فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإٖ يَقِينٍ} (22)

{ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ( 22 ) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( 23 ) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ( 24 ) }

{ فمكث } بفتح الكاف من باب نصر ، وقرئ بضم الكاف من باب قرب سيبويه : مكث مكوثا كقعد يقعد قعودا ، أي مكث الهدهد بعد تفقد سليمان إياه زمانا { غير بعيد } وقيل : إن الضمير في مكث سليمان ، والمعنى بقي سليمان بعد التفقد والتوعد زمانا غير طويل ، والأول أولى .

{ فقال : أحطت بما لم تحط به } الإحاطة : العلم بالشيء من جميع جهاته ، حتى لا يخفى عليه معلوم ، ولعل في الكلام حذفا ، والتقدير فمكث الهدهد غير بعيد ، فجاء فعوتب على مغيبه ، فقال معتذرا عن ذلك : أحطت بما لم تحط به . قال الفراء : ويقال : أحت بإدغام الطاء في التاء ، والمعنى علمت ما لم تعلمه من الأمر ، وبلغت ما لم تبلغ أنت ولا جنودك . وقال ابن عباس اطلعت على ما لم تطلع عليه .

وقد ألهم الله الهدهد هذا الكلام ، فكافح سليمان به مع ما أوتي من فضل النبوة ، والعلوم الجمة : إبتلاء له في علمه ، وتنبيها على أن أدنى جنده قد أحاط علما بما لم يحط به ليكون لطفا به في ترك الإعجاب وإنما أخفى الله على يوسف مكانها ، وكانت المسافة بينهما قريبة لمصلحة رآها ، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب . وفيه دليل على مبطلان قول الرافضة : إن الإمام لا يخفى عليه شيء ، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه .

{ وجئتك من سبأ } قرئ بالصرف على أنه اسم رجل نسب إليه قوم ، وقرئ بفتح الهمزة وترك الصرف على أنه اسم مدينة ، وأنكر الزجاج إن يكون اسم رجل ، وقال : سبأ اسم مدينة بمأرب اليمن . وقيل : هو اسم امرأة سميت بها المدينة .

قال القرطبي : والصحيح أنه اسم رجل كما في كتاب الترمذي ، من حديث فروة بن مسيك المرادي ، قال ابن عطية : وخفي على الزجاج فخبط عشواء .

وزعم الفراء أن الرؤاسي سأل عمرو بن العلاء عن سبأ فقال : ما أدري ما هو ؟ قال النحاس : وأبو عمر من أن يقول هذا ، والقول في سبأ ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل ، فإن صرفته فلأنه قد صار اسما للحي ، وإن لن تصرفه جعلته اسما للقبيلة ، مثل ثمود ، إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف ، انتهى .

وأقول : لا شك أن سبأ اسم لمدينة باليمن ، كانت فيها بلقيس ، وهو أيضا اسم رجل من قحطان ، وهو سبأ من يشحب بن يعرب بن قحطان بن هود ، ولكنه المراد هنا : أن الهدهد جاء سليمان بخبر ما عاينه في مدينة سبأ مما وصفه ، وسيأتي في المأثور ما يوضح هذا ويؤيده ، وعن ابن عباس قال : سبأ بأرض اليمن ، ويقال لها : مأرب ، بينهما وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليل والمعنى أن الهدهد جاء سلمان من هذه المدينة .

{ بنبإ يقين } النبأ : هو الخبر الخطير الشأن ، وهذا من محاسن الكلام ، ويسمى البديع ، وقد حسن وبدع لفظا ومعنى ههنا ، ألا ترى أنه لو وضع مكان بنبأ بخبر لكان المعنى صحيحا ، وهو كما جاء أصح لما في النبإ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال ،