معاني القرآن للفراء - الفراء  
{فِي بِضۡعِ سِنِينَۗ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} (4)

وقوله : { لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ4 } القراءة بالرفع بغير تنوينٍ ؛ لأنهما في المعْنَى يراد بهما الإضافَة إلى شيء لا محالة . فلما أدّتا عن مَعْنى ما أُضيفتا إليه وسَمُوهما بالرفع وهما مخفوضتان ؛ ليكون الرفع دليلاً على ما سَقط مما أضفتهما إليه . وَكذلكَ ما أشبههما ، كقول الشاعر :

إن تأتِ من تحتُ أجِئْها من عَلُ *** . . .

ومثله قول الشاعر :

إذا أنا لم أُومَن عَليكِ ولم يَكُن *** لقاؤكِ إلاَّ من ورَاء ورَاء

ترفع إذا جَعَلته غايةً ولم تذكر بعده الذي أضفته إليه فَإن نويت أن تظهره أو أظهرته قلت : لله الأمر منْ قبلِ ومن بَعْدِ : كأنكَ أظهرتَ المخفوض الذي أسْنَدْت إليه ( قَبْل ) و ( بعد ) . وسمع الكسائي بعض بنى أسَدٍ يقرؤها ( لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلِ وَمِن بَعْدُ } يخفض ( قبل ) ويرفع ( بَعد ) على ما نوى وأنشدني ( هو يعنى ) الكسائي :

أكابِدها حَتى أُعَرِّسَ بَعْد ما *** يكون سُحُيْراً أو بُعَيدَ فأهْجَعَا

أراد بُعَيدَ السحَّر فأضمره . ولو لم يُرِد ضمير الإضافة لرفع فقال : بُعَيْدُ . ومثله قول الشَّاعر :

لَعَمْركَ ما أدري وإني لأَوجَلُ *** على أيِّنا تَعْدو المنيَّةُ أوّلُ

رفعت ( أوّل ) لأنه غاية ؛ ألا ترى أنها مسنَدة إلى شيء هي أوّلهُ ؛ كما تعرِف أنّ ( قبل ) لا يكون إلاَّ قبل شيء ، وأنَّ ( بعد ) كذلكَ . ولو أطلقتهما بالعربيّة فنوَّنت وفيهما مَعْنى الإضَافة فخفضت في الخفض ونوَّنت في النصب والرفع لكان صَوَاباً ، قد سُمع ذلكَ من العرب ، وجَاء في أشعارها ، فقال بعضهم :

وساغَ لي الشرابُ وكنت قبلاً *** أكاد أغَصُّ بالماء الحمِيم

فنوَّنَ وكذلكَ تقول : جئتك من قبل فرأيتكَ . وكذلك قوله :

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مقبل مُدبرٍ معاً *** كجُلمودِ صخرٍ حطّه السيلُ من عَلِ

فهذا مخفوض . وإن شئت نوَّنت وأن شئت لم تنون على نيّتك ؟ وقال الآخر فرفع :

كَأنّ مِحَطّا في يدَي حارثيَّةٍ *** صَناعٍ علت منّى به الجِلدَ من عَلُ

المِحَطّ : منقاش تشِم به يدها .

وأما قول الآخر :

هتكت به بيوتَ بنى طَرِيفٍ *** على ما كان قبلٌ من عِتاب

فنوَّن ورَفَع فإن ذلك لضرورة الشعر ، كما يُضطَرّ إليه الشاعر فينوّن في النداء المفرد فيقول : يا زيدٌ أَقْبل ؛ قَالَ :

قدَّمُوا إذْ قيل قيسٌ قدِّمُوا *** وارفعُوا المجدَ بأطرافِ الأَسَل

وأنشدني بعض بنى عُقيل :

ونحن قتلنا الأَسْدَ أَسْدَ شَنُوءَة *** فما شرِبُوا بعدٌ على لذَّة خمرَا

ولو ردّه إلى النصب إذ نوّن كان وجها ؛ كما قال :

وسَاغ لي الشراب وكنت قبلاً *** أكاد أغَصَّ بالماء الحَمِيم

وكذلك النداء لو رُدّ النصب إذا نُوَّن فيه كَانَ وَجْها ؛ كما قال :

فطِر خالداً إن كنتَ تَسْطيع طَيْرةً *** وَلا تَقَعْن إلاَّ وقلبُكَ حاذِِر

ولا تنكرنَّ أن تضيف قبل وبعدَ وأشباههما وإن لم يظهر فقد قال :

إِلاَّ بُدَاهةَ أو عُلاَلَة *** سَابحٍ نَهْدِ الجُزَاره

وقال الآخر :

يامن يرى عَرِضاً أكفكفُهُ *** بين ذِرَاعيْ وجَبْهةِ الأَسَدِ

وسمعت أبا ثَرْوَان العُكْلِيّ يقول : قطع الله الغداة يد ورجل من قاله . وإنما يجوز هَذَا في الشيئين يَصْطحبَان ؛ مثل اليد والرجل ، ومثل قوله : عندي نصفُ أو ربعُ درهَمٍ ، وجئتك قبلَ أو بعدَ العصرِ . ولا يجوز في الشيئين يتباعَدان ؛ مثل الدار والغلام : فلا تُجيزنّ : اشتريت دارَ أو غلام زيد ؛ ولكن عَبْدَ أَوْ أَمَةَ زَيدٍ ، وعينَ أو أذُن ، ويد أو رِجْلَ ، وما أشبهه .