محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فِي بِضۡعِ سِنِينَۗ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} (4)

بسم الله الرحمن الرحيم

{ الم غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ } اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على أن ملك فارس كان غزا بلاد الشام وفتح دمشق وبيت المقدس ، الأولى سنة 613 ، الثانية سنة 614 . أي قبل الهجرة النبوية بسبع سنين – فحدث أن بلغ الخبر مكة . ففرح المشركون وشمتوا بالمسلمين ، وقالوا : أنتم والنصارى أهل كتاب . ونحن وفارس وثنيون . وقد ظهر إخواننا على إخوانكم . ولنظهرن عليكم . فنزلت الآية ، فتليت على المشركين . فأحال وقوع ذلك بعضهم . وتراهن مع الصديق رضي الله عنه على مائة قلوص ، إن وقع مصداقها . فلم يمض من البضع – وهو ما بين الثلاث إلى التسع – سبع سنين إلا وقد نظم هرقل جنود الروم وغزا بهم بلاد فارس سنة 621 . أي قبل الهجرة بسنة . فدوخها ، واضطر ملكها للهرب . وعاد هرقل بالغنائم الوافرة . ولا ريب أن ذلك أعظم معجزات القرآن . أعني إخباره عن غيب وقع مصداقه ، واستبان للجاحدين من نوره إشراقه . وفي ضمنه ، أن سائر غيوبه لك من ظهور الإسلام على الدين كله ، وزهوق الباطل ، وعلو الحق ، وجعل المستضعفين أئمة ، وإيراثهم أرض عدوهم ، إلى غير ذلك . وما ألطف ما قال الزبير الكلائي : رأيت غلبة فارس الروم . ثم رأيت غلبة الروم فارس . ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم . كل ذلك في خمس عشرة سنة – من أواخر غلبة فارس إلى أوائل غلبة المسلمين – والأرض ( كما قال الزمخشري ) أرض العرب . لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم . والمعنى : غلبوا في أدنى أرض العرب أي أقربها منهم ، وهي أطراف الشام { لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ } أي من قبل غلبة فارس على الروم { وَمِن بَعْدُ } أي من بعد غلبة الروم فارس . ويقال : لله العلم والقدرة والمشيئة من قبل إبداء الخلق ، ومن بعد إفناء الخلق . والمعنى : أن كلا من كونهم مغلوبين أولا ، وغالبين آخرا ، ليس إلا بامره وقضائه ، وعلمه ومشيئته . كما قال تعالى {[6058]} : { وتلك الأيام نداولها بين الناس } { ويومئذ } أي يوم إذ يغلب الروم على فارس ، ويحل ما وعده الله تعالى من غلبتهم { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ }


[6058]:(3 آل عمران 140).