قوله : { فَمَكَثَ } : قرأ عاصم بفتحِ الكافِ . والباقون بضمِّها . وهما لغتان . إلاَّ أنَّ الفتحَ أشهرُ ، ولذلك جاءت الصفة على " ماكِث " دون مَكِيْث . واعْتُذِر عنه بأنَّ فاعِلاً قد جاء لفَعُل بالضمِّ نحو : حَمُض فهو حامِض ، وخَثُرَ فهو خاثِرٌ ، وفَرُهَ فهو فارِهٌ .
قوله : { غَيْرَ بَعِيدٍ } يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للمصدرِ أي : مُكْثاً غيرَ بعيدٍ ، وللزمان أي : زماناً غيرَ بعيدٍ ، وللمكان أي : مكاناً غيرَ بعيدٍ . والظاهرُ أنَّ الضمير في " مكث " للهُدْهُدِ . وقيل : لسليمان عليه السلام .
قوله : { مِن سَبَإٍ } : قرأ البَزِّيُّ وأبو عمروٍ بفتحِ الهمزةِ ، جعلاه اسماً للقبيلة ، أو البُقْعَةِ ، فَمَنَعاه من الصرفِ للعَلَمِيَّةِ والتأنيث . وعليه قولُه :
مِنْ سَبَأَ الحاضرينَ مَأْرِبَ إذ *** يَبْنُون مِنْ دونِ سَيْلِها العَرِما
وقرأ قنبل بسكونِ الهمزةِ ، كأنه نوى الوقفَ وأَجْرَى الوَصْلَ مُجْراه . والباقون بالجَرِّ والتنوينِ ، جعلوه اسماً للحَيِّ أو المكانِ . وعليه قولُه :
الوارِدُون وتَيْمٌ في ذُرا سَبَأٍ *** قد عَضَّ أعناقََهم جِلْدُ الجواميسِ
وهذا الخلافُ جارٍ بعينِه في سورة سَبَأ . وفي قوله : { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } فيه من البديع : " التجانُسُ " وهو تَجْنيسُ التصريفِ . وهو عبارةٌ عن انفرادِ كلِّ كلمةٍ من الكلمتين عن الأخرى بحرفٍ كهذه الآيةِ . ومثلُه : { تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } [ غافر : 75 ] وفي الحديث : " الخيلُ مَعْقُوْدٌ بنواصِيها الخيرُ " .
للهِ ما صَنَعَتْ بنا *** تلك المَعاجِرُ والمحَاجِرْ
وقال الزمخشري : " وقوله : { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } مِنْ جنسِ الكلامِ الذي سَمَّاه المُحْدَثون بالبدِيع . وهو من محاسنِ الكلامِ الذي يتعلَّقُ باللفظِ ، بشرطِ أَنْ يجيْءَ مطبوعاً ، أو يصنَعه عالمٌ بجَوْهَرِ الكلامِ ، يَحْفَظُ معه صحةَ المعنى وسَدادَه ، ولقد جاء هنا زائداً على الصحةِ فَحَسُنَ وبَدُعَ لفظاً ومعنىً . ألا ترى أنه لو وُضِع مكان " بنَبَأ " " بخبر " لكان المعنى صحيحاً ، وهو كما جاء أصَحُّ ؛ لِما في النبأ من الزيادة التي يطابِقُها وصفُ الحال " . يريد بالزيادة : أنَّ النبأ أخصُّ من الخبرِ ؛ لأنه لا يُقال إلاَّ فيما له شَأْنٌ من الأخبارِ بخلافِ الخبرِ فإنه يُطْلَقُ على ماله شَأْنٌ ، وعلى ما لا شأنَ له ، فكلُّ نبأ خبرٌ مِنْ غيرِ عكسٍ . وبعضُهم يُعَبِّرُ عن نحوِ { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } في علم البديع بالتَّرْدِيد . قاله صاحب " التحرير " . وقال غيرُه : إنَّ الترِديدَ عبارةٌ عن رَدِّ أعجاز البيوت على صدورِها ، أو رَدِّ كلمةٍ من النصفِ الأولِ إلى النصف الثاني . فمثالُ الأولِ قولُه :
سَريعٌ إلى ابنِ العَمِّ يَلْطِمُ وَجْهَه *** وليس إلى داعي الخَنا بسَريعِ
والليالي إذا نَأَيْتُمْ طِوالٌ *** والليالي إذا دَنَوْتُمْ قِصَارُ
وقرأ ابن كثير في روايةٍ " مِنْ سَبَاً " مقصوراً منوَّناً . وعنه أيضاً : " مِنْ سَبْأَ " بسكون الباءِ وفتحِ الهمزةِ ، جعله على فَعْل ومَنَعَه من الصرفِ لِما تقدَّم .
وعن الأعمش " مِنْ سَبْءِ " بهمزةٍ مكسورةٍ غير منونةٍ . وفيها إشكالٌ ؛ إذ لا وجهَ للبناء . والذي يظهر لي أنَّ تنوينَها لا بدَّ أَنْ يُقْلَبَ ميماً وصلاً ضرورةَ ملاقاتِه للباء ، فسمعها الراوي ، فظنَّ أنه كَسَر مِنْ غيرِ تنوينٍ . ورُوِيَ عن أبي عمروٍ " مِنْ سَبَا " بالألفِ صريحةً كقولِهم : " تَفَرَّقُوا أَيْدِيْ سَبا " . وكذلك قُرِىء " بنَبَا " بألفٍ خالصةٍ ، وينبغي أَنْ يكونا لقارِىءٍ واحدٍ .
و " سَبَأ " في الأصلِ اسمُ رجلٍ مِنْ قَحْطانَ ، واسمه عبد شمس ، وسَبَأُ لقبٌ له . وإنما لُقِّبَ به لأنه أولُ مَنْ سَبى ، وَوُلِدَ له عشرةُ أولادٍ ، تيامَنَ ستةٌ وهم : حِمْيَرُ وكِنْدَةُ والأَزْدُ وأَشْعَرُ وَخَثْعَمُ وبُجَيْلَةُ ، وتشاءَمَ أربعةٌ وهم : لَخْمٌ وجُذامُ وعامِلَةُ وغَسَّانُ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.