. ويروى: إلى داعي الندى. والخنا: من قبيح الكلام. والشاهد فيه رد العجز على الصدر، وهو قوله: (سريع....بسريع).
[38645]:البيت من بحر الخفيف، ولم أهتد إلى قائله، وهو في البحر المحيط 7/66.
[38646]:المختصر (109)، البحر المحيط 7/66.
[38647]:في ب: وبفتح.
[38648]:ذكره أبو معاذ. انظر المختصر (109)، البحر المحيط 7/66.
[38649]:قال أبو حيان: (بناه على فعلى فامتنع من الصرف للتأنيث اللازم) البحر المحيط 7/66.
[38650]:المختصر (109)، تفسير ابن عطية 11/191.
[38651]:قال أبو حيان: ( يصعب توجيهها) البحر المحيط 7/66.
[38652]:قال أبو حيان: (وروى ابن حبيب عن اليزيدي "من سبا" بألف ساكنة، كقولهم: تفرقوا أيدي سبا) البحر المحيط 7/66.
[38653]:مجمع الأمثال للميداني 2/4.
[38654]:انظر البحر المحيط 7/66.
[38655]:في النسختين: واحد. والصواب ما أثبته.
[38656]:انظر البحر المحيط 7/66.