البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإٖ يَقِينٍ} (22)

سبأ : هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وهو يصرف ولا يصرف إذا صار اسماً للحي والقبيلة ، أو البقعة التي تسمى مأرب سميت باسم الرجل .

وقرأ الجمهور : فمكث ، بضم الكاف ؛ وعاصم ، وأبو عمرو في رواية الجعفي ، وسهل ، وروح : بضمها .

وفي قراءة أبيّ : فيمكث ، ثم قال : وفي قراءة عبد الله : فيمكث ، فقال : وكلاهما في الحقيقة تفسير لا قراءة ، لمخالفة ذلك سواد المصحف ، وما روي عنهما بالنقل الثابت .

والظاهر أن الضمير في فمكث عائد على الهدهد ، أي غير زمن بعيد ، أي عن قرب .

ووصف مكثه بقصر المدة ، للدلالة على إسراعه ، خوفاً من سليمان ، وليعلم كيف كان الطير مسخراً له ، ولبيان ما أعطى من المعجزة الدالة على نبوته وعلى قدرة الله .

وقيل : وقف مكاناً غير بعيد من سليمان ، وكأنه فيما روي ، حين نزل سليمان حلق الهدهد ، فرأى هدهداً ، فانحط عليه ووصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء ، وذكر له صاحبه ملك بلقيس وعظم منه ، وذهب معه لينظر ، فما رجع إلا بعد العصر .

وقيل : الضمير في فمكث لسليمان .

وقيل : يحتمل أن يكون لسليمان وللهدهد ، وفي الكلام حذف ، فإن كان غير بعيد زماناً ، فالتقدير : فجاء سليمان ، فسأله : ما غيبك ؟ فقال : أحطت ؛ وإن كان مكاناً ، فالتقدير : فجاء فوقف مكاناً قريباً من سليمان ، فسأله : ما غيبك ؟ وكان فيما روي قد علم بما أقسم عليه سليمان ، فبادر إلى جوابه بما يسكن غيظه عليه ، وهو أن غيبته كانت لأمر عظيم عرض له ، فقال : { أحطت بما لم تحط به } ، وفي هذا جسارة من لديه علم ، لم يكن عند غيره ، وتبجحه بذلك ، وإبهام حتى تتشوف النفس إلى معرفة ذلك المبهم ما هو .

ومعنى الإحاطة هنا : أنه علم علماً ليس عند نبي الله سليمان .

قال الزمخشري : ألهم الله الهدهد ، فكافح سليمان بهذا الكلام ، على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ، ابتلاء له في علمه ، وتنبيهاً على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به سليمان ، لتتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه ، ويكون لطفاً له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء ، وأعظم بها فتنة ، والإحاطة بالشيء علماً أن يعلم من جميع جهاته ، لا يخفى منه معلوم ، قالوا : وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إن الإمام لا يخفى عليه شيء ، ولا يكون في زمانه أعلم منه . انتهى .

ولما أبهم في قوله : { بما لم تحط } ، انتقل إلى ما هو أقل منه إبهاماً ، وهو قوله : { وجئتك من سبأ بنبأ يقين } ، إذ فيه إخبار بالمكان الذي جاء منه ، وأنه له علم بخبر مستيقن له .

وقرأ الجمهور : من سبأ ، مصروفاً ، هذا وفي : { لقد كان لسبأ } وابن كثير ، وأبو عمرو : بفتح الهمزة ، غير مصروف فيهما ، وقنبل من طريق النبال : بإسكانها فيهما .

فمن صرفه جعله اسماً للحي أو الموضع أو للأب ، كما في حديث فروة بن مسيك وغيره ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد ، تيامن منهم ستة ، وتشاءم أربعة .

والستة : حمير ، وكندة ، والأزد ، وأشعر ، وخثعم ، وبجيلة ؛ والأربعة : لخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسان » وكان سبأ رجلاً من قحطان اسمه عبد شمس .

وقيل : عامر ، وسمي سبأ لأنه أول من سبا ، ومن منعه الصرف جعله اسماً للقبيلة أو البقعة ، وأنشدوا على الصرف :

الواردون وتيم في ذرى سبأ *** قد عض أعناقهم جلد الجواميس

ومن سكن الهمزة ، فلتوالي الحركات فيمن منع الصرف ، وإجراء للوصل مجرى الوقف .

وقال مكي : الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي . انتهى .

وقرأ الأعمش : من سبأ ، بكسر الهمزة من غير تنوين ، حكاها عنه ابن خالويه وابن عطية ، ويبعد توجيهها .

وقرأ ابن كثير في رواية : من سبأ ، بتنوين الباء على وزن رحى ، جعله مقصوراً مصروفاً .

وذكر أبو معاذ أنه قرأ من سبأ : بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة ، بناه على فعلى ، فامتنع الصرف للتأنيث اللازم .

وروى ابن حبيب ، عن اليزيدي : من سبأ ، بألف ساكنة ، كقولهم : تفرقوا أيدي سبا .

وقرأت فرقة : بنبأ ، بألف عوض الهمزة ، وكأنها قراءة من قرأ : لسبا ، بالألف ، لتتوازن الكلمتان ، كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمز المكسور والتنوين .

وقال في التحرير : إن هذا النوع في علم البديع يسمى بالترديد ، وفي كتاب التفريع بفنون البديع .

إن الترديد رد أعجاز البيوت على صدورها ، أو رد كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني ، ويسمى أيضاً التصدير ، فمثال الأول قوله :

سريع إلى ابن العم يجبر كسره *** وليس إلى داعي الخنا بسريع

ومثال الثاني قوله :

والليالي إذا نأيتم طوال *** والليالي إذا دنوتم قصار

وذكر أن مثل : { من سبأ بنبأ } ، يسمى تجنيس التصريف ، قال : وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف ، ومنه قوله تعالى : { ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون } ، وما ورد في الحديث : « الخيل معقود في نواصيها الخير » وقال الشاعر :

لله ما صنعت بنا *** تلك المعاجر والمحاجر

وقال الزمخشري : وقوله : { من سبأ بنبأ } ، من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع ، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ ، بشرط أن يجيء مطبوعاً ، أو بصيغة عالم بجوهر الكلام ، يحفظ معه صحة المعنى وسداده .

ولقد جاء ههنا زائداً على الصحة ، فحسن وبدع لفظاً ومعنى .

ألا ترى لو وضع مكان بنبأ بخبر لكان المعنى صحيحاً ؟ وهو كما جاء أصح ، لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال . انتهى .

والزيادة التي أشار إليها هي أن النبأ لا يكون إلا الخبر الذي له شأن ، ولفظ الخبر مطلق ، ينطلق على ما له شأن وما ليس له شأن .