الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإٖ يَقِينٍ} (22)

قوله : { فَمَكَثَ } : قرأ عاصم بفتحِ الكافِ . والباقون بضمِّها . وهما لغتان . إلاَّ أنَّ الفتحَ أشهرُ ، ولذلك جاءت الصفة على " ماكِث " دون مَكِيْث . واعْتُذِر عنه بأنَّ فاعِلاً قد جاء لفَعُل بالضمِّ نحو : حَمُض فهو حامِض ، وخَثُرَ فهو خاثِرٌ ، وفَرُهَ فهو فارِهٌ .

قوله : { غَيْرَ بَعِيدٍ } يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للمصدرِ أي : مُكْثاً غيرَ بعيدٍ ، وللزمان أي : زماناً غيرَ بعيدٍ ، وللمكان أي : مكاناً غيرَ بعيدٍ . والظاهرُ أنَّ الضمير في " مكث " للهُدْهُدِ . وقيل : لسليمان عليه السلام .

قوله : { مِن سَبَإٍ } : قرأ البَزِّيُّ وأبو عمروٍ بفتحِ الهمزةِ ، جعلاه اسماً للقبيلة ، أو البُقْعَةِ ، فَمَنَعاه من الصرفِ للعَلَمِيَّةِ والتأنيث . وعليه قولُه :

مِنْ سَبَأَ الحاضرينَ مَأْرِبَ إذ *** يَبْنُون مِنْ دونِ سَيْلِها العَرِما

وقرأ قنبل بسكونِ الهمزةِ ، كأنه نوى الوقفَ وأَجْرَى الوَصْلَ مُجْراه . والباقون بالجَرِّ والتنوينِ ، جعلوه اسماً للحَيِّ أو المكانِ . وعليه قولُه :

الوارِدُون وتَيْمٌ في ذُرا سَبَأٍ *** قد عَضَّ أعناقََهم جِلْدُ الجواميسِ

وهذا الخلافُ جارٍ بعينِه في سورة سَبَأ . وفي قوله : { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } فيه من البديع : " التجانُسُ " وهو تَجْنيسُ التصريفِ . وهو عبارةٌ عن انفرادِ كلِّ كلمةٍ من الكلمتين عن الأخرى بحرفٍ كهذه الآيةِ . ومثلُه : { تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } [ غافر : 75 ] وفي الحديث : " الخيلُ مَعْقُوْدٌ بنواصِيها الخيرُ " .

وقال آخر :

للهِ ما صَنَعَتْ بنا *** تلك المَعاجِرُ والمحَاجِرْ

وقال الزمخشري : " وقوله : { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } مِنْ جنسِ الكلامِ الذي سَمَّاه المُحْدَثون بالبدِيع . وهو من محاسنِ الكلامِ الذي يتعلَّقُ باللفظِ ، بشرطِ أَنْ يجيْءَ مطبوعاً ، أو يصنَعه عالمٌ بجَوْهَرِ الكلامِ ، يَحْفَظُ معه صحةَ المعنى وسَدادَه ، ولقد جاء هنا زائداً على الصحةِ فَحَسُنَ وبَدُعَ لفظاً ومعنىً . ألا ترى أنه لو وُضِع مكان " بنَبَأ " " بخبر " لكان المعنى صحيحاً ، وهو كما جاء أصَحُّ ؛ لِما في النبأ من الزيادة التي يطابِقُها وصفُ الحال " . يريد بالزيادة : أنَّ النبأ أخصُّ من الخبرِ ؛ لأنه لا يُقال إلاَّ فيما له شَأْنٌ من الأخبارِ بخلافِ الخبرِ فإنه يُطْلَقُ على ماله شَأْنٌ ، وعلى ما لا شأنَ له ، فكلُّ نبأ خبرٌ مِنْ غيرِ عكسٍ . وبعضُهم يُعَبِّرُ عن نحوِ { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } في علم البديع بالتَّرْدِيد . قاله صاحب " التحرير " . وقال غيرُه : إنَّ الترِديدَ عبارةٌ عن رَدِّ أعجاز البيوت على صدورِها ، أو رَدِّ كلمةٍ من النصفِ الأولِ إلى النصف الثاني . فمثالُ الأولِ قولُه :

سَريعٌ إلى ابنِ العَمِّ يَلْطِمُ وَجْهَه *** وليس إلى داعي الخَنا بسَريعِ

ومثالُ الثاني قولُه :

والليالي إذا نَأَيْتُمْ طِوالٌ *** والليالي إذا دَنَوْتُمْ قِصَارُ

وقرأ ابن كثير في روايةٍ " مِنْ سَبَاً " مقصوراً منوَّناً . وعنه أيضاً : " مِنْ سَبْأَ " بسكون الباءِ وفتحِ الهمزةِ ، جعله على فَعْل ومَنَعَه من الصرفِ لِما تقدَّم .

وعن الأعمش " مِنْ سَبْءِ " بهمزةٍ مكسورةٍ غير منونةٍ . وفيها إشكالٌ ؛ إذ لا وجهَ للبناء . والذي يظهر لي أنَّ تنوينَها لا بدَّ أَنْ يُقْلَبَ ميماً وصلاً ضرورةَ ملاقاتِه للباء ، فسمعها الراوي ، فظنَّ أنه كَسَر مِنْ غيرِ تنوينٍ . ورُوِيَ عن أبي عمروٍ " مِنْ سَبَا " بالألفِ صريحةً كقولِهم : " تَفَرَّقُوا أَيْدِيْ سَبا " . وكذلك قُرِىء " بنَبَا " بألفٍ خالصةٍ ، وينبغي أَنْ يكونا لقارِىءٍ واحدٍ .

و " سَبَأ " في الأصلِ اسمُ رجلٍ مِنْ قَحْطانَ ، واسمه عبد شمس ، وسَبَأُ لقبٌ له . وإنما لُقِّبَ به لأنه أولُ مَنْ سَبى ، وَوُلِدَ له عشرةُ أولادٍ ، تيامَنَ ستةٌ وهم : حِمْيَرُ وكِنْدَةُ والأَزْدُ وأَشْعَرُ وَخَثْعَمُ وبُجَيْلَةُ ، وتشاءَمَ أربعةٌ وهم : لَخْمٌ وجُذامُ وعامِلَةُ وغَسَّانُ .