فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (20)

هذه الآيات متضمنة للبيان من الله سبحانه ، بأن أسلاف اليهود الموجودين في عصر محمد صلى الله عليه وسلم تمرّدوا على موسى ، وعصوه ، كما تمرّد هؤلاء على نبينا صلى الله عليه وسلم وعصوه ، وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم . وروي عن عبد الله بن كثير أنه قرأ «يا قوم اذكروا » بضم الميم ، وكذا قرأ فيما أشبهه ، وتقديره : يا أيها القوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء : أي وقت هذا الجعل ، وإيقاع الذكر على الوقت مع كون المقصود ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة ؛ لأن الأمر بذكر الوقت أمر بذكر ما وقع فيه بطريق الأولى ، وامتنّ عليهم سبحانه بجعل الأنبياء فيهم مع كونه قد جعل أنبياء من غيرهم ، لكثرة من بعثه من الأنبياء منهم قوله : { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً } أي : وجعل منكم ملوكاً ، وإنما حذف حرف الجرّ لظهور أن معنى الكلام على تقديره ، ويمكن أن يقال : إن منصب النبوّة لما كان لعظم قدره وجلالة خطره بحيث لا ينسب إلى غير من هو له قال فيه : { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء } ولما كان منصب الملك مما يجوز نسبته إلى غير من قال به ، كما تقول قرابة الملك : نحن الملوك ، قال فيه { وَجَعَلَكُمْ ملُوكاً } وقيل المراد بالملك : أنهم ملكوا أمرهم بعد أن كانوا مملوكين لفرعون ، فهم جميعاً ملوك بهذا المعنى . وقيل معناه : أنه جعلهم ذوي منازل لا يدخل عليهم غيرهم إلا بإذن ؛ وقيل غير ذلك . والظاهر أن المراد من الآية الملك الحقيقي ، ولو كان بمعنى آخر لما كان للامتنان به كثير معنى . فإن قلت : قد جعل غيرهم ملوكاً كما جعلهم . قلت : قد كثر الملوك فيهم كما كثر الأنبياء ، فهذا وجه الامتنان . قوله : { وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِن العالمين } أي : من المنّ والسلوى ، والحجر والغمام ، وكثرة الأنبياء ، وكثرة الملوك ، وغير ذلك . والمراد عالمي زمانهم . وقيل إن الخطاب ها هنا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو عدول عن الظاهر لغير موجب ، والصواب ما ذهب إليه جمهور المفسرين ، من أنه من كلام موسى لقومه ، وخاطبهم بهذا الخطاب توطئة وتمهيداً لما بعده من أمره لهم بدخول الأرض المقدّسة .

/خ26