قوله تعالى : { وقال الذين لا يعلمون } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : اليهود ، وقال مجاهد : النصارى ، وقال قتادة : مشركو العرب .
قوله تعالى : { يكلمنا الله } . عياناً بأنك رسوله وكل ما في القرآن لولا فهو بمعنى هلا ، إلا واحداً ، وهو قوله : ( فلولا أنه كان من المسبحين ) معناه فلو لم يكن .
قوله تعالى : { أو تأتينا آية } . دلالة وعلامة على صدقك .
قوله تعالى : { كذلك قال الذين من قبلهم } . أي كفار الأمم الخالية .
قوله تعالى : { مثل قولهم تشابهت قلوبهم } . أي أشبه بعضها بعضاً في الكفر والقسوة وطلب المحال .
ثم أورد القرآن بعد ذلك الشبهات التي أثاروها حول نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأجاب عنها بما يبطلها فقال تعالى : { وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله أَوْ تَأْتِينَآ . . . }
عن ابن عباس قال : قال رافع بن حريملة اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد ، إن كنت رسولا من الله كما تقولن فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله هذه الآية .
فالآية الكريمة معطوفة على قوله : { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً . . . } ومعنى الآية الكريمة . { وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } علماً نافعاً أمثال هؤلاء اليهود الذين طالبوك بالمطالب المتعنتة - يا محمد - { لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله } إما مشافهة ، أو بواسطة الوحي إلينا لا إليك ، أو يرينا حجة تقوم على صدق رسالتك ، قالوا هذا على وجه العناد والجحود أن تكون الآيات التي أقامها الله على صدق رسالته آيات حقاً .
وقد رد الله عليهم بقوله : { كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ } أي : مثل هذا القول المتعنت ، قال الجاحدون من أسلافهم الذين أرسل الله إليهم الرسل ليخرجوهم من الظلمات إلى النور وفي هذه الجملة تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بأن ما لاقاه من قومه مثل ما لقيه الرسل من قبله .
{ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } أي تشابهت قلوب هؤلاء وأولئك في العناد والضلال .
{ قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : جعلناها بينة واضحة في ذاتها لمن شأنهم الإِخلاص في طلب الحق أينما كان ، فيتجهون إليه عن طريق الأدلة الصحيحة بقلوب نقية من الأهواء موقنة بجلال الحق ووجوب الطاعة .
قال الإِمام الرازي : وتقرير شبهتهم أن الحكيم إذا أراد تحصيل شيء ، اختار أقرب الطرق إليه ، وبما أن الله قد كلم موسى وكلمك يا محمد فلم لا يكلمنا مشافهة ، أو يخصك بمعجزة يتجلى من ورائها صدق نبوتك ، وهذا منهم طعن في أن القرآن معجزة ، لأنهم لو أقروا بذلك لاستحال أن يقولوا ما قالوه .
فأجابهم الله عن هذه الشبهة بقوله { كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ } وحاصل هذا الجواب : أنا قد أيدنا قول محمود بالمعجزات ، وبينا صحة قوله بالقرآن وسائر الحجج ، فكان طلب هذه الزوائد من باب العنت . وعليه فلن تجاب مطالبكم لوجوه منها :
1 - لو كان في معلوم الله أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآيات لفعلها ولكنه علم أنه لو أعطاهم ما سألوه لازدادوا لجاجاً .
2 - أن حصول الدلالة الواحدة تمكن المكلف من الوصول إلى المطلوب ، فإذا لم يكتف بها ، كان طلبه من باب المعاندة .
3 - ربما كانت كثرة المعجزات وتعاقبها تقدح في كونها معجزة لأن الخوارق متى توالت كان انخراق العادة عادة . فثبت أن عدم إسعافهم بهذه الآيات لا يقدح في النبوة .
هذا ، وبعض المفسرين يرى أن المراد ب { الذين لاَ يَعْلَمُونَ } اليهود ، وبعضهم يرى أن المراد يهم مشركو العرب وبعضهم يرى أن المراد يهم النصارى ، ونحن نرى أن اللفظ صالح لأن يندرج تحته جميع هذه الطوائف قضاء لحق الموصول المفيد للتعميم ، ولكنا نختار أن اليهود هم المقصودون قدصاً أولياً من هذه الآية للأسببا الآتية :
1 - الآية ضمن سلسلة طويلة من الآيات السابقة عليها واللاحقة لها ، وكلها تتحدث عن بني إسرائيل وأحوالهم وأخلاقهم .
2 - جملة { كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ } قرينة على أن المقصود بالذين لا يعلمون هم اليهود المعاصرون للعهد النبوي ، حيث كان أجدادهم يطلبون من موسى مثل هذه المطالب ، لقد قالوا له : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً } وقالوا : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } وطلبوا منه كثيرا من المطالب المتعنتة .
3 - الآية مدنية ومن سورة البقرة التي هي من أوائل ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، ومن المعروف أن حديث القرآن المدني عن أهل الكتاب بصفة عامة ، وعن اليهود بصفة خاصة ، أكثر من حديثه عن مشركي العرب ، لأن البيئة المدنية صلتها بأهل الكتاب أشد وألصق .
4 - سبب نزول الآية الذي ذكرناه يؤيد أن اليهود مقصودون قصداً أولياً في هذه الآية .
5 - القائلون بأن المراد بالذين لا يعلمون مشركوا العرب ، دعموا قولهم بأن آيات القرآن التي تحكى عنهم أمثال هذه المقترحات مستفيضة . وكأنهم يستبعدون أن تصدر مثل هذه الأسئلة عن اليهود .
وردنا عليهم القرآن الكريم قد حكى عن اليهود أمثال هذه الأسئلة بدليل قوله تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات فَعَفَوْنَا عَن ذلك وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً } 6 - الإِمام ابن جرير رجح أن المراد ب { الذين لاَ يَعْلَمُونَ } النصارى ، مستدلا بأن ذلك في سياق خبر الله عنهم ، فالآية السابقة على هذه الآية تقول .
{ وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } والنصارى هم الذين قالوا ذلك .
وهذا الاستدلال لا نوافقه عليه لما يأتي :
( أ ) لأن الآية ليست في سياق خبر الله عن النصارى ، وإنما هي في سياق خبر الله عن اليهود ، الذين زخرت سورة البقرة ببيان مواقفهم وحجاجهم وأخلاقهم في أكثر من مائة آية سابقة ولاحقة من هذه السورة .
( ب ) ليس النصارى وحدهم هم الذين قالوا اتخذ الله ولداً وإنما اليهود أيضاً قالوا ذلك ، قال تعالى : { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله } ( ج ) لم يأت الإِمام ابن جرير بدليل واحد ينقض به رأى القائلين بأن المراد بالذين لا يعلمون اليهود ، ولم يتعرض للنص الذي أورده ابن عباس في سبب نزول الآية بالتضعيف أو الإِعلال ، مع أنه انتقد رأى القائلين بأن المراد بهم مشركو العرب ( بأنه قول لا برهان على حقيقته في ظاهر الكتاب ) .
هذا وبعد ذلك الأدلة على ما ذهبنا إليه نعود فنقول مرة أخرى : إننا لا نمانع في أن يكون المراد بالذين لا يعلمون جميع الطوائف المشركة ولكنا نرجح أن اليهود هم المقصودون قصداً أولياً مهما دخل غيرهم معهم في السياق ، وإن الآية قد نزلت للرد على مطالبهم المتعنتة واقتراحاتهم التي لا خير من ورائها ، ومحاولاتهم الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم .
وإذ ينتهي من عرض مقولة أهل الكتاب في ادعاء الولد لله - سبحانه - وتصحيح هذه المقولة وردها ، يتبعها بمقولة للمشركين فيها من سوء التصور ما يتسق مع سوء التصور عن أهل الكتاب :
( وقال الذين لا يعلمون : لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ! كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ) .
والذين لا يعلمون هم الأميون الذين كانوا مشركين ؛ إذ لم يكن لديهم علم من كتاب . وكثيرا ما تحدوا النبي [ ص ] أن يكلمهم الله أو أن تأتيهم خارقة من الخوارق المادية . . وذكر هذه المقولة هنا مقصود لبيان أن الذين من قبلهم - وهم اليهود وغيرهم - طلبوا مثل هذا من أنبيائهم . فلقد طلب قوم موسى أن يروا الله جهرة ، وطلبوا وتعنتوا في طلب الخوارق المعجزة . فبين هؤلاء وهؤلاء شبه في الطبيعة ، وشبه في التصور ، وشبه في الضلال :
فلا فضل لليهود على المشركين . وهم متشابهو القلوب في التصور والعنت والضلال :
( قد بينا الآيات لقوم يوقنون ) . .
والذي يجد راحة اليقين في قلبه يجد في الآيات مصداق يقينه ، ويجد فيها طمأنينة ضميره . فالآيات لا تنشىء اليقين ، إنما اليقين هو الذي يدرك دلالتها ويطمئن إلى حقيقتها . ويهيء القلوب للتلقي الواصل الصحيح .
{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 118 )
قوله تعالى : { وقال الذين لا يعلمون } الآية ، قال الربيع والسدي : هم كفار العرب }( {[1184]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وقد طلب عبد الله بن أبي أمية وغيره من النبي صلى الله عليه نحو هذا ، فنفى عنهم العلم لأنهم لا كتاب عندهم ولا اتباع نبوة ، وقال مجاهد : هم النصارى( {[1185]} ) لأنهم المذكورون في الآية أولاً ، ورجحه الطبري ، وقال ابن عباس : المراد من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود ، لأن رافع بن حريملة قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أسمعنا كلام الله ، وقيل : الإشارة بقوله { لا يعلمون } إلى جميع هذه الطوائف ، لأن كلهم قال هذه المقالة أو نحوها ، ويكون { الذين من قبلهم } قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، و { لولا } تحضيض بمعنى هلا( {[1186]} ) ، كما قال الأشهب بن رميلة : [ الطويل ]
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أفضلَ مجدِكُمْ . . . بني ضَوْطَرى لولا الكميّ المقنعا( {[1187]} )
وليست هذه { لولا } التي تعطي منع الشيء لوجوب غيره ، وفرق بينهما أنها في التحضيض لا يليها إلا الفعل مظهراً أو مقدراً ، وعلى بابها في المنع للوجوب( {[1188]} ) يليها الابتداء ، وجرت العادة بحذف الخبر ، والآية هنا العلامة الدالة ، وقد تقدم القول في لفظها( {[1189]} ) ، و { الذين من قبلهم } اليهود والنصارى في قول من جعل { الذين لا يعلمون } كفار العرب ، وهم الأمم السالفة في قول من جعل { الذين لا يعلمون } كفار العرب والنصارى واليهود ، وهم اليهود في قول من جعل { الذين لا يعلمون } النصارى ، والكاف الأولى من { كذلك } نعت لمصدر مقدر ، و { مثل } نعت لمصدر محذوف ، ويصح أن يعمل فيه ، { قال } : وتشابه القلوب هنا في طلب ما لا يصح أو في الكفر وإن اختلفت ظواهرهم ، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة «تَشَّابهت » بشد الشين ، قال أبو عمرو الداني : وذلك غير جائز لأنه فعل ماض .
وقوله تعالى : { قد بينا الآيات لقوم يوقنون } لما تقدم ذكر الذين أضلهم الله حتى كفروا بالأنبياء وطلبوا ما لا يجوز لهم أتبع ذلك الذين بين لهم ما ينفع وتقوم به الحجة ، لكن البيان وقع وتحصل للموقنين ، فلذلك خصهم بالذكر ، ويحتمل أن يكون المعنى قد بينا البيان الذي هو خلق الهدى ، فكأن الكلام قد هدينا من هدينا ، واليقين إذا اتصف به العلم خصصه وبلغ به نهاية الوثاقة( {[1190]} ) ، وقوله تعالى { بينا } قرينة تقتضي أن اليقين صفة لعلمهم ، وقرينة أخرى ، وهي أن الكلام مدح لهم ، وأما اليقين في استعمال الفقهاء إذا لم يتصف به العلم فإنه أحط من العلم ، لأن العلم عندهم معرفة المعلوم على ما هو به واليقين معتقد يقع للموقن في حقه والشيء على خلاف معتقده ، ومثال ذلك تيقن المقلد ثبوت الصانع ، ومنه قول مالك - رحمه الله - في «الموطأ » في مسألة الحالف على الشيء يتيقنه الشيء في نفسه على غير ذلك . ( {[1191]} )
قال القاضي أبو محمد : وأما حقيقة الأمر فاليقين هو الأخص وهو ما علم على الوجه الذي لا يمكن أن يكون إلا عليه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقال الذين لا يعلمون} بتوحيد ربهم، يعني: مشركي العرب للنبي صلى الله عليه وسلم، {لولا} يعنون هلا {يكلمنا الله} يخبرنا بأنك رسوله، {أو تأتينا آية} كما كانت الأنبياء تأتيهم الآيات تجيئ إلى قومهم، يقول الله: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم}، يقول: هكذا قالت بنو إسرائيل من قبل مشركي العرب، فقالوا في سورة البقرة، والنساء لموسى: {أرنا الله جهرة} (النساء: 103)، وأتوا بالآيات وسمعوا الكلام فحرفوه، فهل هؤلاء إلا مثل أولئك؟ فذلك قوله سبحانه: {تشابهت قلوبهم}، ثم قال: وإن كذب مشركو العرب بمحمد، {قد بينا الآيات}، أي: فقد بينا الآيات، فذلك قوله سبحانه في العنكبوت: {بل هو آيات}، يعني: بيان أمر محمد آيات {بينات} (العنكبوت: 49)، يعني: واضحات في التوراة أنه أمي لا يقرأ الكتاب ولا يخط بيمينه، {لقوم يوقنون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: {وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ}؛
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم... عن ابن عباس، قال: قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت رسولاً من عند الله كما تقول، فقل لله عز وجلّ فليكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله عز وجل في ذلك من قوله: {وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ أوْ تَأتِينَا آيَةٌ} الآية كلها.
وقال آخرون: بل عنى بذلك مشركي العرب.
وأولى هذه الأقوال بالصحة والصواب قول القائل: إن الله تعالى عنى بقوله: {وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}: النصارى دون غيرهم لأن ذلك في سياق خبر الله عنهم، وعن افترائهم عليه وادّعائهم له ولدا. فقال جل ثناؤه، مخبرا عنهم فيما أخبر عنهم من ضلالتهم أنهم مع افترائهم على الله الكذب بقوله: اتّخَذَ اللّهُ وَلَدا، تمنوا على الله الأباطيل؛ فقالوا جهلاً منهم بالله وبمنزلتهم عنده وهم بالله مشركون: لولا يكلمنا الله كما يكلم رسوله وأنبياءه، أو تأتينا آية كما أتتهم، ولا ينبغي لله أن يكلم إلا أولياءه، ولا يؤتي آيةً معجزةً على دعوى مدّعٍ إلا لمن كان محقّا في دعواه وداعيا إلى الله وتوحيده. فأما من كان كاذبا في دعواه وداعيا إلى الفرية عليه وادّعاء البنين والبنات له، فغير جائز أن يكلمه الله جل ثناؤه، أو يؤتيه آية معجزة تكون مؤيدة كذبه وفريته عليه. وقال الزاعم: إن الله عنى بقوله:"وَقَال الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ": العرب، فإنه قائل قولاً لا خبر بصحته ولا برهان على حقيقته في ظاهر الكتاب. والقول إذا صار إلى ذلك كان واضحا خطؤه، لأنه ادّعى ما لا برهان على صحته، وادّعاءُ مثل ذلك لن يتعذّر على أحد.
{لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ}: هلاّ يكلمنا الله...
فأما الآية فقد ثبت فيما قبل معنى الآية أنها العلامة. وإنما أخبر الله عنهم أنهم قالوا: هلاّ تأتينا آية على ما نريده ونسأل، كما أتت الأنبياء والرسل فقال عز وجلّ: {كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}.
اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: {كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}؛
وقال آخرون: هم اليهود والنصارى، لأن الذين لا يعلمون هم العرب.
قد دللنا على أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله: {وقَالَ الّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ} هم النصارى، والذين قالت مثل قولهم هم اليهود، وسألت موسى صلى الله عليه وسلم أن يريهم ربهم جهرة، وأن يسمعهم كلام ربهم، كما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا، وسألوا من الاَيات ما ليس لهم مسألته تحكّما منهم على ربهم، وكذلك تمنت النصارى على ربها تحكما منها عليه أن يسمعهم كلامه ويريهم ما أرادوا من الاَيات. فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا من القول في ذلك مثل الذي قالته اليهود وتمنت على ربها مثل أمانيها، وأن قولهم الذي قالوه من ذلك إنما يشابه قول اليهود من أجل تشابه قلوبهم في الضلالة والكفر بالله. فهم وإن اختلفت مذاهبهم في كذبهم على الله وافترائهم عليه، فقلوبهم متشابهة في الكفر بربهم والفِرْيَة عليه، وتحكمهم على أنبياء الله ورسله عليهم السلام...عن مجاهد: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}: قلوب النصارى واليهود.
وقال غيره: معنى ذلك تشابهت قلوب كفار العرب واليهود والنصارى وغيرهم... فمعنى الآية: وقالت النصارى الجهال بالله وبعظمته: هلاّ يكلمنا الله ربنا كما كلم أنبياءه ورسله، أو تجيئنا علامة من الله نعرف بها صدق ما نحن عليه على ما نسأل ونريد؟ قال الله جل ثناؤه: فكما قال هؤلاء الجهال من النصارى وتمنوا على ربهم. قال مَنْ قبلهم من اليهود، فسألوا ربهم أن يريهم الله نفسه جهرة، ويؤتيهم آية، واحتكموا عليه وعلى رسله، وتمنوا الأماني. فاشتبهت قلوب اليهود والنصارى في تمرّدهم على الله وقلة معرفتهم بعظمته وجرأتهم على أنبيائه ورسله، كما اشتبهت أقوالهم التي قالوها.
{قَدْ بَيّنَا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}: قد بينا العلامات التي من أجلها غضب الله على اليهود وجعل منهم القردة والخنازير، وأعدّ لهم العذاب المهين في معادهم، والتي من أجلها أخزى الله النصارى في الدنيا، وأعدّ لهم الخزي والعذاب الأليم في الاَخرة، والتي من أجلها جعل سكان الجنان الذين أسلموا وجوههم لله وهم محسنون في هذه السورة وغيرها. فأعْلِموا الأسباب التي من أجلها استحقّ كل فريق منهم من الله ما فعل به من ذلك، وخصّ الله بذلك القوم الذين يوقنون لأنهم أهل التثبت في الأمور، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة. فأخبر الله جل ثناؤه أنه بيّن لمن كانت هذه الصفة صفته ما بيّن من ذلك ليزول شكه، ويعلم حقيقة الأمر إذْ كان ذلك خبرا من الله جل ثناؤه، وخبر الله الخبر الذي لا يعذر سامعه بالشكّ فيه. وقد يحتمل غيره من الأخبار ما يحتمل من الأسباب العارضة فيه من السهو والغلط والكذب، وذلك منفيّ عن خبر الله عز وجل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{تشابهت قلوبهم} قيل: {تشابهت قلوبهم} بالكفر والسفه. وقيل: {تشابهت قلوبهم} في المقالة، يشبه بعضها بعضا في السؤال لأنهم سألوا سؤال متعنت لا سؤال مسترشد... إذ الله تعالى قد أثبت آيات الإرشاد لمن يبتغي الرشد، ولا قوة إلا بالله.
وقوله: {قد بينا الآيات لقوم يؤمنون} قيل (بينا) أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالآيات والحجج التي أقامها: أنه رسول لمن آمن به، وصدقه، ولم يعانده...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي كفّار الأمم الخالية {مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أشبه بعضها بعضاً في الكفر والفرقة والقسوة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كلام الله سبحانه متعلق بجميع المخلوقات بأعيانها وآثارها، وأمر التكوين (يتناول المكلفين وأفعال المكلفين)، لكن من عَدم سمع الفهم، تصامم عن استماع الحق، فإنه -سبحانه- خاطب قوماً من أهل الكتاب، وأسمعهم خطابه، فلم يطيقوا سماعه، وبعدما رأوا من عظيم الآيات حرَّفوا وبدَّلوا. وفي الآيات التي أظهرها ما يزيح العِلَّة من الأغيار، ويشفي الغُلَّة من الأخيار، ولكن ما تُغْنِي الدلائل -وإنْ وَضُحَتْ- عمن حقَّتْ لهم الشقاوة وسبقت؟...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
" ولولا "في كل القرآن بمعنى "هلا "إلا في موضع واحد؛ وذلك في قوله تعالى: {فلولا أنه كان من المسبحين} معناه: فلو لم يكن من المسبحين...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {قد بينا الآيات لقوم يوقنون} لما تقدم ذكر الذين أضلهم الله حتى كفروا بالأنبياء وطلبوا ما لا يجوز لهم، أتبع ذلك الذين بين لهم ما ينفع وتقوم به الحجة، لكن البيان وقع وتحصل للموقنين، فلذلك خصهم بالذكر، ويحتمل أن يكون المعنى قد بينا البيان الذي هو خلق الهدى، فكأن الكلام قد هدينا من هدينا، واليقين إذا اتصف به العلم خصصه وبلغ به نهاية الوثاقة، وقوله تعالى {بينا} قرينة تقتضي أن اليقين صفة لعلمهم، وقرينة أخرى، وهي أن الكلام مدح لهم...
وأما حقيقة الأمر فاليقين هو الأخص وهو ما علم على الوجه الذي لا يمكن أن يكون إلا عليه...
اعلم أن هذا هو النوع الحادي عشر من قبائح اليهود والنصارى والمشركين، ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أن الله تعالى لما حكى عن اليهود والنصارى والمشركين ما يقدح في التوحيد وهو أنه تعالى اتخذ الولد، حكى الآن عنهم ما يقدح في النبوة، وقال أكثر المفسرين: هؤلاء هم مشركو العرب والدليل عليه قوله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا} وقالوا: {لولا يأتينا بآية كما أرسل الأولون} وقالوا {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} هذا قول أكثر المفسرين، إلا أنه ثبت أن أهل الكتاب سألوا ذلك، والدليل عليه قوله تعالى: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك} فإن قيل: الدليل على أن المراد مشركو العرب أنه تعالى وصفهم بأنهم لا يعلمون، وأهل الكتاب أهل العلم، قلنا: المراد أنهم لا يعلمون التوحيد والنبوة كما ينبغي، وأهل الكتاب كانوا كذلك...
المسألة الثانية: تقرير هذه الشبهة التي تمسكوا بها أن الحكيم إذا أراد تحصيل شيء فلابد وأن يختار أقرب الطرق المفضية إليه وأبعدها عن الشكوك والشبهات، إذا ثبت هذا فنقول: إن الله تعالى يكلم الملائكة وكلم موسى وأنت تقول: يا محمد، إنه كلمك والدليل عليه قوله تعالى: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} فلم لا يكلمنا مشافهة ولا ينص على نبوتك حتى يتأكد الاعتقاد وتزول الشبهة، وأيضا فإن كان تعالى لا يفعل ذلك، فلم لا يخصك بآية ومعجزة، وهذا منهم طعن في كون القرآن آية ومعجزة، لأنهم لو أقروا بكونه معجزة لاستحال أن يقولوا: هلا يأتينا بآية ثم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون}، وحاصل هذا الجواب أنا قد أيدنا قول محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزات، وبينا صحة قوله بالآيات وهي القرآن وسائر المعجزات، فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنت وإذا كان كذلك لم يجب إجابتها لوجوه.
(الأول): أنه إذا حصلت الدلالة الواحدة، فقد تمكن المكلف من الوصول إلى المطلوب، فلو كان غرضه طلب الحق لاكتفى بتلك الدلالة، فحيث لم يكتف بها وطلب الزائد عليها علمنا أن ذلك للطلب من باب العناد واللجاج، فلم تكن إجابتها واجبة ونظيره قوله تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} فبكتهم بما في القرآن من الدلالة الشافية.
(وثانيها): لو كان في معلوم الله تعالى أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآية لفعلها، ولكنه علم أنه لو أعطاهم ما سألوه لما ازدادوا إلا لجاجا فلا جرم لم يفعل ذلك ولذلك قال تعالى: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون}
(وثالثها): إنما حصل في تلك الآيات أنواع من المفاسد وربما أوجب حصولها هلاكهم واستئصالهم إن استمروا بعد ذلك على التكذيب وربما كان بعضها منتهيا إلى حد الإلجاء المخل بالتكليف، وربما كانت كثرتها وتعاقبها يقدح في كونها معجزة، لأن الخوارق متى توالت صار انخراق العادة عادة، فحينئذ يخرج عن كونه معجزا، وكل ذلك أمور لا يعلمها إلا الله علام الغيوب، فثبت أن عدم إسعافهم بهذه الآيات لا يقدح في النبوة...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{قد بينا الآيات لقوم يوقنون} أي يطلبون اليقين، أو يوقنون الحقائق لا يعتريهم شبهة ولا عناد. وفيه إشارة إلى أنهم ما قالوا ذلك لخفاء في الآيات أو لطلب مزيد اليقين، وإنما قالوه عتوا وعنادا...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{قد بينا الآيات لقوم يوقنون}... وهي آيات مبينات، لا لبس فيها، ولا شبهة، لشدة إيضاحها. لكن لا يظهر كونها آيات إلا لمن كان موقناً، أما من كان في ارتياب، أو شك، أو تغافل، أو جهل، فلا ينفع فيه الآيات، ولو كانت في غاية الوضوح. ألا ترى إلى قولهم: {إنما سكِّرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} وقول أبي جهل، وقد سأل أهل البوادي الوافدين إلى مكة عن انشقاق القمر، فأخبروه به، فقال بعد ذلك: هذا سحر مستمر.
ولما ذكر أن اقتراح ما تقدم إنما هو من أهواء الذين لا يعلمون، قال في آخرها: {لقوم يوقنون}. والإيقان: وصف في العلم يبلغ به نهاية الوثاقة في العلم، أي من كان موقناً، فقد أوضحنا له الآيات، فآمن بها، ووضحت عنده، وقامت به الحجة على غيره. وفي جميع الآيات رد على من اقتراح آية، إذ الآيات قد بينت، فلم يكن آية واحدة، فيمكن أن يدعي الالتباس فيها، بل ذلك جمع آيات بينات، لكن لا ينتفع بها إلا من كان من أهل العلم والتبصر واليقين...
قال: وتنكير « آيَة» لتعم في المعجزات كلها، وتفيد التقليل فهو محض مكابرة ومباهتة منهم حتى كأنه لم يأتهم بشيء من الآيات... قيل لابن عرفة: ما فائدة زيادة « مِّثْلَ قَوْلِهِمْ» مع أنه مستغنى عنه لأن التشبيه الأول يكفي في حصول المثلية؟ فأجاب بوجهين: -
إما أنه تأكيد في مقام التسلية للنَّبي صلى الله عليه وسلّم بتكذيب من قبله وتعنتهم. -وإما أن قوله « كَذلِكَ» تشبيه لا يقتضي المساواة من جميع الوجوه بل المقابلة، لأن المشبه بالشيء لا يقوى قوّته فزاد « مِّثْلَ قَوْلِهِمْ» ليفيد كمال المماثلة والمساواة، ولم يقل: مثل كلامهم، لأن القول أعم من الكلام، ولازم الأعم لازم الأخص، فأفاد حصول المساواة في قولهم المفرد والمركب...
{لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}... واليقين هو اعتقاد الشيء بدليل قاطع لا تعرض له الشكوك، والعلم اعتقاد الشيء بدليل يقبل الشكوك والمعارضة.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
بلغوا من العُتوِّ والاستكبار إلى حيث أمّلوا نيلَ مرتبةِ المفاوضة الإلهية من غير توسط الرسولِ والملَك، ومن العنادِ والمكابرة إلى حيث لم يعُدّوا ما آتاهم من البينات الباهرة التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال من قَبيل الآيات...
وفي تعريف الآياتِ وجمعِها وإيرادِ النبيين المُفصِح عن كمال التوضيح مكانَ الإتيان الذي طلبوه ما لا يخفى من الجزالة، والمعنى أنهم اقترحوا آيةً فذَّةً ونحن قد بينا الآياتِ العظامَ لقوم يطلُبون الحقَّ واليقين، وإنما لم يُتعرَّضْ لرد قولِهم: {لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله} [سورة البقرة، الآية 118] إيذانا بأنه من ظهور البطلان بحيث لا حاجة له إلى الرد والجواب...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والذي يجد راحة اليقين في قلبه يجد في الآيات مصداق يقينه، ويجد فيها طمأنينة ضميره. فالآيات لا تنشئ اليقين، إنما اليقين هو الذي يدرك دلالتها ويطمئن إلى حقيقتها. ويهيئ القلوب للتلقي الواصل الصحيح...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ثم يجوز أن تكون جملة {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم} واقعة موقع الجواب لمقالة الذين لا يعلمون وهو جواب إجمالي اقتصر فيه على تنظير حالهم بحال من قبلهم فيكون ذلك التنظير كناية عن الإعراض عن جواب مقالهم وأنه لا يستأهل أن يجاب لأنهم ليسوا بمرتبة من يكلمهم الله وليست أفهامهم بأهل لإدراك ما في نزول القرآن من أعظم آية وتكون جملة {تشابهت قلوبهم} تقريراً أي تشابهت عقولهم في الأفن وسوء النظر، وتكون جملة {قد بينا الآيات لقوم يوقنون} تعليلاً للإعراض عن جوابهم بأنهم غير أهل للجواب لأن أهل الجواب هم القوم الذين يوقنون وقد بينت لهم آيات القرآن بما اشتملت عليه من الدلائل، وأما هؤلاء فليسوا أهلاً للجواب لأنهم ليسوا بقوم يوقنون بل ديدنهم المكابرة...
وفي هذه الآية جعلت اليهود والنصارى مماثلين للمشركين في هذه المقالة لأن المشركين أعرق فيها إذ هم أشركوا مع الله غيره فليس ادعاؤهم ولداً لله بأكثر من ادعائهم شركة الأصنام مع الله في الإلاهية فكان اليهود والنصارى ملحقين بهم لأن دعوى الابن لله طرأت عليهم ولم تكن من أصل ملتهم وبهذا الأسلوب تأتى الرجوع إلى بيان أحوال أهل الكتابين الخاصة بهم وذلك من رد العجز على الصدر...
وجيء بالفعل المضارع في {يوقنون} لدلالته على التجدد والاستمرار كناية عن كون الإيمان خُلقاً لهم فأما الذين دأبهم الإعراض عن النظر والمكابرة بعد ظهور الحق فإن الإعراض يحول دون حصول اليقين والمكابرة تحول عن الانتفاع به فكأنه لم يحصل فأصحاب هذين الخلقين ليسوا من الموقنين...
وتبيين الآيات هو ما جاء من القرآن المعجز للبشر الذي تحدى به جميعهم فلم يستطيعوا الإتيان بمثله كما تقدم، وفي الحديث:"ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" فالمعنى قد بينا الآيات لقوم من شأنهم أن يوقنوا ولا يشككوا أنفسهم أو يعرضوا حتى يحول ذلك بينهم وبين الإيقان أو يكون المعنى قد بينا الآيات لقوم يظهرون اليقين ويعترفون بالحق لا لقوم مثلكم من المكابرين.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
تشابه المشركين وأهل الكتاب؛ اليهود يتعنتون والمشركون طلبوا آيات مختلفة، آيات حسية مطرحين الآيات المعنوية، مع أن الله تعالى أجرى على يديه خوارق للعادات باهرة كالإسراء، والطعام الكثير من الغذاء القليل، وسح الماء بين يديه، وحنين الجذع إليه وتعشيش اليمام حول الغار، وسير السحاب معه لتضله، ونصره بالرياح وقد اشتدت الشديدة، وغير ذلك كثير، ولكنه لم يتحد إلا بالقرآن؛ لأنه الآية الكبرى، والمعجزة الدائمة القاهرة...
وقوله تعالى: {مثل قولهم} أي في التعنت وطلب الآيات الحسية، وإذا كانوا قد طلبوا ذلك مع تسع آيات بينات حسية، فإن الذين فعلوا مثلهم طلبوا ذلك مع ما هو أعظم من ذلك، وهو القرآن المعجزة الإلهية الكبرى...
ومعنى قوله: {قد بينا الآيات} قد أنزلنا بينة مقنعة بذاتها؛ لأنها العلامات والأمارات القاطعة في الدلالة على الله، وعلى نبوة الرسول الذي بعثه الله تعالى...
ويلاحظ أن هذا في موضوع نسخ الآيات المعجزات، واستبدال آية بآية، والقرآن الكريم في هذا النسق يفصل بعضها وما عرض من أخبار اليهود والنصارى والقبلة، والاعتراض والرد لم يكن بعيدا عن ذلك بعدا تاما...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
من فوائد الآية: أن أهل الباطل يجادلون بالباطل؛ لأن طلبهم الآيات التي يعينونها ما هو إلا تعنت واستكبار؛ ففي الآيات التي جاءت بها الرسل ما يؤمن على مثلها البشر؛ ثم إنهم لو جاءت الآيات على ما اقترحوا لم يؤمنوا إذا حقت عليهم كلمة ربهم؛ لقوله تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يوسف: 96، 97].
-ومنها: وصف من لم يَنقَدْ للحق بالجهل؛ لقوله تعالى: {وقال الذين لا يعلمون}؛ فكل إنسان يكابر الحق، وينابذه فإنه أجهل الناس...
- ومنها: أنه ما من رسول إلا وله آية؛ لأن قولهم: {أو تأتينا آية} هذا مدَّعى غيرهم؛ إذ إن من لم يأت بآية لا يلام من لم يصدقه؛ مثلاً إذا جاء رجل يقول: «أنا رسول الله؛ آمنوا بي وإلا قتلتكم، واستحللت نساءكم، وأموالكم» فلا نطيعه؛ ولو أننا أنكرناه لكنا غير ملومين؛ لكن الرسل تأتي بالآيات؛ ما من رسول إلا وأعطاه الله تعالى من الآيات ما يؤمن على مثلها البشر؛ فالله تعالى لا يرسل الرسل، ويتركهم بدون تأييد.
-ومن فوائد الآية: أن أقوال أهل الباطل تتشابه؛ لقوله تعالى: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم وقوله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون} [الذاريات: 52، 53]؛ وأنت لو تأملت الدعاوى الباطلة التي رد بها المشركون رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم من زمنه إلى اليوم لوجدت أنها متشابهة، كما قال تعالى: {وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} [المطففين: 32]؛ واليوم يقولون للمتمسكين بالقرآن، والسنة هؤلاء رجعيون؛ هؤلاء دراويش لا يعرفون شيئاً...
-ومن فوائد الآية: أن الأقوال تابعة لما في القلوب؛ لقوله تعالى: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم}؛ فلتشابه القلوب تشابهت الأقوال؛ ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله؛ وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب»...
-ومنها: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان المصاب إذا رأى أن غيره أصيب فإنه يتسلى بذلك، وتخف عليه المصيبة، كما قال تعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} [الزخرف: 39]؛ فالله تعالى يسلي رسوله (صلى الله عليه وسلم) بأن هذا القول الذي قيل له قد قيل لمن قبله...
- ومنها: أنه لا ينتفع بالآيات إلا الموقنون؛ لقوله تعالى: {قد بينا الآيات لقوم يوقنون}؛ وأما غير الموقنين فلا تتبين لهم الآيات لما في قلوبهم من الريب والشك.
ومنها: أن الموقن قد يتبين له من الآيات ما لم يتبين لغيره؛ ويؤيده قوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدًى وآتاهم تقواهم}...
-ومنها: زيادة العلم باليقين؛ لأن من آيات الله هذا الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فكلما ازداد يقينك تبين لك من آيات الله ما لم يتبين لغيرك، فيزداد علمك؛ فباليقين يزداد العلم؛ قال تعالى: {ويزداد الذين آمنوا إيماناً} [المدثر: 31]؛ فكلما كان الإنسان أقوى يقيناً كان أكثر علماً؛ وكلما ازداد علمه ازداد يقينه؛ فهما متلازمان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هؤلاء الجاهلون أو الذين لا يعلمون بتعبير الآية، طرحوا طلبين بعيدين عن المنطق، طلبوا:
-أن يكلمهم الله: {لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ}.
- أن تنزل عليهم آية: (أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ).
والقرآن يجيب على هذه الطلبات التافهة قائلا: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْم يُوقِنُونَ}. لو أن هؤلاء يستهدفون حقاً إدراك الحقيقة، ففي هذه الآيات النازلة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دلالة واضحة بينة على صدق أقواله،
فما الداعي إلى نزول آية مستقلة على كل واحد من الأفراد؟!
وما معنى الإصرار على أن يكلمهم الله مباشرة؟! مثل هذا الطلب تذكره الآية 52 من سورة المدثر: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً}. مثل هذا الطلب لا يمكن أن يتحقق، لأن تحققه إضافة إلى عدم ضرورته مخالف لحكمة الباري سبحانه، لما يلي:
أوّلا: إثبات صدق الأنبياء للناس كافة أمر ممكن عن طريق الآيات التي تنزل عليهم.
ثانياً: لا يمكن للآيات والمعاجز أن تنزل على أي فرد من الأفراد، فذلك يتطلب نوعاً من اللياقة والاستعداد والطّهارة الرّوحية.
فالأسلاك الكهربائية تتحمل من التيّار ما يتناسب مع ضخامتها.
الأسلاك الرقيقة لا تتحمل التّيار العالي، ولا يمكن أن تتساوى بالأسلاك الضخمة القادرة على توصيل التّيارات العالية.
والمهندس يفرّق بين الأسلاك التي تستقبل التّيارات العالية من المولدات مباشرة، والأسلاك التي تنقل التيّار الواطئ داخل البيوت...