قوله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } قال الكلبي : إن كفار مكة قالوا : إن محمداً شاعر ، وما يقوله شعر ، فأنزل الله تكذيباً لهم : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } أي : ما يتسهل له ذلك ، وما كان يتزن له بيت من شعر ، حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسراً .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد الثقفي ، أنبأنا أحمد بن جعفر بن همدان ، حدثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان ، أنبأنا موسى بن إسماعيل ، أنبأنا حماد بن سلمة ، عن علي بن همدان ، حدثنا يوسف بن أبي زيد ، عن الحسن أن النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت* كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً* فقال أبو بكر يا رسول الله إنما قال الشاعر : *كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً* فقال أبو بكر ، وعمر أشهد أنك رسول الله ، يقول الله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم البغوي ، أنبأنا علي بن الجعد ، أنبأنا شريك ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه قال : قلت لعائشة : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة . قالت : وربما قال : *ويأتيك بالأخبار من لم تزود*فأنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم :*ويأتيك من لم تزود بالأخبار*وقالت : وربما قال : ويأتيك بالأخبار من لم تزود ، وقال معمر عن قتادة : بلغني أن عائشة سئلت : هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان الشعر أبغض الحديث إليه ، قالت : ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بني قيس ، طرفة :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً *** ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل يقول : ( ( ويأتيك من لم تزود بالأخبار ) ) فقال أبو بكر رضي الله عنه : ليس هكذا يا رسول الله ، فقال : إني لست بشاعر ولا ينبغي لي " { إن هو } يعني : القرآن ، { إلا ذكر } موعظة ، { وقرآن مبين } فيه الفرائض والحدود والأحكام .
ثم رد - سبحانه - على الكافرين الذين وصفوا النبى صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر ، كما قالوا عن القرآن أنه شعر ، فقال - تعالى - :
{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا . . . } .
أى : وما عَلَّمْنا الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما الذى علمناه إياه هو القرآن الكريم ، المشتملع لى ما يسعد الناس فى دنياهم وفى آخرتهم .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة ، نفى أن يكون القرآن شعرا بأبلغ وجه لأن الذى علمه الله - تعالى - لنبيه هو القرآن وليس الشعر ، وما دام الأمر كذلك فالقرآن ليس شعراً .
وقوله - تعالى - : { وَمَا يَنبَغِي لَهُ } أى : ما علمناه الشعر ، وإنما علمناه القرآن ، فقد اقتضت حكمتنا أن لا نجعل الشعر فى طبعه صلى الله عليه وسلم ولا فى سليقته ، فحتى لو حاوله - على سبيل الفرض - فإنه لا يتأتى له ، ولا يسهل عليه ولا يستقيم مع فطرته صلى الله عليه وسلم .
والضمير فى قوله - تعالى - : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } يعود إلى القرآن الكريم :
أى : ما هذا القرآن الكريم إلا ذكر من الأذكار النافعة ، والمواعظ الناجحة ، والتوجيهات الحكيمة ، وهو فى الوقت نفسه { وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } أى : كتاب مقروء من الكتب السماوية الواضحة ، التى لا تختلط ولا تلتبس بكلام البشر .
في هذا القطاع الأخير من السورة تستعرض كل القضايا التي تعالجها السورة . . قضية الوحي وطبيعته وقضية الألوهية والوحدانية . وقضية البعث والنشور . . تستعرض في مقاطع مفصلة . مصحوبة بمؤثرات قوية في إيقاعات عميقة . كلها تتجه إلى إبراز يد القدرة وهي تعمل كل شيء في هذا الكون وتمسك بمقاليد الأمور كلها . ويتمثل هذا المعنى مركزاً في النهاية في الآية التي تختم السورة : ( فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ) . . فهذه اليد القوية المبتدعة خلقت الأنعام للبشر وذللتها لهم . وهي خلقت الإنسان من نطفة . وهي تحيي رميم العظام كما أنشأتها أول مرة . وهي جعلت من الشجر الأخضر ناراً . وهي أبدعت السماوات والأرض . وفي النهاية هي مالكة كل شيء في هذا الوجود . . وذلك قوام هذا المقطع الأخير . .
( وما علمناه الشعر - وما ينبغي له - إن هو إلا ذكر وقرآن مبين . لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين ) . .
وردت قضية الوحي في أول السورة : ( يس والقرآن الحكيم . إنك لمن المرسلين . على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم . لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون . . . ) . . والآن تجيء في صورتها هذه للرد على ما كان يدعيه بعضهم من وصف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بأنه شاعر ؛ ووصف القرآن الذي جاء به بأنه شعر . وما كان يخفى على كبراء قريش أن الأمر ليس كذلك . وأن ما جاءهم به محمد [ صلى الله عليه وسلم ] قول غير معهود في لغتهم . وما كانوا من الغفلة بحيث لا يفرقون بين القرآن والشعر . إنما كان هذا طرفاً من حرب الدعاية التي شنوها على الدين الجديد وصاحبه [ صلى الله عليه وسلم ] في أوساط الجماهير . معتمدين فيها على جمال النسق القرآني المؤثر ، الذي قد يجعل الجماهير تخلط بينه وبين الشعر إذا وجهت هذا التوجيه .
وهنا ينفي الله - سبحانه - أنه علم الرسول الشعر . وإذا كان الله لم يعلمه فلن يعلم . فما يعلم أحد شيئاً إلا ما يعلمه الله . .
ثم ينفي لياقة الشعر بالرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : وما ينبغي له فللشعر منهج غير منهج النبوة . الشعر انفعال . وتعبير عن هذا الانفعال . والانفعال يتقلب من حال إلى حال . والنبوة وحي . على منهج ثابت . على صراط مستقيم . يتبع ناموس الله الثابت الذي يحكم الوجود كله . ولا يتبدل ولا يتقلب مع الأهواء الطارئة ، تقلب الشعر مع الانفعالات المتجددة التي لا تثبت على حال .
والنبوة اتصال دائم بالله ، وتلق مباشر عن وحي الله ، ومحاولة دائمة لرد الحياة إلى الله . بينما الشعر - في أعلى صوره - أشواق إنسانية إلى الجمال والكمال مشوبة بقصور الإنسان وتصوراته المحدودة بحدود مداركه واستعداداته . فأما حين يهبط عن صوره العالية فهو انفعالات ونزوات قد تهبط حتى تكون صراخ جسد ، وفورة لحم ودم ! فطبيعة النبوة وطبيعة الشعر مختلفتان من الأساس . هذه - في أعلى صورها - أشواق تصعد من الأرض . وتلك في صميمها هداية تتنزل من السماء . .
( إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ) . .
ذكر وقرآن . . وهما صفتان لشيء واحد . ذكر بحسب وظيفته . وقرآن بحسب تلاوته . فهو ذكر لله يشتغل به القلب ، وهو قرآن يتلى ويشتغل به اللسان . وهو منزل ليؤدي وظيفة محددة :
ثم أخبر تعالى عن حال نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ورد قول من قال من الكفرة إنه شاعر ، وإن القرآن شعر بقوله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول الشعر ، ولا يزنه ، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلاً كسر وزنه ، وإنما كان يحرز المعنى فقط وأنشد يوماً قول طرفة : [ الطويل ]
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً . . . ويأتيك من لم تزوده بالأخبار{[9808]}
وأنشد يوماً وقد قيل له من أشعر الناس ؟ فقال الذي يقول : [ الطويل ]
ألم ترياني كلما جئت طارقاً . . . وجدت بها وإن لم تطيب طيبا{[9809]}
أتجعل نهبي ونهب العبي . . . د بين الاقرع وعيينة ؟{[9810]}
وقد كان صلى الله عليه وسلم ربما أنشد البيت المستقيم في النادر وروي أنه أنشد بيت ابن رواحة : [ الطويل ]
يبيت يجافي جنبه عن فراشه . . . إذا استثقلت بالمشركين المضاجع{[9811]}
وقال الحسن بن أبي الحسن : أنشد النبي صلى الله عليه وسلم
* كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً *
، فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما : نشهد أنك رسول الله إنما قال الشاعر :
* كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا{[9812]}
قال القاضي أبو محمد : وإصابته الوزن أحياناً لا يوجب أنه يعلم الشعر ، وكذلك قد يأتي أحياناً في نثر كلامه ما يدخل في وزن كقوله يوم حنين ، * أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب *{[9813]}
كذلك يأتي في آيات القرآن الكريم{[9814]} وفي كل كلام وليس كله بشعر ولا هو في معناه .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية تقتضي عندي غضاضة على الشعر ولا بد ، ويؤيد ذلك قول عائشة رضي الله عنها : كان الشعر أبغض الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يتمثل بشعر أخي قيس طرفة فيعكسه ، فقال له أبو بكر : ليس هكذا ، فقال : «ما أنا بشاعر وما ينبغي لي »{[9815]} ، وقد ذهب قوم إلى أن الشعر لا غض عليه ، قالوا وإنما منعه الله من التحلي بهذه الحلية الرفيعة ليجيء القرآن من قبله أغرب فإنه لو كان له إدراك الشعر لقيل في القرآن إن هذا من تلك القوى .
قال القاضي أبو محمد : وليس الأمر عندي كذلك ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من الفصاحة والبيان في النثر في المرتبة العليا ، ولكن كلام الله تعالى يبين بإعجازه ويبرز برصفه ويخرجه إحاطة علم الله من كل كلام ، وإنما منعه الله تعالى من الشعر ترفيعاً له عما في قول الشعراء من التخييل ، وتزويق القول ، وأما القرآن فهو ذكر الحقائق وبراهين ، فما هو بقول شاعر ، وهكذا كان أسلوب كلامه عليه السلام لأنه لا ينطق عن الهوى ، والشعر نازل الرتبة عن هذا كله ، والضمير في { علمناه } عائد على محمد صلى الله عليه وسلم قولاً واحداً ، والضمير في { له } يحتمل أن يعود على محمد ويحتمل أن يعود على القرآن ، وإن كان لم يذكر لدلالة المجاورة عليه ، وبين ذلك قوله تعالى : { إن هو } .