فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإٖ يَقِينٍ} (22)

{ وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين20 لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين21 فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين22 إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم23 وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون24 }

وسط هذا الحشد من أصناف الجند ، توجه سليمان لتعرف أحوال الطير ، أو لمح نقصان بعضها ، فراح يتطلب حقيقة ما غاب عنه ، فقال : هل حال بيني وبين رؤية الهدهد حائل- اتهم نفسه هضما لها وتواضعا ، ومبالغة في النصفة- أم هو قد تغيب ؟ فإذا كان كذلك فلا منجا له من العقوبة الشديدة أو الذبح إلا بأن يجيئني بحجة بينة على عذره في غيبته ، [ ثم إن هذا الشق وإن قرن بحرف القسم ليس مقسما عليه في الحقيقة ، وإنما المقسم عليه حقيقة الأولان ، وأدخل هذا في سلكهما للتقابل . . . ومآل كلامه عليه السلام ! ليكونن أحد الأمور ، على معنى : إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح ، وإن لم يكن كان أحدهما ، ف{ أو } في الموضعين للترديد ]{[2848]} .

مما نقل ابن كثير : قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما عن ابن عباس وغيره : كان الهدهد مهندسا يدل سليمان عليه السلام على الماء ، إذا كان بأرض فلاة طلبه فنظر له الماء في تخوم الأرض كما يرى الإنسان الشيء الظاهر على وجه الأرض . . فنزل سليمان عليه السلام يوما بفلاة من الأرض فتفقد الطير ليرى الهدهد فلم يره{ فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين } ، حدث يوما عبد الله بن عباس بنحو هذا وفي القوم رجل من الخوارج . . فقال له : قف يا ابن عباس ! غلبت اليوم ! قال : ولم ؟ قال : إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ ويحثو على الفخ ترابا فيجيء الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ فيصيده الصبي . . . قال له : ويحك ! إنه إذا نزل القدر عمي البصر ، وذهب الحذر . . اه . [ الثانية : - في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته والمحافظة عليهم فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله ؟ ؟ فكيف بعظام الملك ؟ ! . . فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان ، وتضيع الرعية ويضيع الرعيان ؟ ! ]{[2849]} ، فلم يتأخر الهدهد إلا زمنا قريبا غير بعيد ثم مثل بين يدي سليمان عليه السلام فقال له : علمت ما لم تعلم من الأمر ، وأتيتك من بلاد سبأ باليمن بخبر عظيم ، صادق ويقين ، إني وجدتهم ملكوا امرأة منهم ، أعطيت كل ما تحتاجه المملكة ، وأجلسوها على عرش واسع ، وسرير عظيم ، ووجدتها وقومها يعبدون الكواكب ويسجدون للشمس بدلا من سجودهم لله الحق ، مبدع الخلق ، وحسن لهم الشيطان ما هم فيه من الوثنية والخبال ، فردهم عن طريق توحيد المولى ذي الجلال ، فهم لا تنشرح صدورهم لتقديس الكبير المتعال !

[ وفي الآية دليل على أن الصغير يقول للكبير ، والمتعلم للعالم : عندي ما ليس عندك : إذا تحقق ذلك وتيقنه . . . العاشرة- روى البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " قال القاضي أبو بكر بن العربي : هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة ، ولا خلاف فيه ، ونقل عن محمد بن جرير الطبرى أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ، ولم يصح ذلك عنه ، ولعله نقل عنه كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق ، ولا بأن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم ، وإنما سبيل ذلك كسبيل التحكيم والاستنابة في القضية الواحدة ، وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير . ]{[2850]}

يقول الألوسي : وفي قوله تعالى : { أحطت } الخ{[2851]} دليل بإشارة النص والإدماج على بطلان قول الرافضة : إن الإمام ينبغي أن لا يخفى عليه شيء من الجزئيات ، ولا يخفى أنهم عنوا بذلك أنه يجب أن يكون الإمام عالما على التفصيل بأحكام جميع الحوادث الجزئية التي يمكن وقوعها ، وأن يكون مستحضرا الجواب الصحيح عن كل ما يسأل عنه ، فبطلان كلامهم في غاية الظهور ، وقد سئل علي كرم الله تعالى وجهه على منبر الكوفة عن مسألة فقال : لا أدري ، فقال السائل : ليس مكانك هذا مكان من يقول لا أدري ، فقال الإمام علي كرم الله تعالى وجهه : بلى والله ! هذا مكان من يقول لا أدري ، وأما من لا يقول ذلك فلا مكان له ! يعني به الله عز وجل . . اه .


[2848]:ما بين العارضتين نقله الألوسي.
[2849]:مما أورد القرطبي.
[2850]:مما أورد القرطبي.
[2851]:هكذا أوردها، ولو أكملها أو حتى أورد[الآية] كما يفعل البعض لكان ذلك أقرب إلى تقديس ما حقه التقديس، هكذا يبدو لي، والله أعلم بالصواب.