1- سورة " الجمعة " من السور المدنية الخالصة .
قال الآلوسي : هي مدنية ، كما روى عن ابن عباس وابن الزبير ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، وإليه ذهب الجمهور .
وقال ابن يسار : هي مكية ، وحكى ذلك عن ابن عباس ومجاهد : والأول هو الصحيح . لما رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة ، فتلاها ، فلما بلغ [ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم . . . ] قال له رجل : يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا ؟ فوضع صلى الله عليه وسلم يده على سلمان الفارسي ، وقال : " والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء . . . " .
ومن المعروف أن إسلام أبي هريرة كان بعد الهجرة بمدة بالاتفاق . . ( {[1]} ) .
2- وعدد آياتها إحدى عشرة آية ، وكان نزولها بعد سورة " التحريم " ، وقبل سورة " التغابن " .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقرؤها في صلاة الجمعة ، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة " الجمعة والمنافقون " .
وأخرج ابن حيان والبيهقي عن جابر بن سمرة أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة بسورة " الكافرون " وبسورة " قل هو الله أحد . . . " ، وكان يقرأ في صلاة العشاء الأخيرة من ليلة الجمعة ، بسورة " الجمعة " ، وبسورة " المنافقون " . . وسميت بهذا الاسم لحديثها عن يوم الجمعة ، وعن وجوب السعي إلى صلاتها .
3- وقد اشتملت السورة الكريمة ، على الثناء على الله –عز وجل- ، وعلى مظاهر نعمه على عباده ، حيث أرسل فيهم رسولا كريما ، ليزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . . .
كما اشتملت على توبيخ اليهود وذمهم ، لعدم عملهم بالكتاب الذي أنزله –سبحانه- لهدايتهم وإصلاح حالهم . .
كما اشتملت على دعوة المؤمنين ، إلى المحافظة على صلاة الجمعة ، وعلى المبادرة إليها دون أن يشغلهم عنها شاغل .
نسأل الله –تعالى- أن يجعلنا من المحافظين على فرائضه وتكاليفه .
افتتحت سورة " الجمعة " كغيرها من أخواتها " المسبحات " بالثناء على الله - تعالى - وببيان أن المخلوقات جميعها ، تسبح بحمده - تعالى - وتقدس له .
والتسبيح : تنزيه الله - تعالى - عما لا يليق به ، اعتقادا وقولا وعملا مأخوذ من السبح وهو المر السريع فى الماء أو الهواء ، لأن المسبح لله ، - تعالى - مسرع فى تنزيهه - تعالى - وتبرئته من كل سوء .
وقوله : { القدوس } من التقديس بمعنى والتطهير وغير ذلك من صفات الكمال .
أى : أن التسبيح : نفى ما لا يليق بذاته - تعالى - ، والتقديس : إثبات ما يليق بجلاله - سبحانه - والمعنى : ينزه الله - تعالى - ويبعده عن كل نقص ، جميع ما فى السموات ، وجميع ما فى الأرض من مخلوقات ، فهو - سبحانه - { الملك } أى : المدبر لشئون هذا الكون ، المتصرف فيه تصرف المالك فيما يملكه . . .
{ القدوس } أى : البليغ فى الطهارة وفى التنزه عن كل نقص ، من القُدْس - ضم القاف وسكون الدال - بمعنى الطهر ، وأصله القَدَس - بفتح القاف والدال - وهو الإناء الذى يكون فيه ما يتطهر به ، ومنه القادوس وهو إناء معروف .
{ العزيز } الذى لا يغلبه غالب { الحكيم } فى كل أقواله وأفعاله وتصرفاته .
هذا ، ومن الآيات الكثيرة الدالة على أن جميع من فى السموات ومن فى الأرض ، يسبحون لله - تعالى - قوله - عز وجل - : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً . . }
سورة الجمعة مدنية وآياتها إحدى عشرة
نزلت هذه السورة بعد سورة " الصف " السابقة . وهي تعالج الموضوع الذي عالجته سورة الصف ، ولكن من جانب آخر ، وبأسلوب آخر ، وبمؤثرات جديدة .
إنها تعالج أن تقر في أخلاد الجماعة المسلمة في المدينة أنها هي المختارة أخيرا لحمل أمانة العقيدة الإيمانية ؛
وأن هذا فضل من الله عليها ؛ وأن بعثة الرسول الأخير في الأميين - وهم العرب - منة كبرى تستحق الالتفات والشكر ، وتقتضي كذلك تكاليف تنهض بها المجموعة التي استجابت للرسول ، واحتملت الأمانة ؛ وأنها موصولة على الزمان غير مقطوعة ولا منبتة ، فقد قدر الله أن تنمو هذه البذرة وتمتد . بعدما نكل بنو إسرائيل عن حمل هذه الأمانة وانقطعت صلتهم بأمانة السماء ؛ وأصبحوا يحملون التوراة كالحمار يحمل أسفارا ، ولا وظيفة له في إدراكها ، ولا مشاركة له في أمرها !
تلك هي الحقيقة الرئيسية التي تعالج السورة إقرارها في قلوب المسلمين . من كان منهم في المدينة يومذاك على وجه الخصوص ، وهم الذين ناط الله بهم تحقيق المنهج الإسلامي في صورة واقعة . ومن يأتي بعدهم ممن أشارت إليهم السورة ، وضمتهم إلى السلسلة الممتدة على الزمان .
وفي الوقت ذاته تعالج السورة بعض الحالات الواقعة في تلك الجماعة الأولى ؛ في أثناء عملية البناء النفسي العسيرة المتطاولة الدقيقة . وتخلصها من الجواذب المعوقة من الحرص والرغبة العاجلة في الربح ، وموروثات البيئة والعرف . وبخاصة حب المال وأسبابه الملهية عن الأمانة الكبرى ، والاستعداد النفسي لها . وتشير إلى حادث معين . حيث كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يخطبهم في المسجد للجمعة حين حضرت قافلة من قوافلهم التجارية ؛ فما إن أعلن نبأ قدومها حتى انفض المستمعون منصرفين إلى التجارة واللهو الذي كانت القافلة تحاط به - على عادة الجاهلية - من ضرب بالدفوف وحداء وهيصة ! وتركوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قائما . فيما عدا اثني عشر من الراسخين فيهم أبو بكر وعمر بقوا يستمعون ! كما تذكر الروايات ، التي قد لا تكون دقيقة من حيث العدد ، ولكنها ثابتة من حيث وقوع هذه الحركة من عدد من الحاضرين اقتضى التنبيه إليها في القرآن الكريم .
وهي حادثة تكشف بذاتها عن مدى الجهد الذي بذل في تربية تلك الجماعة الأولى حتى انتهت إلى ما انتهت إليه ؛ وحتى صارت ذلك النموذج الفريد في تاريخ الإسلام وفي تاريخ البشرية جميعا . وتلهمنا الصبر على مشقة بناء النفوس في أي جيل من الأجيال ، لتكوين الجماعة المسلمة التي تنهض بحمل أمانة هذه العقيدة ، وتحاول تحقيقها في عالم الواقع كما حققتها الجماعة الأولى .
وفي السورة مباهلة مع اليهود ، بدعوتهم إلى تمني الموت للمبطلين من الفريقين وذلك ردا على دعواهم أنهم أولياء الله من دون الناس ، وأنهم شعب الله المختار ، وأن بعثة الرسول في غيرهم لا تكون ! كما كانوا يدعون ! مع جزم القرآن بأنهم لن يقبلوا هذه المباهلة التي دعوا إليها فنكلوا عنها لشعورهم ببطلان دعواهم . وتعقب السورة على هذا بتقرير حقيقة الموت الذي يفرون منه ، وأنه ملاقيهم مهما فروا ، وأنهم مردودون إلى عالم الغيب والشهادة فمنبئهم بما كانوا يعملون . . وهو تقرير لا يخص اليهود وحدهم ، إنما يلقيه القرآن ويدعه يفعل فعله في نفوس المؤمنين كذلك . فهذه الحقيقة لا بد أن تستقر في نفوس حملة أمانة الله في الأرض ، لينهضوا بتكاليفها وهم يعرفون الطريق !
هذا هو اتجاه السورة ، وهو قريب من اتجاه سورة الصف قبلها ، مع تميز كل منهما بالجانب الذي تعالجه ، وبالأسلوب الذي تأخذ القلوب به ، والظلال التي تلقيها هذه وتلك في الإتجاه الواحد العام . فلننظر كيف يتناول الأسلوب القرآني هذا الاتجاه . .
( يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض ، الملك القدوس العزيز الحكيم ) . .
هذا المطلع يقرر حقيقة التسبيح المستمرة من كل ما في الوجود لله ؛ ويصفه - سبحانه - بصفات ذات علاقة لطيفة بموضوع السورة . السورة التي اسمها " الجمعة " وفيها تعليم عن صلاة الجمعة ، وعن التفرغ لذكر الله في وقتها ، وترك اللهو والتجارة ، وابتغاء ما عند الله وهو خير من اللهو ومن التجارة . ومن ثم تذكر : ( الملك ) . . الذي يملك كل شيء بمناسبة التجارة التي يسارعون إليها ابتغاء الكسب . وتذكر( القدوس )الذي يتقدس ويتنزه ويتوجه إليه بالتقديس والتنزيه كل ما في السماوات والأرض ، بمناسبة اللهو الذي ينصرفون إليه عن ذكره . وتذكر( العزيز ) . . بمناسبة المباهلة التي يدعى إليها اليهود والموت الذي لا بد أن يلاقي الناس جميعا والرجعة إليه والحساب . وتذكر( الحكيم ) . . بمناسبة اختياره الأميين ليبعث فيهم رسولا يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . . وكلها مناسبات لطيفة المدخل والاتصال .
سميت هذه السورة عند الصحابة وفي كتب السنة والتفاسير { سورة الجمعة } ولا يعرف لها اسم غير ذلك . وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : كنا جلوسا عند النبي فأنزلت عليه سورة الجمعة الحديث . وسيأتي عند تفسير قوله تعالى { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } .
ووجه تسميتها وقوه لفظ { الجمعة } فيها وهو اسم لليوم السابع من أيام الأسبوع في الإسلام .
وقال ثعلب : إن قريشا كانت تجتمع فيه عند قصي بدار الندوة . ولا يقتضي في ذلك أنهم سموا ذلك اليوم الجمعة .
ولم أر في كلام العرب قبل الإسلام ما يثبت أن اسم الجمعة أطلقوه على هذا اليوم .
وقد أطلق اسم { الجمعة } على الصلاة المشروعة فيه على حذف المضاف لكثرة الاستعمال . وفي حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل ، ووقع في كلام عائشة كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي الخ .
وفي كلام أنس كنا نقيل بعد الجمعة ، ومن كلام ابن عمر كان رسول الله لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف ، أي من المسجد . ومن كلام سهل بن سعد ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة . فيحتمل أن يكون لفظ الجمعة الذي في اسم هذه السورة معنيا به صلاة الجمعة لأن في هذه السورة أحكاما لصلاة الجمعة . ويحتمل أن يراد به يوم الجمعة لوقوع لفظ يوم الجمعة في السورة في آية صلاة الجمعة .
ويظهر أنها نزلت سنة ست وهي سنة خيبر ، فظاهر حديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه آنفا أن هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر لأن أبا هريرة أسلم يوم خيبر .
وظاهره أنها نزلت دفعة واحدة فتكون قصية ورود العير من الشام هي سبب نزول السورة وسيأتي ذكر ذلك .
وكان فرض صلاة الجمعة متقدما على وقت نزول السورة فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها في خطبة خطب بها للناس وصلاها في أول يوم جمعة بعد يوم الهجرة في دار لبني سالم بن عوف . وثبت أن أهل المدينة صلوها قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كما سيأتي . فكان فرضها ثابتا بالسنة قولا وفعلا . وما ذكر في هذه السورة من قوله { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } ورد مورد التأكيد لحضور صلاة الجمعة وترك البيع ، والتحذير من الانصراف عند الصلاة قبل تمامها كما سيأتي .
وقد عدت هذه السورة السادسة بعد المائة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة التحريم وقبل سورة التغابن .
وظاهر حديث أبي هريرة يقتضي أن هذه السورة أنزلت دفعة واحدة غير منجمة .
وعدت آيها إحدى عشرة آية باتفاق العادين من قراء الأمصار .
أول أغراضها ما نزلت لأجله وهو التحذير من التخلف عن صلاة الجمعة والأمر بترك ما يشغل عنها في وقت أدائها . وقدم لذلك : التنويه بجلال الله تعالى .
والتنويه بالرسول صلى الله عليه وسلم . وأنه رسول إلى العرب ومن سيلحق بهم .
وفي هذا توطئة لذم اليهود لأنهم حسدوا المسلمين على تشريفهم بهذا الدين .
ومن جملة ما حسدوهم عليه ونقموه أن جعل يوم الجمعة اليوم الفاضل في الأسبوع بعد أن كان يوم السبت وهو المعروف في تلك البلاد .
افتتاح السورة بالإِخبار عن تسبيح أهل السماوات والأرض لله تعالى براعة استهلال لأن الغرض الأول من السورة التحريض على شهود الجمعة والنهي عن الأشغال التي تشغل عن شهودها وزجر فريق من المسلمين انصرفوا عن صلاة الجمعة حِرصاً على الابتياع من عِيرٍ وردت المدينة في وقت حضورهم لصلاة الجمعة .
وللتنبيه على أن أهل السماوات والأرض يجددون تسبيح الله ولا يفترون عنه أوثر المضارع في قوله : { يسبح } .
ومعاني هذه الآية تقدمت مفرقة في أوائل سورة الحديد وسورة الحشر .
سوى أن هذه السورة جاء فيها فعل التسبيح مُضارعاً وجيء به في سواها ماضياً لمناسبةٍ فيها وهي : أن الغرض منها التنويه بصلاة الجمعة والتنديد على نفر قطعوا عن صلاتهم وخرجوا لتجارة أو لهو فمناسب أن يحكى تسبيح أهل السماوات والأرض بما فيه دلالة على استمرار تسبيحهم وتجدده تعريضاً بالذين لم يتموا صلاة الجمعة .
ومعاني صفات الله تعالى المذكورة هنا تقدمت في خواتم سورة الحشر .
ومناسبة الجمع بين هذه الصفات هنا أن العظيم لا يَنصرِف عن مجلس من كان عنده إلا عند انفضاض مجلسه أو إيذانه بانصرافهم .
و { القُدوس } : المنزَّه عن النقص وهو يُرغب في حضرته . و { العزيز } : يَعتز الملتفون حوله . فمفارقتهم حضرته تفريط في العزة . وكذلك { الحكيم } إذا فارق أحد حضرته فاته في كل آن شيء من الحكمة كما فات الذين انفضوا إلى العِير مَا خطب به النبي صلى الله عليه وسلم إذْ تركوه قائماً في الخطبة .