قوله تعالى : { في بضع سنين } والبضع ما بين الثلاث إلى السبع ، وقيل : ما بين الثلاثة إلى التسع ، وقيل : ما دون العشر . وقرأ عبد الله بن عمر ، وأبو سعيد الخدري ، والحسن ، وعيسى بن عمر : غلبت بفتح الغين واللام ، سيغلبون بضم الياء وبفتح اللام . وقالوا : نزلت حين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن غلبة الروم فارساً . ومعنى الآية : الم غلبت الروم فارساً في أدنى الأرض إليكم ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون المسلمون في بضع سنين . وعند انقضاء هذه المدة أخذ المسلمون في جهاد الروم . والأول أصح . وهو قول أكثر المفسرين . { لله الأمر من قبل ومن بعد } أي : من بعد دولة الروم على فارس ومن بعدها ، فأي الفريقين كان لهم الغلبة فهو بأمر الله وقضائه وقدره .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - : { غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض } روايات منها ، ما رواه ابن جرير - بإسناده - عن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - قال : " كانت فارس ظاهرة على الروم . وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم ، فلما نزلت : { الاما غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض } قالوا : يا أبا بكر . إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فراس فى بضع سنين : قال : صدق . قالوا هل لك أن نقامرك ؟ - أى : نراهنك وكان ذلك قبل تحريم الرهان - فبايعوه على أربع فلائص - جمع قلوص ، وهى من الإِبل : اشابة - إلى سبع سنين . فمضت السبع ولميكن شئ . ففرح المشركون بذلك ، فشق على المسلمين ، فذكر للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : ما بضع سنين عندكم ؟ قالوا : دون العشر .
قال : اذهب فزايدهم ، وازدد سنتين فى الأجل . قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك " .
وقال بعض العلماء : اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على ان ملك فارس كان قد غزا بلاد الشام مرتين : فى سنة 613 ، وفى سنة 614 ، أى : قبل الهجرة بسبع سنين ، فحدث أن بلغ الخبر مكة . ففرح المشركون ، وشتموا فى المسلمين . . فنزلت هذه الآيات .
فلم يمض من البضع - وهو ما بين الثلاث إلى التسع - سبع سنين ، إلا وقد انتصر الروم على الفرس ، وكان ذلك سنة 621م . أى : قبل الهجرة بسنة .
وأدنى بمعنى أقرب . والمراد بالأرض : أرض الروم .
أى : غلبت الروم فى أقرب أرضها من بلاد الفرس .
قال ابن كثير : وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم ، حين غلبت الروم ، بين أذرعات وبصرى ، - على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما - ، وهى طرف بلاد الشام ممايلى الحجاز .
وقال مجاهد : كان ذلك فى الجزيرة ، وهى أقرب بلاد الروم من فارس .
وقال الآلوسى : والمراد بالأرض . أرض الروم ، على أن " أل " نائبة مناب الضمير المضاف إليه ، والأقربية بالنظر إلى أهل مكة ، لأن الكلام معهم .
أو المراد أرض مكة ونواحيها ، لأنها الأرض المعهودة عندهم ، والأقربية بالنظر إلى الروم .
وقوله - تعالى - : { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } بشارة من الله - تعالى - للمؤمنين ، بأن الله - تعالى - سيحقق لهم ما يرجونه من انتصار الروم على الفرس .
أى وهم - أى الروم - من بعد هزيمتهم من الفرس ، سينتصرون عليهم ، خلال بضع سنين .
والتعبير بقوله - تعالى - : { سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } ، لتأكيد هذا الوعد ، وبيان أن نصر الروم على فارس سيتم خلال سنوات قليلة من عمر الأمم ، وقد تحقق هذا الوعد ، وبيان أن نصر الروم على فارس سيتم خلال سنوات قليلة من عمرا لأمم ، وقد تحقق هذا الوعد على أكمل صورة وأتمها ، فقد انتصر الروم على الفرس نصرا عظيما ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - حيث أخبر عن أمور ستقع فى المستقبل ، وقد وقعت كما أخبر .
وقوله - سبحانه - : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } جملة معترضة لبيان قدرة الله - تعالى - التامة النافذة ، فى كل وقت وآن . أى : لله - تعالى - وحده الأمر النافذ من قبل انتصار الفرس على الروم ، ومن بعد انتصار الروم على الفرس : وكلا الفريقين كان نصره أو هزيمته بإرادة الله ومشيئته ، وليس أحد من الخلق أن يخرج عما قدره - سبحانه - وأراده .
{ وَيَوْمَئِذٍ } أى : ويوم أن يتغلب الروم على الفرس { يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله } حيث نصر أهل الكتاب وهم الروم ، على من لا كتاب لهم وهم الفرس ، الذين كانوا يعبدون النار فأبطل - سبحانه - بهذا النصر شماتة المشركين فى المسلمين ، وازنداد المؤمنون ثبتاتا على ثباتهم .
قال ابن كثير : وقد كانت نصرة الروم على فارس ، يوم وقعة بدر ، فى قول طائفة كبيرة من العلماء . . فلما انتصرت الروم على فارس ، فرح المؤمنون بذلك ، لأن الروم أهل كتاب فى الجملة ، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس .
وقوله - سبحانه - : { يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم } مؤكد لما قبله . أى : ينصر - سبحانه - من يريد نصره ، ويهزم من يريد هزيمته ، وهو ، العزيز الذى لا يغلبه غالب ، الرحيم الذى وسعت رحمته كل شئ .
ثم زاد - سبحانه - هذا الأمر تأكيدا وتقوية فقال : { وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{في بضع سنين} يعني خمس سنين، أو سبع سنين إلى تسع.
{لله الأمر من قبل} حين ظهرت فارس على الروم، {ومن بعد} ما ظهرت الروم على فارس.
{ويومئذ يفرح المؤمنون} وذلك أن فارس غلبت الروم، ففرح بذلك كفار مكة، فقالوا: إن فارس ليس لهم كتاب، ونحن منهم، وقد غلبوا أهل الروم، وهم أهل كتاب قبلكم، فنحن أيضا نغلبكم كما غلبت فارس الروم، فخاطرهم أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، على أن يظهر الله عز وجل الروم على فارس، فلما كان يوم بدر غلب المسلمون كفار مكة، وأتى المسلمين الخبر بعد ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بالحديبية أن الروم قد غلبوا أهل فارس، ففرح المسلمون بذلك، فذلك قوله تبارك وتعالى: {ويومئذ يفرح المؤمنون} {بنصر الله ينصر من يشاء} فنصر الله عز وجل الروم على فارس، ونصر المؤمنين على المشركين يوم بدر... {وهو العزيز} يعني المنيع في ملكه {الرحيم} بالمؤمنين حين نصرهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لله الأمر من قبل ومن بعد} قال بعضهم: {لله الأمر من قبل} قبل غلبة فارس على الروم {ومن بعد} بعد غلبة فارس على الروم. ويقال: {لله الأمر من قبل} حين ظهرت الفارس على الروم {ومن بعد} بعدما ظهرت الروم [على فارس. وجائز أن يكون قوله: {لله الأمر} في خلقه، أي التدبير فيه وله الأمر فيهم، أي ليس لأحد في الخلق أمر ولا تدبير، وإنما ذلك له كقوله: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54] له التدبير فيهم والأمر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قال أبو سعيد الخدري: كان النصر يوم بدر للفريقين للنبي (صلى الله عليه وآله) والروم على فارس، ففرح المؤمنون بالنصرين. وقيل: كان يوم الحديبية...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
" {قَبْلُ} إذا أُطْلق انتظم الأزل، "" وبَعْدُ "" إذا أطلق دلّ على الأبد؛ فالمعنى الأمر الأزلي لله، والأمر الأبدي للّهِ، لأنَّ الرَّبِّ الأزلي والسَّيِّدَ الأبدي اللَّهُ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أخبر تعالى بانفراده بالقدرة وأن ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه وبإرادته وقدره، فقال {لله الأمر} أي إنفاذ الأحكام {من قبل ومن بعد}.
{ويومئذ} يحتمل أن يكون عطفاً على القبل والبعد، كأنه حصر الأزمنة الثلاثة الماضي والمستقبل والحال، ثم ابتدأ الإخبار بفرح المؤمنين بالنصر، ويحتمل أن يكون الكلام تم في قوله {بعد}، ثم استأنف عطف جملة أخبر فيها أن يوم غلبت الروم الفرس {يفرح المؤمنون بنصر الله}، وعلى هذا الاحتمال مشى المفسرون.
والنصر الذي {يفرح} به {المؤمنون}...يحتمل أن يشار به إلى فرح المسلمين بنصر الله إياهم في أن صدق ما قال نبيهم من أن الروم ستغلب فارس فإن هذا ضرب من النصر عظيم...
{في بضع سنين} قيل هي ما بين الثلاثة والعشرة، أبهم الوقت مع أن المعجزة في تعيين الوقت أتم، فنقول السنة والشهر واليوم والساعة كلها معلومة عند الله تعالى وبينها لنبيه وما أذن له في إظهارها لأن الكفار كانوا معاندين، والأمور التي تقع في البلاد النائية تكون معلومة الوقوع بحيث لا يمكن إنكارها، لكن وقتها يمكن الاختلاف فيه، فالمعاند كان يتمكن من أن يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلف في كلامه
{لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون}. ثم قال تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد} أي من قبل الغلبة ومن بعدها أو من قبل هذه المدة ومن بعدها، يعني إن أراد غلبهم غلبهم قبل بضع سنين وإن أراد غلبهم غلبهم بعدها، وما قدر هذه المدة لعجز وإنما هي إرادة نافذة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وعبر بالبضع ولم يعين إبقاء للعباد في ربقة نوع من الجهل، تعجيزاً لهم، وتحدياً لمن عاند بنفي ما أخبر به أو يعلم ما ستر منه، وتشريعاً للتعمية إذا قادت إليها مصلحة... ولما أخبر بهذه المعجزة، تلاها بمعجزة أخرى، وهو أن أهل الإسلام لا يكون لهم ما يهمهم فيسرون بنصره فقال: {ويومئذ يفرح المؤمنون}
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وحكمة إبهام عدد السنين أنه مقتضى حال كلام العظيم الحكيم أن يقتصر على المقصود إجمالاً وأن لا يتنازل إلى التفصيل لأن ذلك التفصيل يتنزل منزلة الحشو عند أهل العقول الراجحة وليكون للمسلمين رجاء في مدة أقرب مما ظهر ففي ذلك تفريج عليهم.
وهذه الآية من معجزات القرآن، وكان غلبهم السابق أيضاً بنصر الله إياهم على الروم لحكمة اقتضت هذا التعاقب وهي تهيئة أسباب انتصار المسلمين على الفريقين إذا حاربوهم بعد ذلك لنشر دين الله في بلاديْهم، وقد أومأ إلى هذا قوله لله الأمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لِلَّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} وهذه هي الحقيقة الإيمانية التي تحكم كل قضايا الحياة المتعلقة بالناس في علاقاتهم في ساحة النصر أو الهزيمة، فقد يتحركون في ذلك بإرادتهم الذاتية، في ما يأخذون به أو يتركونه من الوسائل الواقعية، ولكن العمق الأساس للإرادة الإِلهية التي تخطط للحياة قوانينها وسننها الطبيعية، هو أن الله من وراء كل شيء، فهو يملك كل الأمر في حركة الواقع، لأنه هو السبب الأعمق في كل مواقع الأسباب في قانون السببية للأشياء، ما يجعل الإنسان المؤمن واثقاً بالله في كل الأمور التي يتحرك بها الحاضر، أو يختزنها المستقبل، فلا يعيش الإنسان القلق الذي يثير الاهتزاز في داخله أمام أيّ حدثٍ طارئ، بل يترك الأمر لله من خلال هذه الحقيقة التي تؤكد للناس كلهم بأن الأمر لله من قبل ومن بعد، وإذا كان الأمر كذلك، وكانت الحكمة هي الأساس في تدبير الله للكون، وكانت الرحمة هي الصفة الإلهية التي ترعى للإنسان حياته، فلا مشكلة هناك، فيسلّم الأمر له، وينطلق إلى الأهداف الكبرى بخطواتٍ ثابتة.
وهكذا ينبغي للمؤمنين أن يواجهوا الموقف المعقّد الذي حاول المشركون أن يُسقطوا به روحهم المعنوية، للإيحاء لهم بالهزيمة المرتقبة لهم، من خلال هزيمة المؤمنين الآخرين من أهل الكتاب، على أساس أن انتصار الكفر في موقع يعني انتصار كل الكافرين، وأن ضعف الإيمان في موقعٍ يعني ضعف كل المؤمنين. إن عليهم أن يواجهوا المسألة من خلال الحقيقة الإيمانية لا من خلال بعض الأحداث القلقة التي لا تمثل قاعدةً ثابتةً للحياة كلها، بل هي من بعض أوضاع الحياة العامة التي تنتقل بين انتصار فريق هنا وهزيمة فريقٍ هناك، وذلك في ما توحي به الآية الكريمة: {وَتِلْكَ الأيامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]. فإذا كان الله قد تكفل بنصر دينه، فعليهم أن يثقوا بذلك وينتظروا النصر المؤكد منه...