فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (20)

{ وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ( 20 ) }

{ وإذ قال موسى لقومه } جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما فعلت بنو إسرائيل بعد أخذ الميثاق ، وإذ نصب على أنه مفعول لفعل مقدر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق تلوين الخطاب ، وصرفه عن أهل الكتاب ليعدد عليهم ما صدر عن بعضهم من الجنايات ، أي واذكر لهم وقت قول موسى لقومه ناصحا لهم ومستميلا لهم بإضافتهم إليه .

{ يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم } وقرأ ابن كثير يا قوم بضم الميم ، وكذا قرأ فيما أشبهه ، تقديره يا أيها القوم اذكروا نعمة الله عليكم وقت هذا الجعل ، وإيقاع الذكر على الوقت مع كون المقصود ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة لأن الأمر بذكر الوقت أمر بذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني ، ولأن الوقت مشتمل على ما وقع فيه تفصيلا فإذا استحضر كان ما وقع حاضرا بتفاصيله كأنه مشاهد عيانا .

{ إذ جعل فيكم أنبياء } أي اذكروا إنعامه تعالى عليكم في وقت جعله أو اذكروا نعمته كائنة عليكم في وقت جعله فيما بينكم من أقربائكم أنبياء ذوي عدد كثير ، وأولي شأن خطير ، حيث لم يبعث من أمة من الأمم ما بعث من بني إسرائيل من الأنبياء .

{ وجعلكم ملوكا } أي فيكم ومنكم ، وإنما حذف الظرف لظهور أن معنى الكلام على تقديره ، ويمكن أن يقال : إن منصب النبوة لما كان لعظم قدره وجلالة رتبته بحيث لا ينسب إلى غيره من هوله قال فيه : { إذ جعل فيكم أنبياء } ولما كان منصب الملك مما يجوز نسبته إلى غير من قام به كما يقول قرابة الملك نحن ملوك قال فيه : { وجعلكم ملوكا } وقيل المراد بالملك أنهم ملكوا أمرهم بعد أن كانوا مملوكين لفرعون ، فهم جميعا ملوك بهذا المعنى .

وقيل معناه أنه جعلهم ذوي منازل لا يدخل عليهم غيرهم إلا بإذن وقيل غير ذلك ، قال قتادة : ملكهم الخدم ، وكانوا أول من ملك الخدم ، ولم يكن لمن قبلهم خدم ، وقال ابن عباس : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار يسمى ملكا ، وعنه قال : الزوجة والبيت والخادم ، وعنه قال : المرأة والخادم{[613]} .

وقال الضحاك : كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية ومن كان مسكنه واسعا وفيه ماء جار فهو ملك .

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا ، وأخرج ابن جرير والزبير بن بكار عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بيت له وخادم فهو ملك{[614]} .

وأخرج أبو داود في مراسليه عن زيد بن أسلم في الآية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجة ومسكن وخادم ، وعن ابن عمرو بن العاص أنه سأله رجل : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ قال : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم ، قال : ألك مسكن ؟ قال : نعم ، قال : فأنت من الأغنياء ، قال : إن لي خادما قال فأنت من الملوك ، وقال مجاهد جعل لهم أزواجا وخدما وبيوتا{[615]} .

وقد ثبت في الحديث الصحيح ( من أصبح منكم معافى في جسده آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) {[616]} والظاهر أن المراد بالآية الملك الحقيقي ، ولو كان بمعنى آخر لما كان للامتنان به كثير معنى .

فإن قلت : قد جعل غيرهم ملوكا كما جعلكم ، قلت قد كثر الملوك فيهم كما كثر الأنبياء ، فهذا وجه الامتنان .

{ وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } أي من المن والسلوى والحجر والغمام وكثير الأنبياء وكثرة الملوك وإهلاك عدوكم وغير ذلك ، والمراد عالمي زمانهم أو الأمم الخالية إلى زمانهم .

وقيل : إن الخطاب ههنا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو عدول عن الظاهر لغير موجب والصواب ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أنه من كلام موسى لقومه ، وخاطبهم بهذا الخطاب توطئة وتمهيدا لما بعده من أمره لهم بدخول الأرض المقدسة .


[613]:ابن كثير2/36.
[614]:روى مسلم في"صحيحه" 18/110بشرح النووي، وابن جرير10/161عن أبي عبد الرحمان الحبلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، وسأله رجل، فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين، فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ فقال: نعم. قال ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. قال: فإن لي خادما، قال فأنت من الملوك.
[615]:ابن كثير2/36.
[616]:صحيح الجامع5918.