قوله تعالى : { وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء } أي : منكم أنبياء .
قوله تعالى : { وجعلكم ملوكاً } ، أي فيكم ملوكا ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني أصحاب خدم وحشم ، قال قتادة : كانوا أول من ملك الخدم ، ولم يكن لمن قبلهم خدم . وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ، وامرأة ، ودابة ، يكتب ملكا " . وقال أبو عبد الرحمن الجيلي : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم ، قال ألك مسكن تسكنه ؟ قال : نعم ، قال : فأنت من الأغنياء ، قال : فإن لي خادماً ، قال : فأنت من الملوك . قال السدي : { وجعلكم ملوكاً } أحراراً تملكون أمر أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم ، قال الضحاك : كانت منازلهم واسعة ، فيها مياه جارية ، فمن كان مسكنه واسعاً وفيه ماء جار فهو ملك .
قوله تعالى : { وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين } ، يعني عالمي زمانكم ، قال مجاهد : يعني المن ، والسلوى ، والحجر ، وتظليل الغمام .
{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ . . . }
هذه الآيات الكريمة تصور لنا ما جبل عليه بنو إسرائيل من جبن شديد ، وعزيمة خوارة ، وعصيان لرسلهم . وإيثار للذلة مع الراحة على العزة مع الجهاد وهي تحكي بأسلوبها البليغ قصة تاريخية معروفة ، وملخص هذه القصة :
أن بني إسرائيل بعد أن ساروا مع نبيهم موسى - عليه السلام - إلى بلاد الشام ، عقب غرق فرعون أمام أعينهم . أوحى الله - تعالى - إلى موسى أن يختار من قومه اثني عشر نقيبا ، وأمره أن يرسلهم إلى الأرض المقدسة التي كان يسكنها الكنعانيون حينئذ . ليتحسسوا أحوال سكانها ، وليعرفوا شيئا من أخبارهم .
وقد أشار القرآن قبل ذلك إلى هذه القصة بقوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً } ولقد نفذ موسى - عليه السلام - ما أمره به ربه - سبحانه - ، وكان مما قاله موسى للنقباء عند إرسالهم لمعرفة أحوال سكان الأرض المقدسة : " لا تخبروا أحد سواي عما ترونه " .
فلما دخل النقباء الأرض المقدسة ، واطلعوا على أحوال سكانها . وجدوا منهم قوة عظيمة ، وأجساما ضخمة . . فعاد النقباء إلى موسى وقالوا له - وهو في جماعة من بني إسرائيل - : قد جئنا إلى الأرض التي بعثتنا إليها ، فإذا هي في الحقيقة تدر لبنا وعسلا ، وهذا شيء من ثمارها ، غير أن الساكنين فيها أقوياء ، ومدينتهم حصينة . وأخذ كل نقيب منهم ينهى سبطه عن القتال . إلا اثنين منهم ، فإنما نصحا القوم بطاعة نبيهم موسى - عليه السلام - وبقتال الكنعانيين معه . ولكن بني إسرائيل عصوا أمر هذين النقيبين ، وأطاعوا أمر بقية النقباء العشرة " وأصروا على عدم الجهاد ، ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا : يا ليتنا متنا في مصر أو في هذه البرية .
وحاول موسى - عليه السلام - أن يصدهم عما تردوا فيه من جبن وعصيان وأن يحملهم على قتال الجبارين ؛ ولكنهم عموا وصموا .
وأوحى الله - تعالى - إلى موسى أن الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض جزاء عصيانهم وجبنهم .
هذا هو ملخص هذه القصة كما وردت في كتب التفسير والتاريخ . وقد حشا بعض المفسرين كتبهم بأوصاف للجبارين - الذين ورد ذكرهم في الآيات الكريمة - لا تقبلها العقول السليمة ، وليس لها أصل يعتمد عليه بل هي مما يستحي من ذكره كما قال ابن كثير .
هذا ، وقوله - تعالى - : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } كلام مستأنف ساقه الله - تعالى - لبيان بعض ما فعله بنو إسرائيل من رذائل بعد أخذ الميثاق عليهم ، وتفصيل لكيفية نقضهم لهذا الميثاق .
و ( إذا ) ظرف للزمن الماضي بمعنى وقت .
وهو مفعول به لفعل ملاحظ في الكلام ، تقديره اذكر . وقد خوطب بهذا الفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق قرينة الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب ، ليعدد عليهم ما سلف من بعضهم من جنايات .
أي : واذكر يا محمد لهؤلاء اليهود المعاصرين لك ، قول موسى لآبائهم على سبيل النصح والإِرشاد : يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم . أي : تذكروا إنعامه عليكم بالشكر والطاعة .
والمراد بذكر الوقت تذكر ما حدث فيه من وقائع وخطوب .
قال أبو السعود : وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت ، دون ما وقع فيه من حوادث ، - مع أنها هي المقصودة ، لأن الوقت مشتمل على ما وقع فيه تفصيلا فإذا استحضر كان ما وقع فيه بتفاصيله كأنه مشاهد عيانا .
وفي قول موسى لهم - كما حكى القرآن عنه - : { يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } تلطف معهم في الخطاب ، وحمل لهم على شكر النعمة ، واستعمالها فيما خلقت له لكي يزيدهم الله منها . وفيه كذلك تذكير لهم بما يربطهم به من رابطة الدم والقرابة التي تجعله منهم ، يهمه ما يهمهم ، ويسعده ما يسعدهم ، فهو يوجه إليهم ما هو كائن لهدايتهم وسعادتهم .
وقوله - تعالى - : { وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين } بيان لنعم ثلاث أسبغها الله عليهم .
أما النعمة الأولى : فهي جعل كثير من الأنبياء فيهم كموسى وهارون ، واسحق ، ويعقوب ، ويوسف ، - عليهم السلام - . وقد أرسل الله - تعالى - هؤلاء الأنبياء وغيرهم في بني إسرائيل ، لكي يخرجوهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان ، إلى نور الهداية والطاعة والإِيمان .
والتنكير في قوله { أَنْبِيَآءَ } للتكثير والتعظيم . أي : تذكروا يا بني إسرائيل نعم الله عليكم ، وأحسنوا شكرها ، حيث جعل فيكم أنبياء كثيرين يهدونكم إلى الرشد .
قال صاحب الكشاف : " لم يبعث الله في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء " .
وأما النعمة الثانية : فهي جعلهم ملوكا . أي : جعلكم أحراراً تملكون أمر أنفسكم بعد أن كنتم مملوكين لفرعون وقومه ، الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب .
أي : جعلكم تملكون المساكن وتستعملون الخدم ، بعد أن كنتم لا تملكون شيئاً من ذلك وأنتم تحت سيطرة فرعون وقومه .
قال الآلوسي : " أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال عبد الله : ألك زوجة تأوى إليها ؟ قال : نعم ، قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال : نعم . قال : فأنت من الأغنياء . قال الرجل : فإن لي خادما . قال عبد الله : فأنت من الملوك " .
واخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا " .
وهذه النعمة - أي : نعمة الحرية بعد الذل ، والسعة بعد الضيق - من النعم العظمى التي لا يقدرها ويحافظ عليها إلا أصحاب النفوس الكبيرة ، التي تعاف الظلم ، وتأبى الضيم ، وتحسن الشكر لله - تعالى - .
قال صاحب الانصاف : فإن قلت : فلماذا لم يقل إذ جعلكم أنبياء ، كما قال : { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } ؟ قلت : لأن النبوة مزية غير الملك . وآحاد الناس يشارك الملك في كثير مما به صار الملك ملكا ، ولا كذلك النبوة ، فإن درجتها أرفع من أن يشرك من لم تثبت له مع الثابتة نبوته في مزيتها وخصوصيتها ونعتها ، فهذا هو سر تمييز الأنبياء وتعميم الملوك .
وأما النعمة الثالثة : فهي أنه - سبحانه - : آتاهم من ألوان الإِكرام والمنن ما لم يؤت أحدا من عالمي زمانهم . فقد فلق لهم البحر فساروا في طريق يابس حتى نجوا وغرق عدوهم . وأنزل عليهم المن والسلوى ليأكلوا من الطيبات ، وفجر لهم من الحجر اثنتي عشرة عينا حتى يعلم كل أناس مشربهم . . إلى غير ذلك من ألوان النعم التي حباهم الله - تعالى - بها ، والتي كانت تستلزم منهم المبادرة إلى امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه .
قال الآلوسي : و " أل " في { العالمين } للعهد : والمراد عالمي زمانهم . أو للاستغراق والتفضيل من وجه لا يستلزم التفضيل من جميع الوجوه ، فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل : وعلى التقديرين لا يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية ، لأن الخطابات السابقة واللاحقة لبني إسرائيل ، فوجود خطاب في الأثناء لغيرهم مما يخل بالنظم الكريم .
وبعد هذا التذكير بالنعم ، وجه إليهم نداء ثانيا طلب منهم فيه دخول الأرض المقدسة فقال - كما حكى القرآن عنه : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } .
وفي نهاية الدرس يصل السياق إلى الموقف الأخير لبني إسرائيل مع رسولهم ومنقذهم - موسى عليه السلام - على أبواب الأرض المقدسة التي وعدهم الله ؛ وموقفهم كذلك من ميثاق ربهم معهم ؛ وكيف نقضوه ؛ وكيف كان جزاؤهم على نقض الميثاق الوثيق .
( وإذ قال موسى لقومه : يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم . إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا ؛ وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ، ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . قالوا : يا موسى إن فيها قوما جبارين ؛ وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما : ادخلوا عليهم الباب ، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ؛ وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين . قالوا : يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها . فاذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا هاهنا قاعدون . قال : رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين . . قال : فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ، فلا تأس على القوم الفاسقين ) .
إنها حلقة من قصة بني إسرائيل التي فصلها القرآن أوسع تفصيل . . ذلك لحكمة متشعبة الجوانب . .
من جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها . فقد كانوا حربا على الجماعة المسلمة منذ اليوم الأول . هم الذين احتضنوا النفاق والمنافقين في المدينة ؛ وأمدوهم بوسائل الكيد للعقيدة وللمسلمين معا . وهم الذين حرضوا المشركين وواعدوهم وتآمروا معهم على الجماعة المسلمة . وهم الذين تولوا حرب الإشاعات والدس والكيد في الصف المسلم ؛ كما تولوا بث الشبهات والشكوك والتحريفات حول العقيدة وحول القيادة . وذلك كله قبل أن يسفروا بوجوههم في الحرب المعلنة الصريحة . فلم يكن بد من كشفهم للجماعة المسلمة ، لتعرف من هم أعداؤها . ما طبيعتهم ؟ وما تاريخهم ؟ وما وسائلهم ؟ وما حقيقة المعركة التي تخوضها معهم ؟
ولقد علم الله أنهم هم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله ؛ كما كانوا أعداء هدى الله في ماضيهم كله . فعرض لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفا ؛ ووسائلهم كلها مكشوفة .
ومن جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أصحاب آخر دين قبل دين الله الأخير . وقد امتد تاريخهم قبل الإسلام فترة من التاريخ طويلة ؛ ووقعت الانحرافات في عقيدتهم ؛ ووقع منهم النقض المتكرر لميثاق الله معهم ؛ ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف ، كما وقع في أخلاقهم وتقاليدهم . . فاقتضى هذا أن تلم الأمة المسلمة - وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها - بتاريخ القوم ، وتقلبات هذا التاريخ ؛ وتعرف مزالق الطريق ، وعواقبها ممثلة في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم ، لتضم هذه التجربة في حقل العقيدة والحياة - إلى حصيلة تجاربها ؛ وتنتفع بهذا الرصيد وتنفع على مدار القرون . ولتتقي - بصفة خاصة - مزالق الطريق ، ومداخل الشيطان ، وبوادر الانحراف ، على هدى التجارب الأولى .
ومن جوانب هذه الحكمة أن تجربة بني إسرائيل ذات صحائف شتى في المدى الطويل . وقد علم الله أن الأمد حين يطول على الأمم تقسو قلوبها ؛ وتنحرف أجيال منها ؛ وأن الأمة المسلمة التي سيمتد تاريخها حتى تقوم الساعة ، ستصادفها فترات تمثل فيها فترات من حياة بني إسرائيل ؛ فجعل أمام أئمة هذه الأمة وقادتها ومجددي الدعوة في أجيالها الكثيرة ، نماذج من العقابيل التي تلم بالأمم ؛ يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته . ذلك أن أشد القلوب استعصاء على الهدى والاستقامة هي القلوب التي عرفت ثم انحرفت ! فالقلوب الغفل الخامة أقرب إلى الاستجابة ، لأنها تفاجأ من الدعوة بجديد يهزها ، وينفض عنها الركام ، لجدته عليها ، وانبهارها بهذا الجديد الذي يطرق فطرتها لأول مرة . فأما القلوب التي نوديت من قبل ، فالنداء الثاني لا تكون له جدته ، ولا تكون له هزته ؛ ولا يقع فيها الإحساس بضخامته وجديته ، ومن ثم تحتاج إلى الجهد المضاعف ، وإلى الصبر الطويل !
وجوانب شتى لحكمة الله في تفصيل قصة بني إسرائيل ، وعرضها مفصلة على الأمة المسلمة وارثة العقيدة والدين ؛ القوامة على البشر أجمعين . . جوانب شتى لا نملك هنا المضي معها أكثر من هذه الإشارات السريعة . . لنعود إلى هذه الحلقة ، في هذا الدرس ، في هذه السورة :
( وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم . إذ جعل فيكم أنبياء ، وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ) . .
وإننا لنلمح في كلمات موسى - عليه السلام - إشفاقه من تردد القوم ونكوصهم على الأعقاب . فلقد جربهم من قبل في " مواطن كثيرة " في خط سير الرحلة الطويل . . جربهم وقد أخرجهم من أرض مصر ؛ وحررهم من الذل والهوان ، باسم الله وبسلطان الله الذي فرق لهم البحر ، وأغرق لهم فرعون وجنده . فإذا هم يمرون على قوم يعكفون على أصنام لهم ، فيقولون ( يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) . . وما يكاد يغيب عنهم في ميقاته مع ربه حتى يتخذ السامري من الحلي التي سرقوها معهم من نساء المصريين عجلا ذهبا له خوار ؛ ثم إذا هم عاكفون عليه يقولون : إنه إله موسى الذي ذهب لميقاته ! . . وجربهم وقد فجر لهم من الصخر ينابيع في جوف الصحراء ، وأنزل عليهم المن والسلوى طعاما سائغا ، فإذا هم يشتهون ما اعتادوا من أطعمة مصر - أرض الذل بالنسبة لهم - فيطلبون بقلها وقثاءها وفومها وعدسها وبصلها ، ولا يصبرون عما ألفوا من طعام وحياة في سبيل العزة والخلاص ، والهدف الأسمى ، الذي يسوقهم موسى إليه وهم يتسكعون ! . . وجربهم في قصة البقرة التي أمروا بذبحها فتلكأوا وتسكعوا في الطاعة والتنفيذ . . ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ! وجربهم وقد عاد من ميقات ربه ومعه الألواح وفيها ميثاق الله عليهم وعهده . فأبوا أن يعطوا الميثاق وأن يمضوا العهد مع ربهم - بعد كل هذه الآلاء وكل هذه المغفرة للخطايا - ولم يعطوا الميثاق حتى وجدوا الجبل منتوقا فوق رؤوسهم ، ( وظنوا أنه واقع بهم ) ! . .
{ وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء } فأرشدكم وشرفكم بهم ولم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء ، { وجعلكم ملوكا } أي وجعل منكم أو فيكم ، وقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون حتى قتلوا يحيى وهموا بقتل عيسى ، وقيل : لما كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله وجعلهم مالكين لأنفسهم وأمورهم سماهم ملوكا . { وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } من فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ونحوها مما آتاهم الله ، وقيل : المراد بالعالمين عالمي زمانهم .
المعنى واذكر لهم يا محمد على جهة إعلامهم بغير كتبهم ليحققوا نبوتك وينتظم في ذلك نعم الله عليهم وتلقيهم تلك النعم بالكفر وقلة الطاعة والإنابة . وقرأ ابن محيصن «يا قومُ » بالرفع وكذلك حيث وقع من القرآن . وروي ذلك عن ابن كثير . و { نعمة الله } هنا اسم الجنس ، ثم عدد عيون تلك النعم ، والأنبياء الذين جعل فيهم أمرهم مشهور من لدن إسرائيل إلى زمان عسى عليه السلام ، والأنبياء حاطة{[4502]} ومنقذون من النار ، وشرف في الدنيا والآخرة . وقوله : { وجعلكم ملوكاً } يحتمل معاني أحدها أن يعدد عليهم ملك من ملك من بني إسرائيل لأن الملوك شرف في الدنيا وحاطة من نوائبها ، والمعنى الآخر : أن يريد استنقذكم من القبط الذين كانوا يستخدمونكم فصرتم أحراراً تملكون ولا تملكون ، فهم ملوك بهذا الوجه وبنحو هذا فسر السدي وغيره . وقال قتادة إنما قال : { وجعلكم ملوكاً } لأنا كنا نتحدث أنهم أول من خدمه أحد من بني آدم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن القبط كانوا يستخدمون بني إسرائيل . وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم كان يسخر بعضاً مذ تناسلوا وكثروا ، وإنما تختلفت الأمم في معنى التملك فقط ، وقال عبد الله ابن عمرو بن العاص والحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم من كان له مسكن وأمرأة وخادم فهو ملك ، وقيل من له مسكن لا يدخل عليه فيه إلا بإذن فهو ملك ، وقوله تعالى : { وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين } قال فيه أبو مالك وسعيد بن جبير : الخطاب هو من موسى عليه السلام لقومه ، ثم اختلف المفسرون ماذا الذي أوتوا ولم يؤت أحد مثله ؟ فقال مجاهد ، المن والسلوى والحجر{[4502]} والغمام ، وقال غيره : كثرة الأنبياء .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا في كثرة الأنبياء فالعالمون على العموم والإطلاق ، وعلى القول بأن المؤتى هو آيات موسى فالعاَلمون مقيدون بالزمان الذي كانوا فيه ، لأن أمة محمد قد أوتيت من آيات محمد عليه السلام أكثر من ذلك ، قد ظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغمامة قبل مبعثه ، وكلمته الحجارة والبهائم ، وأقبلت إليه الشجرة وحن الجذع ، ونبع الماء من بين أصابعه وشبع كثير من الناس من قليل الطعام ببركته ، وانشق له القمر ، وعاد العود سيفاً ، ورجع الحجر المعترض في الخندق رملاً مهيلاً .
قال القاضي أبو محمد : وهذه المقالة من موسى توطئة لنفوسهم حتى يتعزز ويأخذ الأمر بدخول أرض الجبارين بقوة ، وتنفذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع شأنه .
عطف القصة على القصص والمواعظ . وتقدّم القول في نظائر { وإذ قال } في مواضع منها قوله تعالى : { وإذ قال ربّك للملائكة } في البقرة ( 30 ) .
ومناسبة موقع هذه الآيات هنا أنّ القصة مشتملة على تذكير بنعم الله تعالى عليهم وحثّ على الوفاء بما عاقدوا الله عليه من الطاعة تمهيداً لطلب امتثالهم .
وقدّم موسى عليه السلام أمره لبني إسرائيل بحرب الكنعانيين بتذكيرهم بنعمة الله عليهم ليُهيّىء نفوسهم إلى قبول هذا الأمر العظيم عليهم وليُوثقهم بالنصر إن قاتلوا أعداءهم ، فذكر نعمة الله عليهم ، وعَدّ لهم ثلاث نعم عظيمة :
أولاها : أنّ فيهم أنبياء ، ومعنى جَعْل الأنبياء فيهم فيجوز أن يكون في عمود نسبهم فيما مضى مثل يوسف والأسباط وموسى وهارون ، ويجوز أن يراد جعل في المخاطبين أنبياءَ ؛ فيحتمل أنّه أراد نفسه ، وذلك بعد موت أخيه هارون ، لأنّ هذه القصّة وقعتْ بعد موت هارون ؛ فيكون قوله { أنبياءَ } جمعاً أريد به الجنس فاستوى الإفراد والجمع ، لأنّ الجنسية إذا أريدت من الجمع بطلت منه الجمعية ، وهذا الجِنس انحصر في فرد يومئذٍ ، كقوله تعالى { يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا } [ المائدة : 44 ] يريد محمداً صلى الله عليه وسلم أو أراد من ظهر في زمن موسى من الأنبياء . فقد كانت مريم أخت موسى نبيئة ، كما هو صريح التوراة ( إصحاح 15 من الخروج ) . وكذلك ألْدَاد ومَيْدَاد كانا نبيئين في زمنَ موسى ، كما في التّوراة ( إصحاح11 سفر العدد ) . وموقع النعمة في إقامة الأنبياء بينهم أنّ في ذلك ضمانَ الهدى لهم والجري على مراد الله تعالى منهم ، وفيه أيضاً حسن ذكر لهم بين الأمم وفي تاريخ الأجيال .
والثانية : أنْ جعلهم ملوكاً ، وهذا تشبيه بليغ ، أي كالملوك في تصرّفهم في أنفسهم وسلامتهم من العبوديّة الّتي كانت عليهم للقبط ، وجعلهم سادة على الأمم التي مرّوا بها ، من الآموربين ، والعَناقيين ، والحشبونيين ، والرفائيين ، والعمالقة ، والكنعانيين ، أو استعمل فعل { جعلكم } في معنى الاستقبال مثل { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] قصداً لتحقيق الخبر ، فيكون الخبر بشارة لهم بما سيكون لهم .
والنعمة الثالثة : أنّه آتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، ومَا صدقُ ( ما ) يجوز أن يكون شيئاً واحداً ممّا خَصّ الله به بني إسرائيل ، ويجوز أن يكون مجموع أشياء إذ آتاهم الشريعة الصحيحة الواسعة الهدى المعصومة ، وأيّدهم بالنّصر في طريقهم ، وساق إليهم رزقَهُم المنّ والسلوى أربعين سنة ، وتولّى تربية نفوسهم بواسطة رُسله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ قال موسى لقومه}، وهم بنو إسرائيل، {يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم}، يعني بالنعمة، {إذ جعل فيكم} السبعين الذي جعلهم الله {أنبياء} بعد موسى وهارون، وبعدما أتاهم الله بالصاعقة، {وجعلكم ملوكا}، يعني أغنياء، بعضكم عن بعض، فلا يدخل عليه أحد إلا بإذنه بمنزلة الملوك في الدنيا، ثم قال: {وآتاكم}، يعني وأعطاكم، {ما لم يؤت}، يعني ما لم يعط {أحدا من العالمين}، يعني الخير والتوراة، وما أعطاكم الله عز وجل في التيه من المن والسلوى، وما ظلل عليهم من الغمام وأشباه ذلك مما فضلوا به على غيرهم.
أن يكون للرجل مسكن يأوي إليه، والمرأة يتزوجها، والخادم تخدمه، فهذا أحد الملوك الذين ذكر الله عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا أيضا من الله تعريف لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قديم بتمادي هؤلاء اليهود في الغيّ وبعدهم عن الحقّ وسوء اختبارهم لأنفسهم وشدّة خلافهم لأنبيائهم وبطء إنابتهم إلى الرشاد، مع كثرة نعم الله عندهم وتتابع أياديه وآلائه عليه، مسليا بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عما يحلّ به من علاجهم وينزل به من مقاساتهم في ذات الله. يقول الله له صلى الله عليه وسلم: لا تأس على ما أصابك منهم، فإن الذهاب عن الله والبعد من الحقّ وما فيه لهم الحظّ في الدنيا والاَخرة من عاداتهم وعادات أسلافهم وأوائلهم، وتعزّ بما لاقى منهم أخوك موسى صلى الله عليه وسلم، واذكر إذ قال موسى لهم:"يا قَوْم اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ" يقول: اذكروا أياديَ الله عندكم وآلاءه قِبَلكم وأيامه.
عن ابن عباس، قوله: "اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ "يقول: عافية الله.
وإنما أخترنا ما قلنا، لأن الله لم يخصص من النعم شيئا، بل عمّ ذلك بذكر النعم، فذلك على العافية وغيرها، إذ كانت العافية أحد معاني النعم.
"إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا": يعني بذلك جلّ ثناؤه، أن موسى ذكّر قومه من بني إسرائيل بأيام الله عندهم وبآلائه قِبَلهم، فحرّضهم بذلك على اتباع أمر الله في قتال الجبارين، فقال لهم: اذكروا نعمة الله عليكم أنْ فَضّلَكم بأن جعل فيكم أنبياء يأتونكم بوحيه ويخبرونكم بآياته الغيب، ولم يعط ذلك غيركم في زمانكم هذا. فقيل إن الأنبياء الذين ذكرهم موسى أنهم جُعِلوا فيهم هم الذين اختارهم موسى، إذ صار إلى الجبل وهم السبعون الذين ذكرهم الله، فقال: "واخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا".
"وجَعَلَكُمْ مُلُوكا": سخر لكم من غيركم خدما يخدمونكم. وقال آخرون: كلّ من ملك بيتا وخادما وامرأة، فهو مَلِك كائنا من كان من الناس... فقال قائلو هذه المقالة: إنما قال لهم موسى ذلك، لأنهم كانوا يملكون الدور والخدم، ولهم نساء وأزواج.
وقال آخرون: إنما عنى بقوله: "وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا" أنهم يملكون أنفسهم وأهليهم وأموالهم.
"وآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَمِينَ": اختلف فيمن عنُوا بهذا الخطاب، فقال بعضهم: عُني به أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: عُني به قوم موسى صلى الله عليه وسلم ثم اختلفوا في الذي آتاهم الله ما لم يؤت أحد من العالمين، فقال بعضهم: هو المنّ والسلوى والحجر والغمام.
وقال آخرون: هو الدار والخادم والزوجة.
وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين، خطاب لبني إسرائيل، حيث جاء في سياق قوله: "اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ" ومعطوفا عليه. ولا دلالة في الكلام تدلّ على أن قوله: "وآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَمِينَ" مصروف عن خطاب الذين ابتدئ بخطابهم في أوّل الآية. فإذا كان ذلك كذلك، فأن يكون خطابا لهم أولى من أن يقال: هو مصروف عنهم إلى غيرهم.
فإن ظنّ ظانّ أن قوله: "وآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَمِينَ" لا يجوز أن يكون خطابا لبني إسرائيل، إذ كانت أمة محمد قد أوتيت من كرامة الله نبيها عليه الصلاة والسلام محمدا، ما لم يؤت أحدا غيرهم، وهم من العالمين فقد ظنّ غير الصواب، وذلك أن قوله: "وآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَمِينَ" خطاب من موسى صلى الله عليه وسلم لقومه يومئذٍ، وعنى بذلك عالمي زمانه لا عالمي كلّ زمان، ولم يكن أُوتي في ذلك الزمان من نعم الله وكرامته ما أُوتي قومه صلى الله عليه وسلم أحد من العالمين، فخرج الكلام منه صلى الله عليه وسلم على ذلك لا على جميع كلّ زمان.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم} يحتمل قوله: {اذكروا نعمة الله عليكم} ما ذكر من بعث الرسل والأنبياء عليهم السلام على فترة منهم. ويحتمل ما ذكر على إثره، وهو قوله: {إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} كأنه يقول: اشكروا نعمتي التي أنعمت عليكم من جعل الأنبياء فيكم، ولم يكن ذلك لأمة من الخلق، وجعلكم ملوكا تستنصرون من الأعداء لأن الملوك في بني إسرائيل هم الذين كانوا يتولون القتال و أمر الحرب مع الأعداء كقوله تعالى: {ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله} [البقرة: 246] فأخبر أنه جعل فيهم الأنبياء يعلمونهم أمور الدنيا والآخرة، ويحتاج غيرهم إلى معرفة ذلك؛ وإنما يعرفون ذلك بهم، وجعل فيهم ملوكا ينتصرون من الأعداء، ويقهرونهم، فيقرون، ويشرفون في الدنيا والآخرة.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقال الزجاج: جعلكم الله تملكون أمركم ولا يغلبكم عليه غالب. وقال البلخي: ليس ينكر أن يكون الله جعل لهم الملك والسلطان ووسع عليهم التوسعة التي يكون الإنسان بها ملكا. وقال المؤرج: معناه -بلغة كنانة وهذيل- جعلكم أحرارا. وقال أبو علي: الملك هو الذي له ما يستغني به عن تكلف الأعمال وتحمل المشاق، والتسكع في المعاش...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء} لأنه لم يبعث في أمّة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} لأنه ملكهم بعد فرعون ملكه، وبعد الجبابرة ملكهم: ولأنّ الملوك تكاثروا فيهم تكاثر الأنبياء. وقيل: كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله، فسمِّي إنقاذهم ملكاً. وقيل: الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار. وقيل: من له بيت وخدم. وقيل: من له مال لا يحتاج معه إلى تكلّف الأعمال وتحمل المشاق {مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن العالمين} من فلق البحر، وإغراق العدوّ، وتظليل الغمام، وإنزال المنّ والسلوى، وغير ذلك من الأمور العظام، وقيل: أراد عالمي زمانهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
واذكر لهم يا محمد على جهة إعلامهم بغير كتبهم ليحققوا نبوتك وينتظم في ذلك نعم الله عليهم وتلقيهم تلك النعم بالكفر وقلة الطاعة والإنابة... و {نعمة الله} هنا اسم الجنس، ثم عدد عيون تلك النعم، والأنبياء الذين جعل فيهم أمرهم مشهور من لدن إسرائيل إلى زمان عسى عليه السلام، والأنبياء حاطة ومنقذون من النار، وشرف في الدنيا والآخرة. وقوله: {وجعلكم ملوكاً} يحتمل معاني أحدها أن يعدد عليهم ملك من ملك من بني إسرائيل لأن الملوك شرف في الدنيا وحاطة من نوائبها.
من النعم التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية قوله {وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} وذلك لأنه تعالى خصهم بأنواع عظيمة من الإكرام: أحدها: أنه تعالى فلق البحر لهم، وثانيها: أنه أهلك عدوهم وأورثهم أموالهم، وثالثها: أنه أنزل عليهم المن والسلوى، ورابعها: أنه أخرج لهم المياه العذبة من الحجر، وخامسها: أنه تعالى أظلل فوقهم الغمام، وسادسها: أنه لم يجتمع لقوم الملك والنبوة كما جمع لهم، وسابعها: أنهم في تلك الأيام كانوا هم العلماء بالله وهم أحباب الله وأنصار دينه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر سعة مملكته وتمام علمه وشمول قدرته أتبع ذلك الدلالة عليه بقصة بني إسرائيل في استنقاذهم من أسر العبودية والرق وإعلاء شأنهم وإيراثهم أرض الجبارين بعد إهلاك فرعون وجنوده وغير ذلك مما تضمنته القصة، إظهاراً -بعدم ردهم إلى مصر التي باد أهلها- لتمام القدرة وسعة الملك ونفوذ الأمر، وهي مع ذلك دالة على نقضهم الميثاق وقساوتهم ونقض ما ادعوه من بنوتهم ومحبتهم، وذلك أنها ناطقة بتعذيبهم وتفسيقهم وتبرئهم من الله، ولا شيء من ذلك فعل حبيب ولا ولد، فقال عاطفاً على نعمة في
{واذكروا نعمة الله عليكم} [المائدة: 7] تذكيراً لهذه الأمة بنعمة التوثيق للسمع والطاعة التي أباها بنو إسرائيل بعدما رأوا من الآيات، وبما كف عنهم على ضعفهم وشجع به قلوبهم، وألزمهم الطاعة وكره إليهم المعصية بضد ما فعل ببني إسرائيل -وغير ذلك مما يرشد إليه إنعام النظر في القصة: {وإذ} أي واذكروا حين {قال موسى لقومه} أي من اليهود {يا قوم اذكروا} أي بالقلب واللسان، أي ذكر اعتبار واتعاظ بما لكم من قوة القيام بما تحاولونه ليقع منكم الشكر {نعمة الله} أي إنعام الملك الأعظم الذي له الإحاطة بالجلال والإكرام، وعبر عن الإنعام بالغاية لأنها المقصود {عليكم} وعظم ذلك التذكير بالاسم الأعظم، ونبه بذكر ظرفها على أجل النعم، وهي النبوة المنقذة لهم من النار فقال: {إذ} أي حين {جعل فيكم} وبشرهم بمن يأتي بعده من الأنبياء من بني إسرائيل فجمع جمع الكثرة في قوله: {أنبياء} أي يحفظونكم من المهالك الدائمة، ففعل معكم- بذلك وغيره من النعم التي فضلكم بها على العالمين في تلك الأزمان -فعل المحب مع حبيبه والوالد مع ولده، ومع ذلك عاقبكم حين عصيتم، وغضب عليكم إذ أبيتم، فعلم أن الإكرام والإهانة دائران بعد مشيئته على الطاعة والمعصية.
ولما نقلهم من الحيثية التي كانوا فيها عبيداً لفرعون، لا يصلحون معها لملك، ولا تحدثهم أنفسهم به، إلى حيثية الحرية القابلة لأن يكون كل منهم معها ملكاً بعد أن أرسل فيهم رسولاً وبشر بأنه يتبعه من الأنبياء ما لم يكن في أمة من الأمم غيرهم، قال: {وجعلكم ملوكاً} أي فكما جعلكم كذلك بعد ما كنتم غير طامعين في شيء منه، فقد نقله منكم وجعله في غيركم بتلك القدرة التي أنعم عليكم بها، وذلك لكفركم بالنعم وإيثاركم الجهل على العلم، فإنكاركم لذلك وتخصيص النعم بكم تحكم وترجيح بلا مرجح، ويوضح ذلك أن كفر النعمة سبب لزوالها، وقد كانوا يهددون في التوراة وغيرها بما هم فيه الآن من ضرب الذلة والمسكنة التي لا يصلحون معها لملك إن هم كفروا- كما سيأتي بعض ذلك في هذه السورة.
ولما ذكرهم تعالى بما ذكرهم به من النعم العامة، أتبعه التذكير بنعمة خاصة فقال: {وآتاكم ما لم يؤت} أي في زمانكم ولا فيما قبله من سالف الزمان -كما اقتضاه التعبير بلم {أحداً من العالمين} من الآيات التي أظهرها على يد موسى عليه السلام، فأخرجكم بها من الظلمات إلى النور، والكتاب الذي جعله تبياناً لكل شيء.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
...فمقتضى هذه النعم المبادرة إلى امتثال أوامر المنعم، شكرا له.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أقام الله تعالى الحجج القيمة على بني إسرائيل، وأثبت لهم رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى فيما أوحاه إليه بشأنهم وشأن كتبهم وأنبيائهم من البشارات وأخبار الغيب وتحريف الكتب ونسيان حظ منها، ونحو ذلك من الآيات الدالة على صدقه، وكون ما جاء به من عند الله تعالى هو من جنس ما جاء به أنبياؤهم، إلا أنه أكمل منه على سنة الترقي في البشر، وأيد ذلك بدحض شبهاتهم وإبطال دعاويهم وبيان مناشئ غرورهم، ثم لما لم يزدهم ذلك كله إلا كفرا وعنادا – بين الله تعالى في هذه الآيات واقعة من وقائعهم مع موسى عليه الصلاة والسلام الذي أخرجهم الله على يديه من الرق والعبودية واضطهاد المصريين لهم، إلى الحرية والاستقلال وملك أمرهم، وكونهم على هذا كله كانوا يخالفونه ويعاندونه حتى فيما يدعوهم إليه من العمل الذي تتم به النعمة عليهم في دنياهم التي هي أكبر همهم، ليعلم الرسول بهذا أن مكابرة الحق ومعاندة الرسل خلق من أخلاقهم الموروثة عن سلفهم، فيكون ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم ومزيد عرفان بطبائع الأمم وسنن الاجتماع البشري. وبهذا يظهر حسن نظم الكلام ووجه اتصال لاحقه بسابقه.
أي واذكر أيها الرسول لبني إسرائيل وسائر الناس الذين تبلغهم دعوة القرآن إذ قال موسى لقومه بعد أن أنقدهم من ظلم فرعون وقومه وأخرجهم من أرض العبودية: اذكروا نعمة الله عليكم بالشكر له والطاعة لأن ذلك يوجب المزيد، وتركه يوجب المؤاخذة والعذاب الشديد: ولفظ نعمة يفيد العموم بإضافته إلى اسم الله تعالى، وقد بين لهم موسى مراده بهذا العموم بذكر ثلاثة أشياء كانت بالفعل، بعد نعمة إنقاذهم من المصريين التي هي بمعنى النفي والسلب، وهذه الأشياء الحاصلة المشهودة هي أعظم أركان النعم ومجامعها التي يندرج فيها ما لا يحصى من الجزئيات الدينية والدنيوية، وهاك بيانها: الأول: -وهو أشرفها – جعل كثير من الأنبياء فيهم. وهذا يصدق بوجود المبلغ لذلك ووجود أخيه هارون ومن كان قبلهما عليهم السلام، وتشعر العبارة مع ذلك بأن النعمة أوسع، وأن عدد هؤلاء الأنبياء كثير أو سيكون كثيرا، بناء على أن المراد بالجعل بيان الشأن، لا مجرد الحصول بالفعل في الزمنين الماضي والحال..
الثاني: جعلهم ملوكا. لولا ما ورد في التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لكانت هذه النعمة موضع اشتباه عند المتأخرين الضعفاء في فهم العربية، لأن بني إسرائيل لم يكن فيهم ملوك على عهد موسى وإنما كان أول ملوكهم – بالمعنى العرفي لكلمة ملك وملوك – شاول بن قيس ثم داود الذي جمع بين النبوة الملك. وإن من يفهم العربية حق الفهم يجزم بأنه ليس المراد أنه جعل أولئك المخاطبين رؤساء للأمم والشعوب يسوسونها ويحكمون بينها، ولا أنه جعل بعضهم ملوكا لأنه قال (وجعلكم ملوكا) ولم يقل: وجعل فيكم ملوكا. كما قال: جعل فيكم أنبياء، فظاهر هذه العبارة أنهم كلهم صاروا ملوكا بعد أن كانوا كلهم عبيدا للقبط. بل معنى الملك هنا الحر المالك لأمر نفسه، وتدبير أمر أهله، فهو تعظيم لنعمة الحرية والاستقلال، بعد ذلك الرق والاستعباد. يدل على ذلك التفسير المأثور، ففي حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا عند ابن أبي حاتم (كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا)..
وذهب بعض المفسرين إلى أن المعنى أنه جعلهم ملوكا بالقوة والاستعداد، بما آتاهم من الحرية والاستقلال، وشريعة التوراة العادلة التي يرتقون بها في مراقي الاجتماع وهو بشارة بأنه سيكون منهم ملوك بالفعل، لأن ما استعدت له الأمة من ذلك في مجموعها، لا بد أن يظهر أثره بعد ذلك في بعض أفرادها. وهذا المعنى لا يعارض ما قبله، بل يجامعه ويتفق معه، فإن تلك المعيشة المنزلية الراضية، هي الأصل في الاستعداد لهذه العيشة الثانية،- عيشة الملك والسلطة -. فإن الشعوب التي يفسد فيها نظام المعيشة المنزلية، لا تكون أمما عزيزة قوية، فهي إذا كان لها ملك تضيعه فكيف تكون أهلا لتأسيس ملك جديد؟ فليعتبر المسلمون بهذا، ولينظروا أين هم من المعيشة الأهلية لتي وصفناها!
الأمر الثالث: إيتاؤهم ما لم يؤت أحد من العالمين، أي عالمي زمانهم وشعوبه التي كانت مستعبدة للملوك العتاة الطغاة كالقبط والبابليين...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لما امتن الله على موسى وقومه بنجاتهم من فرعون وقومه وأسرهم واستبعادهم، ذهبوا قاصدين لأوطانهم ومساكنهم، وهي بيت المقدس وما حواليه، وقاربوا وصول بيت المقدس، وكان الله قد فرض عليهم جهاد عدوهم ليخرجوه من ديارهم. فوعظهم موسى عليه السلام؛ وذكرهم ليقدموا على الجهاد فقال لهم: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بقلوبكم وألسنتكم. فإن ذكرها داع إلى محبته تعالى ومنشط على العبادة، {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ} يدعونكم إلى الهدى، ويحذرونكم من الردى، ويحثونكم على سعادتكم الأبدية، ويعلمونكم ما لم تكونوا تعلمون {وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا} تملكون أمركم، بحيث إنه زال عنكم استعباد عدوكم لكم، فكنتم تملكون أمركم، وتتمكنون من إقامة دينكم. {وَآتَاكُمْ} من النعم الدينية والدنيوية {مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} فإنهم في ذلك الزمان خيرة الخلق، وأكرمهم على الله تعالى. وقد أنعم عليهم بنعم ما كانت لغيرهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي نهاية الدرس يصل السياق إلى الموقف الأخير لبني إسرائيل مع رسولهم ومنقذهم -موسى عليه السلام- على أبواب الأرض المقدسة التي وعدهم الله؛ وموقفهم كذلك من ميثاق ربهم معهم؛ وكيف نقضوه؛ وكيف كان جزاؤهم على نقض الميثاق الوثيق.
(وإذ قال موسى لقومه: يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم. إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا؛ وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين. يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم، ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين. قالوا: يا موسى إن فيها قوما جبارين؛ وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون. قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما: ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون؛ وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين. قالوا: يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها. فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون. قال: رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين.. قال: فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، فلا تأس على القوم الفاسقين).
إنها حلقة من قصة بني إسرائيل التي فصلها القرآن أوسع تفصيل.. ذلك لحكمة متشعبة الجوانب..
من جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها. فقد كانوا حربا على الجماعة المسلمة منذ اليوم الأول. هم الذين احتضنوا النفاق والمنافقين في المدينة؛ وأمدوهم بوسائل الكيد للعقيدة وللمسلمين معا. وهم الذين حرضوا المشركين وواعدوهم وتآمروا معهم على الجماعة المسلمة. وهم الذين تولوا حرب الإشاعات والدس والكيد في الصف المسلم؛ كما تولوا بث الشبهات والشكوك والتحريفات حول العقيدة وحول القيادة. وذلك كله قبل أن يسفروا بوجوههم في الحرب المعلنة الصريحة. فلم يكن بد من كشفهم للجماعة المسلمة، لتعرف من هم أعداؤها. ما طبيعتهم؟ وما تاريخهم؟ وما وسائلهم؟ وما حقيقة المعركة التي تخوضها معهم؟
ولقد علم الله أنهم هم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله؛ كما كانوا أعداء هدى الله في ماضيهم كله. فعرض لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفا؛ ووسائلهم كلها مكشوفة.
ومن جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أصحاب آخر دين قبل دين الله الأخير. وقد امتد تاريخهم قبل الإسلام فترة من التاريخ طويلة؛ ووقعت الانحرافات في عقيدتهم؛ ووقع منهم النقض المتكرر لميثاق الله معهم؛ ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف، كما وقع في أخلاقهم وتقاليدهم.. فاقتضى هذا أن تلم الأمة المسلمة -وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها- بتاريخ القوم، وتقلبات هذا التاريخ؛ وتعرف مزالق الطريق، وعواقبها ممثلة في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم، لتضم هذه التجربة في حقل العقيدة والحياة -إلى حصيلة تجاربها؛ وتنتفع بهذا الرصيد وتنفع على مدار القرون. ولتتقي- بصفة خاصة -مزالق الطريق، ومداخل الشيطان، وبوادر الانحراف، على هدى التجارب الأولى.
ومن جوانب هذه الحكمة أن تجربة بني إسرائيل ذات صحائف شتى في المدى الطويل. وقد علم الله أن الأمد حين يطول على الأمم تقسو قلوبها؛ وتنحرف أجيال منها؛ وأن الأمة المسلمة التي سيمتد تاريخها حتى تقوم الساعة، ستصادفها فترات تمثل فيها فترات من حياة بني إسرائيل؛ فجعل أمام أئمة هذه الأمة وقادتها ومجددي الدعوة في أجيالها الكثيرة، نماذج من العقابيل التي تلم بالأمم؛ يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته. ذلك أن أشد القلوب استعصاء على الهدى والاستقامة هي القلوب التي عرفت ثم انحرفت! فالقلوب الغفل الخامة أقرب إلى الاستجابة، لأنها تفاجأ من الدعوة بجديد يهزها، وينفض عنها الركام، لجدته عليها، وانبهارها بهذا الجديد الذي يطرق فطرتها لأول مرة. فأما القلوب التي نوديت من قبل، فالنداء الثاني لا تكون له جدته، ولا تكون له هزته؛ ولا يقع فيها الإحساس بضخامته وجديته، ومن ثم تحتاج إلى الجهد المضاعف، وإلى الصبر الطويل!
وجوانب شتى لحكمة الله في تفصيل قصة بني إسرائيل، وعرضها مفصلة على الأمة المسلمة وارثة العقيدة والدين؛ القوامة على البشر أجمعين.. جوانب شتى لا نملك هنا المضي معها أكثر من هذه الإشارات السريعة.. لنعود إلى هذه الحلقة، في هذا الدرس، في هذه السورة:
(وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم. إذ جعل فيكم أنبياء، وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين. يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين)..
وإننا لنلمح في كلمات موسى- عليه السلام -إشفاقه من تردد القوم ونكوصهم على الأعقاب. فلقد جربهم من قبل في "مواطن كثيرة "في خط سير الرحلة الطويل.. جربهم وقد أخرجهم من أرض مصر؛ وحررهم من الذل والهوان، باسم الله وبسلطان الله الذي فرق لهم البحر، وأغرق لهم فرعون وجنده. فإذا هم يمرون على قوم يعكفون على أصنام لهم، فيقولون (يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة).. وما يكاد يغيب عنهم في ميقاته مع ربه حتى يتخذ السامري من الحلي التي سرقوها معهم من نساء المصريين عجلا ذهبا له خوار؛ ثم إذا هم عاكفون عليه يقولون: إنه إله موسى الذي ذهب لميقاته!.. وجربهم وقد فجر لهم من الصخر ينابيع في جوف الصحراء، وأنزل عليهم المن والسلوى طعاما سائغا، فإذا هم يشتهون ما اعتادوا من أطعمة مصر- أرض الذل بالنسبة لهم -فيطلبون بقلها وقثاءها وفومها وعدسها وبصلها، ولا يصبرون عما ألفوا من طعام وحياة في سبيل العزة والخلاص، والهدف الأسمى، الذي يسوقهم موسى إليه وهم يتسكعون!.. وجربهم في قصة البقرة التي أمروا بذبحها فتلكأوا وتسكعوا في الطاعة والتنفيذ.. (فذبحوها وما كادوا يفعلون)! وجربهم وقد عاد من ميقات ربه ومعه الألواح وفيها ميثاق الله عليهم وعهده. فأبوا أن يعطوا الميثاق وأن يمضوا العهد مع ربهم- بعد كل هذه الآلاء وكل هذه المغفرة للخطايا -ولم يعطوا الميثاق حتى وجدوا الجبل منتوقا فوق رؤوسهم، (وظنوا أنه واقع بهم)!..
ساعة تسمع "إذ "فاعلم أنها ظرفية تعني "حين "كأن الحق يقول: اذكر حين قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم ويقول الحق لرسوله ذلك لأن هذا اللون من الذكر يعين الرسول صلى الله عليه وسلم على تحمل ما يتعرض له في أمر الدعوة والرسالة سواء من ملاحدة أو من أهل كتاب. إن الحق حينما قال: "وإذ قال موسى لقومه" أي اذكر يا محمد، أو أذكر يا من تتبع محمدا، أو اذكر يا من تقرأ القرآن إذ قال موسى لقومه: يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم، ولا يقول موسى لقومه: "يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم" إلا إذا كان قد رأى منهم عملا لا يتناسب مع النعم التي أنعم الله بها عليهم،... فكأن قوم موسى قد أرهقوه وتحمل منهم الكثير، لدرجة أنه قال لهم على سبيل الزجر ما قد يجعلهم يفيقون وينتبهون ويفطنون إلى ذكر نعمة الله عليهم، ومعنى ذكر النعمة هو الاستماع إلى منهج الله وتنفيذ أوامر الحق واجتناب النواهي. "وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم} وعرفنا أن" النعمة "يقصد بها الجنس والمراد بها النعم كلها، أو كأن كل نعمة على انفرادها خليقة وجديرة أن تذكر وتشكر والدليل على أن النعمة يراد بها كل النعم أن الله قال: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (من الآية34سورة إبراهيم). ومادام عد النعمة لا نستطيع معه أن نعرف إحصاءها فهي نعم متعددة إذن فالمراد بالنعمة كل النعم لأنها اسم جنس." وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم "وذكر النعمة يؤدي إلى شكر المنعم ويؤدي أيضا إلى الاستحياء من أن نعصى من أنعم ويجعلنا نستحي أن نأخذ نعمته لتكون معينا لنا على معصيته،" اذكروا نعمة الله عليكم "وهي نعم كثيرة تمتعوا بها،...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
صورة من صور انحراف بني إسرائيل:
وهذه صورةٌ حيّةٌ من صور هذا الشعب المنحرف من بني إسرائيل، بعد أن خلّصهم الله من فرعون على يد نبيّه موسى (ع) الذي كان واحداً منهم أرسله إليهم واصطفاه برسالته، ليحرّرهم من العبوديّة المتعمِّقة في داخلهم من جرّاء استضعاف فرعون لهم، وذلك عبر قيم الحريّة المتمثِّلة في توحيد الله، والكفر بكل الطغاة والجبابرة من آلهة البشر، والشعور بالمعنى الإنساني الحرِّ لوجودهم.. وانطلق معهم نبيّهم موسى (ع) بأسلوب الرسالة الَّذي يخاطب فيهم إنسانيتهم، ليوحي إليهم بحسّ الكرامة في ذاتهم، ويعلمهم أنَّ العقيدة والالتزام والطّاعة كلّها لا تمثّل تعليمات يصدرها الكبار إليهم كما تعوّدوا في عهد عبوديتهم لفرعون، بل هي فكرةٌ وإرادةٌ ومعاناة، وحركةٌ داخليّةٌ تنطلق في رحاب الكون، ليتحول جهدها كله إلى فعل إيمان. ولذلك كان يدعوهم إلى التأمُّل والتفكُّر والتذكُّر والقراءة والحوار.. وهو قد خاض معهم الحوار في كل ما يطرأ عليهم من مشاكل، ليعلّمهم كيف يفكرون، وكيف يشاركونه الفكر، ولكنَّهم كانوا يبتعدون عنه كلما اقترب إليهم، وبدأوا يتمرّدون عليه في أكثر من موقف، وذلك بسبب ما اعتادوا عليه من عبوديّة، فكانوا ينتظرون منه (ع) أن يعاملهم كما عاملهم فرعون، فيستضعفهم ويستعبدهم من خلال حكمه، كي يشعروا بالاستقرار، وكانوا يعتبرون أنَّ معنى خلاصهم من فرعون، هو أن يعيشوا حالة استرخاء ودعة وطمأنينة بعيداً عن كل أجواء الصراع ومشاكله، فلم يكونوا مستعدين للقتال، بل كانوا يتحفزون للهرب عند أول دعوة للمعركة، ولكنَّ شخصيّة الرسول (ص) لا تلتقي بشخصيَّة فرعون من قريب أو من بعيد، فإنَّ هناك فرقاً بين من يريد النَّاس لنفسه، وبين من يريدهم لله ولأنفسهم من موقع صلاحهم، ولهذا لم يستطع موسى (ع) النجاح معهم، ولم يكن من خطّته أن يحقق النّجاح على هذا المستوى، لأنَّه كان يعمل على تغيير مفاهيمهم وروحيتهم وطريقتهم في التفكير والعمل. ولذلك كانت الموعظة الهادئة والانسجام مع مطالبهم والعفو عن خطاياهم معه هو السبيل إلى الوصول إلى بعض هذا الهدف الَّذي استطاع أن يعطي الساحة بعض النماذج الّتي ارتفعت إلى مستوى الرسالة فعاشت مع موسى آفاقه وأحلامه... وتمثِّل هذه الآيات أحد نماذج أسلوب موسى معهم في الحوار، وأسلوبهم في الهزيمة النفسيّة والتمرُّد عليه. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20] فهو دعاهم إلى فترة من التأمُّل، ليستعيدوا فيها تاريخهم المظلم الغارق بالعبوديّة والظلام، وليقارنوا بينه وبين تاريخهم الجديد الَّذي منحهم الله فيه الحريّة على يد رسوله بالمعجزات الخارقة، وجعل منهم أنبياء فأكرمهم برسالته، وصيّرهم ملوكاً، رزقهم من النعم ما لم يؤته لأحد من العالمين الَّذين عاصروهم. وقد كانت هذه الدعوى منه كي يواجهوا الحاضر والمستقبل من هذا الموقع، ليرتفعوا إلى المستوى الَّذي أراد الله أن يرفعهم إليه، فيتحملوا مسؤوليّة الرسالة معه، ويعملوا على التحرك من أجل التغيير بقيادته.