التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (20)

قوله تعالى : { وإذ قال موسى لقومه يقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ( 20 ) يقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ( 21 ) قالوا يموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ( 22 ) قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ( 23 ) قالوا يا موسى لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ( 24 ) قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ( 25 ) قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين } .

هذا نصيب من قصة إسرائيل مع نبيهم ومنقذهم كليم الله موسى وأخيه هارون عليهما الصلاة والسلام . وقصة موسى مع قومه مريرة أليمة تثير في النفس الدهشة والحيرة ، وذلك لغرابة الطبع وشذوذ الفطرة ، ولفرط ما لاقاه موسى من قومه في كيفية تفكيرهم وعجيب تصرفهم وسلوكهم بما ليس له في تاريخ الشعوب والمجتمعات نظير .

وهذه الآيات تتجلى فيها الصورة عن طبيعة بني إسرائيل لتأتي واضحة متبينة للعيان لا ينكرها أو يغفل عنها إلا خاسئ كذاب أو غبي موغل في الضلالة والجهالة .

قوله : { وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا } ذلك مما امتن الله به على بني إسرائيل . فلقد امتن عليهم بمنن كثيرة لم يقدموا لله الشكران عليها ، بل غالوا في الجحود والتغاضي والنسيان وأول هذه المنن أن جعل منهم أنبياء . فإن الله ما بعث في أمة من الأمم مثل ما بعثه في بني إسرائيل من الأنبياء .

وثاني هذه المنن أن جعلهم ملوكا . وتأويل ذلك يحتمل وجوها ثلاثة :

أحدهما : أنه جعلهم أحرارا يملكون أنفسهم بعد ما كانوا مملوكين في أيدي القبط ، فصاروا بعد ذلك سادة غالبين لا مغلوبين ولا مقهورين .

ثانيها : أنهم جميعا ملوك . والملك من كان له الزوجة والخادم والدار .

وقيل : من كان له مركب ونزل وخادم سمي ملكا . وجملة ذلك أن من أوتي أسباب الرفاهة والراحة في الدنيا سمي ملكا . وفي الحديث " من أصبح منكم معافى في جسده آمنا في سربه{[931]} عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " .

ثالثها : لكثرة الملوك فيهم ، صاروا كلهم كأنهم ملوك لسلوكهم مسلكهم في السعة والترفه ، أو لأن الملوك تكاثروا فيهم تكاثر الأنبياء{[932]} .

قوله : { وءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } وهذه المنة الثالثة من الله على بني إسرائيل إذ اختصهم بجملة عطايا ما أعطيت لغيرهم من الأمم . وذلك من فضل الله عليهم ليخبتوا له حق الإخبات ويشكروه حق الشكران لكنهم عتوا وعصوا .

ومن هذه العطايا فلق البحر عقب ضربه بالعصا . وإغراق فرعون وزبانيته وجنوده ، وتراكم المياه على حفاف الطرق وسك البحر كأنها الجبال الشوامخ لتمر أسباط إسرائيل الاثنا عشرة وهي آمنة مطمئنة ، وتظليلهم بالغمام ، وانفجار الماء من الصخر الصلد ، وإنزال المن والسلوى وغير ذلك مما من الله عليهم من العطايا المخصوصة .

وقوله : { العالمين } ألف التعريض يحتمل معنيين . أحدهما : العهد . أي أن الله آتاهم من الآلاء والعطايا ما لم يؤت أحدا من العالمين في زمانهم .

ثانيهما : الاستغراق . فيكون التأويل أنهم أعطوا جملة عطايا لم تعطها أمة من الأمم . وذلك مثل كثرة الأنبياء ، والمن والسلوى ، وانفلاق البحر وغير ذلك مما ستكون لله به الحجة عليهم يوم القيامة لعتوهم وجحودهم النعم . لكنهم مع ذلك ليسوا خير الأمم كافة ولا أفضلها فإن تفضيل الأمة من عدة وجوه لا يستلزم تفضيلها من كل الوجوه . فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل . وعلى أية حال فليس أفضل ولا أكرم ولا أصدق من أمة الإسلام . فهي بكريم محتدها وكمال ملتها وسداد شريعتها وروعة نبيها لا جرم أنها على الذروة السامقة من سلامة الفطرة وجمال الطبائع والأخلاق وحميد الخصال والصفات .


[931]:- السرب، بفتح السين، أي الماشية، والطريق. انظر القاموس المحيط ص 123.
[932]:- تفسير الرازي ج 11 ص 200 وروح المعاني ج 5 ص 105.