إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{فِي بِضۡعِ سِنِينَۗ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} (4)

{ فِي بِضْعِ سِنِينَ } رُوي أنَّ فارسَ غَزَوا الرُّومَ فوافَوهم بأَذْرِعَاتٍ وبُصرَى وقيل : بالجزيرةِ كما مرَّ فغلبوا عليهم ، وبلغ الخبرُ مكَّة ففرح المشركون وشمِتُوا بالمسلمينَ وقالُوا : أنتُم والنَّصارى أهلُ كتابٍ ونحن وفارسُ أميُّون وقد ظهر إخوانُنا على إخوانِكم فلنظهرنَّ عليكم ، فقال أبُو بكرٍ رضي الله عنه : لا يقْرِرِ الله أعينَكم فوالله ليظهرنَّ الرومُ على فارسَ بعد بضعِ سنين ، فقال له أُبيُّ بنُ خَلَف اللَّعينُ : كذبتَ اجعل بيننا أجلاً أنا حِبُك عليه فناحبَه{[639]} على عشرِ قلائصَ من كلَ منهُما وجعلا الأجلَ ثلاثَ سنينَ فأخبر به أبُو بكرٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ : ( البضعُ ما بين الثَّلاثِ إلى التِّسعِ فزيدُوه في الخطرِ ومادِّه في الأجلِ{[640]} ) فجعلاها مائةَ قلوصٍ إلى تسعِ سنينَ ومات أبيُّ من جرحِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وظهرتِ الرُّوم على فارسَ عند رأسِ سبعِ سنينَ وذلك يومَ الحديبيةِ ، وقيل : كانَ النَّصرُ للفريقينِ يومَ بدرٍ فأخذَ أبُو بكر الخَطَر من ذريَّةِ أبيّ فجاء به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ : ( تصدَّق به ) . وكانَ ذلك قبلَ تحريمِ القِمارِ . وهذه الآياتُ من البيِّناتِ الباهرةِ الشَّاهدةِ بصحَّةِ النُّبوةِ وكونِ القُرآنِ من عندِ الله عزَّ وجلَّ حيثُ أخبرتْ عن الغيبِ الذي لا يعلمُه إلا العليمُ الخبيرُ . وقرئ غَلَبت على البناءِ للفاعلِ وسيُغلبون على البناءِ للمفعولِ والمعنى أنَّ الرُّوم غلبتْ على ريفِ الشامِ وسيغلبُهم المسلمونَ وقد غَزَاهُم المسلمون في السَّنةِ التَّاسعةِ من نزولِها ففتحُوا بعضَ بلادِهم ، فإضافةُ الغَلَب حينئذٍ إلى الفاعلِ .

{ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } أي في أولِ الوقتينِ وفي آخرِهما حين غُلبوا وحين يغلِبون ، كأنَّه قيل : من قبلِ كونِهم غالبينَ وهو وقتُ كونِهم مغلوبينَ ومن بعدِ كونِهم مغلوبينَ وهو وقتُ كونِهم غالبينَ والمعنى أنَّ كلاًّ من كونِهم مغلوبينَ أولاً وغالبين آخراً ليس إلا بأمرِ الله تعالى وقضائِه { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } [ سورة آل عمران ، الآية140 ] . وقرئ من قبلِ ومن بعدِ بالجرِّ من غيرِ تقديرِ مُضافٍ إليهِ واقتطاعِه كأنَّه قيل : قبلاً وبَعْداً ، بمعنى أولاً وآخِراً { وَيَوْمَئِذٍ } أي يومَ إذْ يغلبُ الرُّومُ على فارسَ ويحلُّ ما وعدَه الله تعالى من غلبتِهم { يَفْرَحُ المؤمنون } .


[639]:ناحب: النحب: النذر والنحب: الخطر العظيم وناحبه على الأمر: خاطره وهو المراهنة والقمار أيضا.
[640]:أخرجه الترمذي في كتاب التفسير سورة (30) باب (1، 3).