الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإٖ يَقِينٍ} (22)

الخامسة- قوله تعالى : " فمكث غير بعيد " أي الهدهد . والجمهور من القراء على ضم الكاف ، وقرأ عاصم وحده بفتحها . ومعناه في القراءتين أقام . قال سيبويه : مكث يمكث مكوثا كما قالوا قعد يقعد قعودا . قال : ومكث مثل ظرف . قال غيره : والفتح أحسن لقوله تعالى : " ماكثين " [ الكهف : 3 ] إذ هو من مكث ، يقال : مكث يمكث فهو ماكث ، ومكث يمكث مثل عظم يعظم فهو مكيث ، مثل عظيم . ومكث يمكث فهو ماكث ، مثل حمض يحمض فهو حامض . والضمير في " مكث " يحتمل أن يكون لسليمان . والمعنى : بقي سليمان بعد التفقد والوعيد غير طويل أي غير وقت طويل . ومحتمل أن يكون للهدهد وهو الأكثر . فجاء : " فقال أحطت بما لم تحط به " " فقال أحطت بما لم تحط به "

السادسة- أي علمت ما لم تعلمه من الأمر فكان في هذا رد على من قال : إن الأنبياء تعلم الغيب . وحكى الفراء " أحط " يدغم التاء في الطاء . وحكى " أحت " بقلب الطاء تاء وتدغم .

السابعة- قوله تعالى : " وجئتك من سبأ بنبأ يقين " أعلم سليمان ما لم يكن يعلمه ، ودفع عن نفسه ما توعده من العذاب والذبح . وقرأ الجمهور : " سبأ " بالصرف . وابن كثير وأبو عمرو : " سبأ " بفتح الهمزة وترك الصرف ، فالأول على أنه اسم رجل نسب إليه قوم ، وعليه قول الشاعر :

الواردون وتيم في ذرى سبأ *** قد عض أعناقهم جلد الجواميس

وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل ، وقال " سبأ " اسم مدينة تعرف بمأرب باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام .

قلت : وقع في عيون المعاني للغزنوي ثلاثة أميال . قتادة والسدي بعث إليه اثنا عشر نبيا . وأنشد للنابغة الجعدي :

من سبأ الحاضرين مأرب إذ *** يبنون من دون سيله العرما

قال : فمن لم يصرف قال إنه اسم مدينة ، ومن صرف وهو الأكثر ؛ فلأنه اسم البلد فيكون مذكرا سمي به مذكر . وقيل : اسم امرأة سميت بها المدينة . والصحيح أنه اسم رجل ، كذلك في كتاب الترمذي من حديث فروة بن مسيك المرادي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وسيأتي إن شاء الله تعالى . قال ابن عطية : وخفي هذا الحديث على الزجاج فخبط عشواء . وزعم الفراء أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبأ فقال : ما أدري ما هو . قال النحاس : وتأول الفراء على أبي عمرو أنه منعه من الصرف لأنه مجهول ، وأنه إذا لم يعرف الشيء لم ينصرف . وقال النحاس : وأبو عمر وأجل من أن يقول مثل هذا ، وليس في حكاية الرؤاسي عنه دليل أنه إنما منعه من الصرف لأنه لم يعرفه ، وإنما قال لا أعرفه ، ولو سئل نحوي عن اسم فقال لا أعرفه لم يكن في هذا دليل على أنه يمنعه من الصرف ، بل الحق على غير هذا ، والواجب إذا لم يعرفه أن يصرفه ؛ لأن أصل الأسماء الصرف ، وإنما يمنع الشيء من الصرف لعلة داخلة عليه ، فالأصل ثابت بيقين فلا يزول بما لا يعرف . وذكر كلاما كثيرا عن النحاة وقال في آخره : والقول في " سبأ " ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل ، فإن صرفته فلأنه قد صار اسما للحي ، وإن لم تصرفه جعلته اسما للقبيلة مثل ثمود إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف وحجته في ذلك قاطعة ؛ لأن هذا الاسم لما كان يقع له التذكير والتأنيث كان التذكير أولى ؛ لأنه الأصل والأخف .

الثامنة- وفي الآية دليل على أن الصغير يقول للكبير والمتعلم للعالم عندي ما ليس عندك إذا تحقق ذلك وتيقنه . هذا عمر بن الخطاب مع جلالته رضي الله عنه وعلمه لم يكن عنده علم بالاستئذان . وكان علم التيمم عند عمار وغيره ، وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا : لا يتيمم الجنب . وكان حكم الإذن في أن تنفر الحائض عند ابن عباس ولم يعلمه عمر ولا زيد بن ثابت . وكان غسل رأس المحرم معلوما عند ابن عباس وخفي عن المسور بن مخرمة . ومثله كثير فلا يطول به .